الإحسان (قاعدته)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الإحسان (توضيح).
إذا حصل
ضرر أو
خسارة من ناحية
الإحسان فلا إشكال في
سقوط الحكم التكليفي به، فلا يتوجّه إلى
المحسن عقاب، ولم يرتكب محرّماً. وإنّما
الإشكال في
الحكم الوضعي - أي الضمان- فقد وقع
الخلاف بين
الفقهاء في أنّه هل يرتفع
الضمان به أيضاً أم لا؟
تمسّك الفقهاء بقاعدة الإحسان في مواضع كثيرة
كالوديعة ، فإنّه لو أودع شخص عند آخر وديعة وخشي عليها
المودع عنده من التلف فنقلها إلى مكان
حريز يأمن عليها فيه، فصرف على نقلها مالًا، فإنّه يستحقّ
الرجوع به على المالك وإن لم يأذن له فيه؛ لأنّه محسن، بل يمكن القول بأنّ له حقّ سعيه وعمله؛ لأنّ عمل المسلم
محترم إن لم يقصد
التبرّع .
ولو توجّه خسران في هذه العمليّة إلى مال
المودع لا يتوجّه ضمان إلى الودعي، شريطة أن لا يكون بتفريط منه. فلا بدّ من
التعرّض لدليل القاعدة ومفادها وحدودها ضمن النقاط التالية:
استدلّ لقاعدة الإحسان بامور:
وهو قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى
الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ • وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ• إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
وهي واردة في قعود العاجزين عن
الجهاد ؛ لعدم
استطاعتهم من تحصيل الزاد و
الراحلة للسفر مع
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى
غزوة تبوك - حسب ما جاء في شأن نزول الآيات
- فهؤلاء لا
سبيل عليهم، أي لا يتوجّه إليهم
عقاب و
عذاب من اللَّه تعالى، ولا
عتاب من قبل
المجاهدين على تخلّفهم، شريطة أن يقوموا بالنصح للَّه ولرسوله، إلّا أنّ المورد لا يوجب
اختصاص الآية به ما دام مدلولها عامّاً، حيث انّ المناط في
الاستدلال بحسب
المتفاهم عرفاً هو العموم من غير
التفات إلى المورد.
نعم، لابدّ وأن يكون العموم شاملًا للمورد وإلّا يلزم
التخصيص المستهجن ، وقد استفادوا العموم من
صياغة الآية الكريمة؛ لأنّ
المقطع الذي استدلّ به هو قوله تعالى: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» يعطي كبرى كلّية،
فبالإضافة إلى شمولها للمورد تشمل جميع ما صدق عليه العنوان، وذلك لأنّ كلمة «الْمُحْسِنِينَ» جمع معرّف باللام، وهو يفيد العموم
الاستغراقي، كما ثبت في محلّه، وكلمة «سَبِيلٍ» نكرة واقعة في سياق النفي، وهي بهذه
الصياغة سيقت للدلالة على نفي الطبيعة، و
انتفاء الطبيعة يتوقّف على انتفاء جميع مصاديقها خارجاً، وكلمة «عَلَى» دالّة على الضرر، فيكون معنى الآية: أنّ كلّ سبيل يوجب ضرراً على فرد من أفراد المحسنين فهو منفيّ.
والسبيل جاء بمعنى السبّ، و
الشتم ، والجرح، و
الحجة ، والطريق، والظاهر أنّه في الآية بمعنى الحجة، أي
المؤاخذة ، فليس على المحسن مؤاخذة فيما تسبّب عن إحسانه. ولا شكّ في أنّ الضمان سبيل بأيّ معنى كان من المعاني المتقدّمة، فتدلّ الآية على أنّ الفعل الذي صدر من المحسن وإن كان في حدّ نفسه سبباً للضمان ولكن إذا صدق عليه الإحسان فلا يوجب الضمان.
وبناءً على هذا لو أنّ طبيباً أو شخصاً آوى إنساناً مريضاً أو جائعاً أو حيواناً كذلك ليداوي مرضه أو يسدّ جوعه فتلف
اتّفاقاً بغير تفريط منه لم يكن ضامناً، ولا سبيل عليه؛ لأنّه محسن.
ولو قيل: إنّ غاية ما يستفاد من الآية عدم جعل سبيل على المحسنين من جانب الشرع
ابتداءً، وأمّا لو فتح المحسن السبيل على نفسه
بإتلاف أو وضع يد أو نحو ذلك فأيّ مانع من الضمان؟ نظير ما ذكر في نفي سبيل الكافر على
المسلم . فإنّه يقال: فرق بين المقامين، فإنّ الآية هناك قد دلّت على أنّ اللَّه لم يجعل سبيلًا لكافر على مسلم، وهنا قد دلّت على عدم السبيل من
أصله ، فالمحسن لا سبيل عليه مطلقاً. نعم، لمّا كان نفي السبيل معلّقاً على وصف الإحسان فالمستفاد منه عدم ثبوت السبيل في محلّ الإحسان ومن حيثيّته بخلاف الحيثيّات الاخر. فيكون المراد أنّ في محلّ الإحسان لا ضمان على المحسن وإن كان الضمان عليه من جهات اخر.
كما تقدّم
تقريب الاستدلال به تفصيلًا- فإنّه قاضٍ بعدم السبيل على المحسن، وقبح مؤاخذته. وقد يقال: إنّ هذه الآية الكريمة قد سيقت مساق حكم العقل، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ»،
فإنّ ظاهره امتناع السبيل على المحسن، بل ينبغي أن يكون جزاء عمله الإحسان إليه، فلا يكون قابلًا للاختصاص بفرد دون آخر.
ويمكن تقريب
الدليل العقلي بصياغة اخرى، وهي:
التركيز على جانب أنّ الإحسان من الامور الفطريّة، والإنسان بفطرته يدرك حسنه، ويدرك أن لا يكافأ المحسن إلّا بالإحسان، ويدرك أنّ
الإساءة إليه
أمر قبيح؛ وذلك لأجل أنّه يرى المحسن منعماً، وشكر
المنعم ثابت بالفطرة، ومن
البديهي أنّ
تغريم المحسن وتضمينه فيما أحسن كفران لما أنعم عليه،
وإساءة إليه فيكون قبيحاً عقلًا.
وهذا الاستدلال غير تام؛ لأنّه وقع فيه
الخلط بين حسن الإحسان و
استحقاق المدح والثناء وقبح الإساءة في مقابله، وبين عدم الضمان لما أتلفه المحسن بفعله، فإنّه لا
منافاة بين الأمرين في نظر العقل أصلًا، ولا يعتبر ذلك إساءةً من قبل المحسَن إليه، خصوصاً وأنّ الحكم بالضمان إنّما يكون من قبل الشارع بمقتضى عموم قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن»، والشارع
باعتباره مولى المحسِن والمحسَن له يحقّ له جعل الضمان، فالاستدلال بحكم العقل في مثل هذه الأحكام الشرعيّة الوضعيّة في غير محلّه.
نعم يمكن
إرجاع الدليل العقلي إلى الدليل العقلائي، بدعوى
انعقاد سيرة العقلاء وبنائهم على نفي الضمان عن المحسن في حدود ما لابدّ وأن يحصل بسبب الإحسان. وهذه السيرة لم يرد ردع عنها، بل قد يقال: إنّها سيرة المتشرّعة أيضاً، فتكون كاشفة ابتداءً عن الحكم الشرعي. إلّا أنّه لابدّ وأن يقتصر في حجّيته على
القدر المتيقّن ، فكلّما شكّ في الضمان وعدمه في مورد من موارد الإحسان أو لجهة من الجهات لم يمكن
التمسّك بهذا الدليل لنفي الضمان فيه، بل يكون مقتضى قاعدة الإتلاف ثبوت الضمان، بل عدم جواز التصرّف المتلِف تكليفاً أيضاً.
فقد ادّعي على ثبوت هذه القاعدة، كما يظهر من تتبّع كلماتهم وفتاويهم، فإنّهم يستدلّون بها في موارد كثيرة،
فتراهم يسندون عدم الضمان إليها في كتب
الأمانات و
اللقطة والضالّة والديات- كما يأتي أمثلتها- عند تلفها بغير
تفريط منه.
قال
المراغي : «الظاهر من تتبّع كلمات
الأصحاب أيضاً
إجماعهم على أنّ المحسن لا يضمن، كما هو مدلول الآية».
ولكن اورد عليه: بأنّ الظاهر عدم اتّصافه
بالأصالة و
الكاشفيّة عن رأي
المعصوم عليه السلام، بل
استناده إلى الآية الشريفة كما يصرّحون به كثيراً، ويؤيّده
تعبيراتهم المقتبسة من الآية من الإحسان والسبيل وغيرهما.
فالنتيجة أنّ الإجماع لا يكون دليلًا برأسه في مقابل الآية وحكم العقل.
إنّ مفاد القاعدة- بحسب المتفاهم عرفاً- أمران: الأوّل: جواز التصرّف في مال الغير أو نفسه
بلا
إذنه إذا كان مصداقاً للإحسان. الثاني: نفي الضمان فيما يحصل بسبب ذلك.
وكلا
الأثرين إنّما يكون فيما إذا كان الإحسان لازماً بحيث يترتّب عليه غرض مهم شرعاً أو عقلًا، كحفظ النفس والمال عن
الهلكة ، فإنّه حينئذٍ لا ضمان حتّى إذا سبّب الإحسان إتلاف المال، فينتفي ضمان الإتلاف فضلًا عن ضمان التلف. وأمّا إذا لم يكن هناك غرض مهمّ لازم ولكن رخّص الشارع فيه بحيث كان وضع اليد على مال الغير أو نفسه مأذوناً فيه شرعاً واليد أمانيّة، كما في اللقطة ومجهول المالك، فيرتفع ضمان التلف دون الإتلاف.
وأمّا مع عدم وجود غرض شرعي أو عقلي مهمّ ولازم ولا
ترخيص وإذن شرعي فقد وقع
الإشكال عند الفقهاء في
كفاية مجرّد الإحسان في حقّ الغير
لتجويز التصرّف تكليفاً، فضلًا عن عدم الضمان وضعاً إذا تلف في يد المحسن أو أتلفه بفعله، فيظهر من جماعة الحكم بضمان المحسن في هذه الحالة،
ويظهر من آخرين عدم الضمان.
وسيأتي تفصيله في شرائط القاعدة.
وفيه بحثان:
لا إشكال في أنّ
موضوع القاعدة هو الإحسان، ولكنّ الفقهاء اختلفوا في أنّ مفهوم الإحسان هل هو مجرّد القصد إليه و
اعتقاد كون عمله إحساناً وإن لم يكن في الواقع كذلك، بل وإن كان
إساءة في الواقع؟ أو يعتبر الواقع، بأن يكون العمل بحسب الواقع دفع مضرّة ومنعها وإن لم يقصد الإحسان به، بل وإن قصد الإساءة؟
أو يعتبر الأمران معاً، فلا يتحقّق الإحسان إلّا بعد كونه بحسب الواقع كذلك، وكان اعتقاده مطابقاً للواقع أيضاً، فلو سقى الدابّة بلحاظ كونها عطشى وكانت في الواقع كذلك يكون هذا
السقي متّصفاً بالإحسان، فلو تلفت الدابّة في حال السقي لا يكون
الساقي ضامناً، وهذا بخلاف ما لو اختلّ أحد الأمرين من الواقع والاعتقاد؟ فيه وجوه و
احتمالات :
يبدو من
السيد المراغي اختيار اعتبار الأمرين، فاستظهر أنّ مصادفة الواقع وقصد الإحسان كليهما شرط في صدق اللفظ عرفاً، ومجرّد الاعتقاد بأنّه إحسان غير كافٍ، بل لا بدّ من كونه في الواقع دافعاً للضرر؛ لأنّه
المتبادر من لفظ الإحسان،
غاية الأمر أنّه مع عدم المصادفة ربّما يكون معذوراً، ولا يعدّ محسناً،
فمن أراد دفع شرّ متوجّه إلى الآخر أو
إيصال خير إليه ولم يتمكّن يصدق أنّه نوى الإحسان، ولا يقال: إنّه محسن بالنسبة إليه.
وعلى هذا، فبعد تحقّق الإحسان إن اتّفق التلف بفعل المحسن- بمعنى عدم مصادفة فعله
المصلحة الواقعيّة- يجيء الضمان من جهة
الكشف عن عدم الإحسان، وإن اتّفق التلف
بآفة سماويّة أو بسبب آخر فلا ضمان على المحسن وإن كان بيده ما لم يقصر في الدفع أو الإيصال إلى صاحبه، أو
إعلامه بالأخذ.
إنّ
المعتبر في مفهوم الإحسان مجرّد القصد إليه واعتقاد كون عمله إحساناً وإن لم يكن في الواقع كذلك،
كما يفهم من كلام
الاصفهاني .
ويلوح من كلام
الإمام الخميني أيضاً، فإنّه قال: «إنّ نفي السبيل عن المحسن هل يختصّ بمن كان محسناً فعلًا وفاعلًا، أو بمن كان محسناً فعلًا، أو بمن كان محسناً فاعلًا وإن لم يكن كذلك واقعاً، فمن أخذ ضالّة ليردّها إلى شخص بتخيّل أنّه صاحبها وكان غيره لم يضمن على
الأخير دون غيره، ومن أخذها ليردّها إلى شخص بتخيّل أنّه غير صاحبها وكان صاحبها فتلف قبل الردّ لم يضمن على الثاني، مقتضى
الاشتقاق وإن كان الاختصاص بالثاني، لكن مقتضى المناسبة بين الحكم والموضوع الاختصاص بالثالث».
ويبدو من
السيد البجنوردي أنّ المدار على الإحسان الواقعي وإن لم يقصد به الإحسان؛ نظراً إلى أنّ الظاهر من العناوين والمفاهيم- التي اخذت موضوعاً للحكم- هو واقعها والمعنى الحقيقي لها، إلّا أن يكون المتفاهم العرفي معنى آخر غير المعنى الحقيقي، ولا شكّ في أنّ العرف لا يفهم من لفظ (الإحسان) غير ما هو المعنى الحقيقي له.
ولوحظ عليه بأنّ الظاهر من العناوين وإن كان هو المعنى الحقيقي لها، إلّا أنّ
البحث في ذلك المعنى الحقيقي وأنّه هل يعتبر فيه القصد والاعتقاد كالعناوين القصدية التي تكون معانيها الحقيقية متقومة بالقصد، أو أنّه يعتبر فيه واقع دفع المضرة ومنعها وإن لم يكن مقصوداً، بل ولا معتقداً به بوجه، أو يعتبر فيه كلا الأمرين؟ الظاهر بحسب نظر العرف هو اعتبار كلا الأمرين؛ لأنّ العرف لا يرى غير القاصد للإحسان محسناً بمجرّد مصادفة الواقع، ومن هنا لو سقى
عطشاناً وأصاب الواقع بعمله إلّا أنّه لم يقصد به الإحسان، لا يعدّ عند العرف محسناً.
يبدو من ظاهر عدّة من الفقهاء أنّه لا مجال
للتشكيك في شمول الإحسان لإيصال النفع إلى الغير أو دفع المضرّة عنه؛
وذلك
للتبادر ، وعدم صحّة السلب، وإن كان لفظ الإحسان يومئ إلى نوع من
الإيجاد ، ومنع المضرّة ليس فيه ذلك. لكنّ الظاهر أنّه لا يصحّ سلبه، والقدر
المشترك متبادر منه،
بل ربّما يكون صدق الإحسان على دفع المضرّة في بعض المصاديق والموارد أولى بنظر العرف من صدقه على جلب المنفعة، خصوصاً إذا كان دفع الضرر لحفظ النفس عن الهلاك فأيّ إحسان أعظم من ذلك؟!.
بل نسب إلى
الوحيد البهبهاني أنّه يرى اختصاص قاعدة الإحسان بصورة دفع المضرّة، فلا تشمل صور جلب
المنفعة .
ولوحظ عليه: بأنّ ذلك لا ينطبق على قاعدة اللفظ؛ نظراً إلى أنّ صدق لفظ الإحسان على
إيصال النفع أوضح من صدقه على دفع المضرّة فلا وجه للتخصيص بالثاني، ولا أقلّ من
التساوي .
إلّا أن يقال: إنّ الظاهر أنّه ليس ذلك من جهة عدم شمول اللفظ، بل من جهة
استقراء الموارد، فإنّ المواضع التي ذكرت للإحسان بمعنى جلب النفع كلّها محلّ نظر في
ارتفاع الضمان- كأخذ المال
للاسترباح أو
الاستئجار ونحو ذلك- حتّى يحصل النفع للمالك، أو نقل متاعه إلى مكان آخر ليباع بالثمن الأوفى، أو أخذ
الدواب إلى المرعى، ونحو ذلك. بل الظاهر أنّ
الفتوى فيها بالضمان، فلا بدّ إمّا من ذكر دليل يخصّص قاعدة الإحسان، والظاهر أنّه منتفٍ؛ إذ لم نجد دليلًا وارداً على قاعدة الإحسان، بل الظاهر أنّه كالدليل العقلي غير قابل للتخصيص، وإمّا من دعوى أنّه غير داخل في الإحسان بالمرّة، وهي مشكلة.
ويمكن أن يقال: إنّ وضع اليد على مال الغير إنّما يكون إحساناً في صورة دفع المضرّة، وأمّا في صورة جلب المنفعة فليس إثبات اليد جلب نفع بل إيصال النفع إنّما هو بشيء آخر، فيتعلّق الضمان
بإثبات اليد ، ولا ينفع بعد ذلك الإحسان المتأخّر.
هل يشترط في جريان القاعدة أن يكون وضع اليد جائزاً؟ قد يظهر من بعض الفقهاء
اشتراط ذلك؛ نظراً إلى أنّ العناوين القبيحة أو المحرّمة شرعاً لا يتغيّر حكمها بعروض عنوان حسن غير لزومي،
ومن البيّن أنّ وضع اليد على مال الغير بدون إذنه ورضاه محرّم وظلم عليه، فمجرّد داعي الإيصال لا يرفع قبحه، ولذا لو لم يكن دليل على جواز الالتقاط لم يكن
الالتقاط بقاعدة الإحسان جائزاً، ولو أخذها في موضع عدم جواز الأخذ لا يرتفع الضمان بقصد الردّ إلى المالك.
وهذا معناه أنّه لابدّ وأن يكون موجب الإحسان أمراً لزوميّاً، وضرورة مهمّة لازمة شرعاً أو عقلًا، فينتفي الضمان حتّى لو استند التلف إلى فعل الإحسان، أو يكون هناك
ترخيص و
إذن شرعي في وضع اليد والتصرّف، فينتفي ضمان التلف دون
الإتلاف . هذا، ولكن لا يبعد أن يقال: إنّ القاعدة أوسع من موارد عروض عنوان حسن لزومي شرعاً أو عقلًا، بل يعمّ موارد كون المال في معرض التلف كلّاً أو بعضاً ممّا يقدم
العقلاء فيه على الحفظ، فإنّه في مثل ذلك لا وجوب على الغير شرعاً ولا عقلًا لحفظ المال، إلّا أنّ العقلاء يقدمون فيه على الحفظ، وهذا إن لم يكشف عن مثل إذن
الفحوى العرفيّة من قبل
المالك فلا أقلّ من أنّه عند العقلاء يجوّز التصرّف ويخرج وضع اليد عليه من أجل حفظه لمالكه عن كون اليد يداً عاديّة ضامنة، بل قد يتوسّع ويدّعى أنّ العقلاء يرون
انتفاء مطلق الضمان حتى الإتلاف إذا لم يكن عن
تقصير .
هل يشترط فيها عدم سبق
العدوان ؟قد يظهر من مراجعة كلمات جماعة من الفقهاء بما فيهم
صاحب الجواهر و
الشيخ الأنصاري في مواضع مختلفة- كمسألة
جوائز السلطان وباب
الوديعة و
العارية - أنّ الإحسان اللاحق لا يرفع الضمان الحاصل بالعدوان على مال الغير، فلو أخذ مالًا من السلطان الجائر لا بنيّة الردّ إلى مالكه الذي يعرفه ثمّ قصد الردّ إليه فإنّه ضامن للمال، ولا ينفع قصده بعد ذلك لرفع الضمان.
وفي باب الوديعة والعارية إذا تعدّى أو فرّط ثمّ عاد إلى
الأمانة فإنّه يبقى الضمان. وكذا في نظائر المسألة، كما إذا كانت العين في يده على وجه الضمان من غصب أو قبض
بالسوم أو نحو ذلك ثمّ رهنها المالك عنده فإنّه يبقى الضمان؛
نظراً إلى أنّ وضع اليد على مال الغير بقصد التملّك علّة لحدوث الضمان وبقائه، سواءً تبدّلت بعد ذلك بيد الأمانة أم لا؛ لأنّ ضمان اليد لا يرتفع إلّا بحصول غايته، وهي الأداء، فما لم تتحقّق
الغاية لم يسقط الضمان، وعليه فكون اليد الفعليّة الحادثة يد أمانة لا تزاحم اليد السابقة المقتضية للضمان بقاءً، فإنّ يد
الأمين لا تقتضي الضمان، لا أنّها تقتضي عدم الضمان، ومن البديهي أنّ ما لا
اقتضاء له لا يزاحم ما له الاقتضاء.
وقد يلاحظ على
التعليل بأنّه لو كان ملاك ثبوت الضمان هنا هو عدم تزاحم اللااقتضاء لما له الاقتضاء فلازمه ثبوت الضمان حتّى إذا كان محسناً من أوّل
الأمر .
هذا، وحاول
السيّد اليزدي أن يثبت أنّ الضمان يرتفع إذا انقلبت نيّة الآخذ من التملّك لنفسه إلى الردّ والحفظ لمالكه؛ وذلك لدخوله عندئذٍ تحت عنوان الإحسان الموجب لعدم الضمان المخصّص لعموم «على اليد» في
الابتداء والأثناء؛ إذ اليد إذا انقلبت من العدوان و
الخيانة إلى الإحسان والأمانة ينقلب الحكم أيضاً، حيث إنّ مقتضى عموم (ما على المحسنين) ونحوه من أدلّة الأمانات
اختصاص ضمان اليد باليد العدوانيّة بالفعل، ومن المعلوم أنّها بالفعل ليست عدوانيّة؛ لانقلابها من اليد العدوانيّة إلى اليد الأمانيّة من جهة ورود المخصّص الذي هو عموم قاعدة الإحسان ونحوه.
فلا يتوجه علينا ما يمكن أن يقال: إنّ غاية رفع الضمان هي الأداء، ولم يتحقّق، فالضمان باقٍ على حاله؛ إذ نحن نسلّم ذلك، إلّا أنّ الذي نقوله: هو أنّه بحصول
الانقلاب قد تبدّل الموضوع وبتبعه يتبدّل الحكم لا محالة، وهذا بالفعل حاصل في المقام.
ولازم ما ذكر أنّه لو تاب
الغاصب وأراد ردّ العين إلى مالكها أن تصير في يده
أمانة شرعيّة ، ويخرج عن الضمان، ويمكن
الالتزام به إن لم يكن
إجماع أو دليل آخر.
ولوحظ عليه: بأنّ مقتضى دليل الإحسان هو
نفي السبيل عن المحسن بما هو محسن، لا نفيه ولو عمّا يقتضي إساءته أو غير إحسانه، ومقتضى دليل اليد أنّ حدوثها على الشيء موجب للضمان
مستمرّاً إلى زمان
التعدية ، فموجب الضمان حدوث اليد الغير الإحساني فقط، وليس
للاستيلاء الإحساني
أثر في الضمان حتّى يرفع بدليل الإحسان. وبعبارة اخرى: أنّ الموجب للضمان، اليد العدواني وهي غير مرفوعة بدليل الإحسان، وما صدر عنه إحساناً ليس موجباً للضمان حتّى يرفع.
ثمّ إنّه لو أخذ المال ابتداءً على جهة الإحسان ثمّ قصد التملّك لنفسه ثمّ رجع عن قصده فهل يكون ضامناً حينما قصد ذلك وبعده أم لا؟ يظهر من صاحب الجواهر
التفصيل بين ما لو كان ناوياً للتملّك- بمعنى
إنشاء الملكيّة غصباً- فتنقلب اليد فيضمن، وبين ما لو كان من نيّته أن ينتفع بالوديعة بعد ذلك فتاب قبل أن يتصرّف، فلا ضمان.
واختار السيّد اليزدي انقلاب اليد حيث قال: «الحقّ أنّه تنقلب اليد ضمانيّة مطلقاً، وإذا عاد تعود على
المختار ، ولا على مختاره».
هناك موارد تمسّك الفقهاء فيها بالقاعدة لرفع الحكم التكليفي أو لرفع الضمان عن المحسن، وهي على قسمين:
فقالوا إنّ المحسن لا يكون ضامناً للضرر شريطة أن يكون الضرر الوارد عليه أقلّ من الضرر الذي يدفعه عنه لو كان الضرران ماليّين، أو كان مساوياً له من الناحية الماليّة، إلّا أنّ هناك جهة اخرى بها يوجّه الضرر الوارد عليه، وإلّا يكون لغواً، بل إساءة عليه،
والموارد التي من هذا القبيل كثيرة جدّاً، منها ما يلي:
۱- فيما لو اشتعلت النار في ثيابه وتوقّف حفظه ونجاته على
تمزيقها وإتلافها.
۲- فيما لو اشتعلت النار في محلّ كسبه ودكّانه وتوقّف حفظ أجناسه الغالية القيّمة على هدم قسم من حائط
الدكّان وخرابه، أو تخلية الدكّان مع
إتلاف مقدار من
البضاعة .
۳- فيما لو أشرف
شخص على
الغرق وتوقّف
انقاذه على إتلاف بعض أمتعته.
۴- فيما لو أشرفت
السفينة على الغرق وتوقّف
نجاة الركّاب على إلقاء ما فيها من
الأمتعة في
البحر .
۵- فيما لو توقّف
انحراف السيل المتوجّه إلى
المدينة أو
القرية إلى جعل سدّ من أموال
أهل المدينة والقرية.
۶- توقف حياة الطفل على
إجراء عمليّة جراحية للُامّ. وغير ذلك من الموارد التي يتمسّك فيها بقاعدة الإحسان لرفع الضمان عمّن أقدم على
إيراد الضرر على
الغير بقصد الإحسان إليه.
وقد يلاحظ: أنّ عدم الضمان في هذه الموارد إنّما يكون لثبوت
الإذن فيها من ناحية الشارع، بل يجب
الإقدام في بعض هذه الموارد، كما في موارد
حفظ النفس ، فمع الإذن أو
الإيجاب لا معنى لثبوت الضمان ولو لم يكن هناك قاعدة الإحسان، فعدم ثبوت الضمان لا يكون
مستنداً إلى القاعدة، بل إلى قصور دليل الضمان عن الشمول له.
إلّا أن يقال: إنّ عدم الشمول إنّما هو بلحاظ قاعدة الضمان؛ إذ أنّها قاصرة عن
إفادة الضمان في اليد المأذونة من قبل المالك أو الشارع. وأمّا بلحاظ
قاعدة الإتلاف فلا مانع من الشمول والدلالة على الضمان وإن كانت اليد مأذونة. نعم، إذا كان الاتلاف مأذوناً فيه فالظاهر عدم شمول قاعدة الاتلاف، لكن الظاهر أنّ الإتلاف الخارج عن القاعدة هو الإتلاف
المأذون فيه بعنوانه، كما إذا أذن المالك في الإتلاف. وأمّا الموارد المتقدّمة فليس عنوان الإتلاف مأذوناً فيه ولو من قبل الشارع؛ فإنّ الشارع إنّما أوجب حفظ النفس مثلًا وتوقّف حفظ النفس على تمزيق
اللباس يوجب عدم
اتّصافه بالحرمة مع
الانحصار ؛ لأنّه لا تجتمع
حرمة المقدّمة المنحصرة مع وجوب ذيها. أمّا كون المقدّمة مأذوناً فيها من قبل الشارع فلا، إلّا أن يقال: نفس عدم الحرمة كافٍ في الخروج عن القاعدة، ولكنّه يندفع: بأنّ الشارع أوجب حفظ النفس ومع ذلك حكم بالضمان فيما إذا توقّف حفظها على
أكل طعام الغير بدون رضاه.
وأمّا القسم الثاني،
فمصاديقه أيضاً كثيرة جدّاً، مثل الأفعال التي تصدر من
الأولياء كالحاكم و
الأب والجدّ لغرض إيصال النفع إلى المولّى عليه فاتّفق حصول الضرر، نذكر بعضها كما يلي:
۱- ما لو أقدم على حفر
قناة له أو
إصلاح البئر لغرض
ازدياد الماء فصار ذلك سبباً
لانهدام القناة كلّها أو بعضها، فإنّه لا يكون ضامناً.
۲- ما لو أقدم الحاكم على
إعطاء نقود
لأجير ثقة عنده على العبادات- كالصلاة للميّت والحج- مطلقاً فاتّفق أنّه لم يأت بتلك العبادة ومات ولم يترك مالًا، فإنّه لا ضمان على الحاكم؛ لكونه محسناً.
۳- ما لو أقدم الحاكم أو الولي على
إيجار سفن أو زوارق المولى عليه وأمثالها من النواقل،
كالسيّارة ، و
الإبل ، فغرقت
السفينة وهلكت الإبل وتحطّمت السيّارة فلا ضمان عليه.
۴- ما لو أقدم
الشريك بالتجارة على المتاجرة بمال شريكه بقصد
الإحسان إليه فخسر.
۵- ما لو نقل
المتاع إلى مكان آخر للبيع بثمن آخر فتلف.
۶- ما لو أخذ دابّة الغير بغير إذنه وذهب بها إلى
المرعى لكي ترعى فيه فهلكت. ونحو ذلك.
وفي هذا القسم موارد حكموا فيها بالضمان كالثلاثة الأخيرة؛ فإنّه مع كونه محسناً حكموا بالضمان، والفرق بينها وبين ما لم يحكموا فيه بالضمان هو ثبوت الإذن في التصرّف هناك وعدم ثبوته هنا، ولأجله يشكل الحكم بعدم الضمان فيها، استناداً إلى قاعدة الإحسان لعدم الفرق في جريان القاعدة بين الموردين؛ ضرورة أنّه إن كان الإحسان شاملًا لجلب
المنفعة فأيّ فرق بين الموردين؟.
وقد يتوجّه على الفرق بالإذن وعدمه بما التزموا به في
اللقطة ، حيث حكموا فيها بالتصدّق بها عن صاحبها بعد
التعريف سنة فلو ظهر بعد ذلك يضمن له، مع أنّه مأذون ومحسن محض فكيف يكون ضامناً؟! واجيب عنه: بأنّ الشارع حكم بجواز
التصدّق مع الضمان إن ظهر صاحبها، فالتصدّق إحسان مع هذا القيد، فصرف التصدّق بدون هذا القيد لا يكون إحساناً؛ إذ لا يمكن أخذ مال الناس والتصدّق به عنهم استناداً إلى أنّه إحسان.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۲۹-۴۲.