الإجازة بمعنى التجويز والتسويغ
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قد يستعمل لفظ الإجازة ويراد به معنى التجويز أو التسويغ، كما في قولنا: أجاز الشارع العمل الكذائي، أو أجاز
الفقيه ذلك التصرّف، في قبال المنع عن الشيء تكليفاً. وقد يقع البحث في تسويغ الشارع بعض الأعمال المحظورة، و
أثر هذا التسويغ وحدوده وشرائطه. كما قد يقع البحث أحياناً في حكم تجويز
أهل الخبرة من ذوي المهن والحرف لبعض المحظورات، أو مخالفة بعض التكاليف الشرعية وموقف المكلف منها، كالطبيب مثلًا يسوّغ للمريض
الإفطار في
شهر رمضان .
من المسلّم أنّ الشارع لا يجوّز ارتكاب المعاصي بلا مبرر أو ضرورة؛ لأنّ ذلك ينافي حكمة التشريع والنظام، كما أنّها بتجويزها هكذا تخرج عن كونها معاص ومحرمات.
نعم هناك بعض الموارد سوّغ الشارع فيها للمكلّف ارتكاب المحرّم، وجوّز له اتيان المحظور لوجود مبررات ومصالح فرضت هذا التسويغ. وسنستعرض لأهم هذه الموارد:
منها: تسويغ عمل محظور لحفظ مصلحة أهم شرعاً، وقد يعبر عنه بالتزاحم بين الأحكام الشرعية ، كتجويز قتل النفوس المحترمة في حال الحرب مع الكفار إذا تترس بهم، حيث سوّغ مشهور الفقهاء قتل المسلمين- والحال هذه- في سبيل الوصول إلى الكفار وقتلهم، ولكن اشترط بعضهم
في هذا التجويز أن تكون الحرب ملتحمة بين المسلمين والكفار، وإلّا فمع انتهائها وتترس الكفار بالمسلمين فلا يجوز قتلهم، وقد اختلفوا في ثبوت
الكفارة بعد نفي القود والدية على أقوال.
منها: تجويز بعض المحرمات في بعض الحالات، كتجويز الكذب لأجل
الإصلاح بين الناس؛ إذ لا شبهة في جواز الكذب للاصلاح بين المتخاصمين في الجملة نصّاً وفتوى. ويمكن
الاستدلال عليه بقوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ»؛
فإنّ
إطلاق الآية يشمل الاصلاح بالكذب أيضاً.
وحينئذ تكون الآية معارضة لعموم ما دلّ على حرمة الكذب بالعموم من وجه، وبعد التساوي في مادة
الاجتماع (الكذب للاصلاح) يرجع إلى
البراءة ، أو إلى عموم «المصلح ليس بكذاب»،
فإنّه ينفي الكذب عن المصالح بالحكومة.
وتفصيل الكلام في محلّه .
منها: تظلم المظلوم، حيث اتفق فقهاء المسلمين على تجويز الغيبة عند تظلم المظلوم واظهار ما أصابه من الظالم وإن كان متستراً في ظلمه إيّاه. ويدل عليه قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»،
وقد ثبت من الخارج أنّ الغيبة من الجهر بالسوء، فإنّها
إظهار ما ستره اللَّه من العيوب الموجبة لهتك القول فيه. وقد قيّد البعض
هذا التجويز في المقام بما إذا كان التظلم عند من يرجو منه
إزالة الظلم.
ومنها: المتجاهر بالفسق؛ فإنّه يجوز اغتيابه بلا خلاف عند الفقهاء، واستدل عليه بجملة من الروايات ناقش البعض فيها سنداً ودلالة،
وجعل المتجاهر بالفسق خارجاً عن حدود حرمة الغيبة تخصصاً وموضوعاً؛ لأنّه قد كشف شرّه بنفسه قبل أن يكشفه الغير.
وقد ذكر البعض شروطاً وحدوداً لهذا الحكم تراجع في موضعها.
قال
السيد الخوئي : «والموارد التي ذكرت في تجويز الغيبة يمكن إدراجها في ثلاثة عناوين:
۱- ما كان خارجاً عنها موضوعاً، كذكر المتجاهر بالفسق- إذا خصصنا الجواز بذكر ما تجاهر فيه من المعاصي- كما تقدم، ومن هذا القبيل ذكر الأشخاص بالأوصاف الظاهرة كالأحول و
الأعرج ونحوهما حيث أنّ ذكر الامور الظاهرة ليست من الغيبة.
۲- أن تكون في الغيبة مصلحة تزاحم المفسدة في تركها، كما إذا توقف حفظ النفس المحترمة أو الأموال الخطيرة أو صيانة العرض عن الخيانة على الغيبة، وهنا لا بدّ من ملاحظة قواعد التزاحم والعمل على طبق أقوى الملاكين.
۳- ما كان خارجاً عن الغيبة بالتخصص، وهو على قسمين:
الأوّل: أن يكون الخروج بدليل مختص بالغيبة كتظلم المظلوم.
الثاني: أن يكون الخروج بدليل عام جار في أبواب
الفقه ولا يختص بالغيبة فقط، كأدلّة نفي الحرج والضرر. هذا كلّه بحسب الكبرى.
وأمّا بحسب الصغرى فقد ذكروا لها موارد عديدة: منها: نصح المستشير مع
الاغتياب في مواضع
الاستفتاء ...، وردع المقول فيه عن المنكر... ولحسم مادة الفساد، كاغتياب المبدع في الدين...، جرح الشهود...، ولدفع الضرر عن المقول فيه...».
ومنها: تسويغه لإتيان المحرّم حال الاضطرار و
الإكراه والتقية.
وهذه العناوين الطارئة تكون مبيحة ورافعة للحرمة كما أنّها ترفع الوجوب و
الأمر أيضاً، إلّا إذا كان الواجب أو المحرّم بدرجة عظيمة من
الأهمية التي لا يرضى الشارع بمخالفته حتى في مثل هذه الحالات، كقتل
المسلم ؛ فإنّه ورد أنّه لا تقيّة في الدماء، وحفظ بيضة الدين وغير ذلك.
ومن هذه الموارد تجويز التصرّف في مال الغير لأجل حفظه أو ضمان قيمته لمالكه.
استفاضت الأخبار
المجوّزة للكذب في موارد الخوف والتقية، وعلى جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن النفس أو
الأخ المؤمن.
وكذلك أجاز الشارع انكار
الإيمان باللسان تقية كما في قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»،
وقوله تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً»،
ودلالتها واضحة في تجويز الكذب و
إنكار الايمان في موارد الخوف والتقية.
من الموارد التي سوّغ الشارع فيها المحظور هو تناول
الأطعمة والأشربة المحرمة، أو ما كان منها ملكاً للغير حال
الاضطرار إليها بلا خلاف.
وقد عرّف الاضطرار بخوف التلف مع عدم التناول،
وذهب جمع من فقهائنا
إلى تحققه بغير ذلك أيضاً، كما لو خاف المرض بالترك، بل استظهر بعض
تحققه بالخوف على نفس غيره المحترمة كالحامل تخاف على الجنين والمرضع على الطفل.، وبالاكراه، وبالتقية الحاصلة بالخوف على اتلاف نفسه أو نفس محترمة، أو عرضه، أو عرض محترم، أو ماله، أو مال محترم يجب عليه حفظه، أو غير ذلك من الضرر الذي لا يتحمّل عادة.
وقد ذكر الفقهاء شروطاً للأكل حال الاضطرار وأحكاماً خاصة بها، وقيّد بعضهم التجويز بغير الخمر، وكذا الأمر في شرائط
الأكل من مال الغير.
لا شبهة في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم، بل عدت من الكبائر وتواترت الأدلّة على حرمة ذلك،
كما أنّ ظاهر كثير من الأخبار حرمتها في غير المحرمات أيضاً، إلّا أنّ المشهور قيّد المعونة المحرّمة بكونها في الظلم.
إلّا أنّ الشارع المقدّس قد سوّغ الدخول في ولاية الجائر مع الإكراه والاضطرار، بلا خلاف في ذلك، بل ادعي عليه
الإجماع ،
فتجوز الولاية للمكره عليها لدفع الضرر الكثير كالنفس أو المال الكثير أو الخوف على المؤمنين. ويدل على ذلك جملة من الروايات الخاصّة الواردة في هذا الشأن.
كما أنّه لا شبهة في أنّ الاكراه على ولاية الجائر يسوّغ أيضاً العمل بما يأمره الجائر من المحرمات ما عدا
إهراق الدماء، مقدماً للأسهل فالأسهل مع عدم القدرة على التفصّي والتخلص من ذلك.
ويظهر مما تقدم في تسويغ قبول الولاية من الجائر مع الاكراه حكم تولي القضاء حيث اتفق الفقهاء على تجويز تولي المؤمن- وإن لم يكن قد بلغ رتبة
الاجتهاد - القضاء و
إقامة الحدود مع إجبار الجائر له؛ دفعاً للضرر، وإن قيّدوه بلزوم
اعتماد الحق والعمل به ما تمكن.
هذا وهناك موارد متعددة سوّغ الشارع فيها للمكلف أن يأتي بالواجبات مع عدم توفر بعض شرائطها عند عدم التمكن منها كما في صلاة العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود أو
الاستقبال للقبلة.
أو تسويغه
الإفاضة ليلًا من المزدلفة والرمي ليلًا في الحج للشيوخ والضعفاء والمرضى والنساء والصبيان.
وهناك موارد سوّغ فيها للمكلف التصرف بمال الغير وإن لم يحرز رضاه، كما في تصرّف الملتقط بمال اللقطة بعد التعريف واليأس من مالكها. وأخذ الضالّة كذلك، وتجويز التصرّف بالأموال المنتقلة إلينا، والتي هي بحكم مجهول المالك كأموال البنوك مثلًا.
ويراجع تفصيل كل مورد في محلّه ضمن مصطلحات الموسوعة.
قد يكون التجويز والتسويغ أحياناً من
أهل الخبرة من ذوي المهن والحرف، كما لو أوصى أو أمر الطبيب المريض بعدم الصيام والإفطار في شهر رمضان، أو عالجه بالمحرّم وأمره بتناوله، فهنا يقع التساؤل حول حكم المكلّف في المقام، علّق بعضهم الحكم بحصول الظن بقول الطبيب، قال
المحقق النراقي : «لو علم الطبيب بانحصار العلاج في المحرم وأخبر به المريض ولم يحصل له ظن بقوله؛ لعدم معرفته بحاله، فلا يجوز للمريض التناول بنفسه...».
وقال
السيد اليزدي : «إذا حكم الطبيب بأنّ الصوم مضرّ وعلم المكلف من نفسه عدم الضرر يصح صومه، وإذا حكم بعدم ضرره وعلم المكلف أو ظنّ كونه مضرّاً وجب عليه تركه ولا يصح منه».
وقد علّق
السيد الحكيم على الحكم الأوّل بقوله: «لا دليل على حجّية قول الطبيب مطلقاً حتى لو ظنّ بخطئه، فضلًا عمّا لو علم بخطئه، بل الحجّية حينئذ ممتنعة، وعليه يتعيّن عليه وجوب الصوم».
وقال السيد الخوئي: «قول الطبيب إذا كان يوجب الظن بالضرر أو خوفه وجب لأجله الافطار، وكذلك إذا كان حاذقاً وثقة، إذا لم يكن المكلّف مطمئناً بخطئه، ولا يجوز الافطار بقوله في غير هاتين الصورتين، وإذا قال الطبيب لا ضرر في الصوم وكان المكلف خائفاً وجب الافطار».
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۱۲۸- ۱۳۳.