الإختلاف (الفقهي واللغوي)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو نقيض
الاتفاق وأيضابمعنى
التردد و
التعاقب .
الاختلاف- وزان
افتعال - مصدر اختلف، يأتي بمعنيين:
أحدهما:
التعاقب ، وهو
مجيء شيء عَقْب الآخر وبعده
من
الخلف ضدّ قدّام،
ومنه قوله تعالى: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَ
النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي
السَّماواتِ وَ
الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ»
بمعنى تعاقبهما ومجيء أحدهما بعد الآخر.
وقيل: بل هو بمعنى
صيرورة أحدهما خَلَفاً عن الآخر و
بدلًا عنه.
ثانيهما:
المغايرة ،
ومنه قوله تعالى: «وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَ
أَلْوانِكُمْ »
أي
تغايرها وعدم
اتّفاقها ، وقوله أيضاً: «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْبَيِّناتُ »
أي تغايرت
آراؤهم فلم تتّفق.
وذكر أنّ
الخلاف والخُلفة
المخالفة والمضادّة،
لكنّ
المعروف ما تقدّم.
قال
الراغب : «والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كلّ واحدٍ طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، والخلاف أعمّ من الضدّ؛ لأنّ كلّ ضدّين مختلفان، وليس كلّ مختلفين ضدّين، ولمّا كان الاختلاف بين
الناس في القول قد يقتضي
التنازع استعير ذلك
للمنازعة و
المجادلة ».
وقال الفيّومي: «تخالف
القوم واختلفوا إذا ذهب كلّ واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهو ضدّ الاتّفاق».
وليس للفقهاء
اصطلاح خاصّ وإنّما يستعملونه بنفس
المعنى اللغوي.
الفرق هو
الفصل بين الشيئين و
التمييز و
المزايلة بينهما،
إمّا مادّيّاً بالعزل، أو معنويّاً
بملاحظة موارد التغاير.
والاختلاف لم تلحظ فيه حيثيّة المزايلة والفصل، لكن قد يطلق الفرق على مورد التغاير، كما قد يطلق لفظ الاختلاف عليه كذلك فيلتقيان في هذه
الناحية .
و
الافتراق كالفرق فيما ذكرناه، إلّا أنّه مصدر
مطاوعة .
ومثل الفرق والافتراق
التفاوت ،
إلّا أنّ بعض
أهل اللغة حصر التفاوت بالاختلاف في الأوصاف، وجعله
مشتقّاً من الفوت بمعنى عدم
إدراك الشيء، وكأنّ أحدهما يفوّت
الوصف على الآخر.
وهو
المضادّة، وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه أو قصده بعد أن نهاه عنه.
ولعلّه راجع إلى المضادّة أيضاً بمعنى مضادّة أمره أو نهيه في الفعل والترك، والخلاف بهذا المعنى يكون أخصّ من الاختلاف.
وهو
المخاصمة إلّا أنّه يستعمل في الاختلاف أيضاً.
تختلف صفة الاختلاف وحكمه بحسب موارده ومعناه، وفيما يلي نشير إلى أهمّ ذلك:
لا يجوز على الامّة الاختلاف بمعنى
التفرّق و
التشتت و
النزاع خصوصاً فيما يرتبط بالامور العامّة وكيان
الدولة والامّة
الإسلامية؛ لوجوب وحدة الصف وحفظ كيان الإسلام و
المسلمين و
شوكتهم ، ويتأكّد هذا
الواجب حينما يحدق بالامّة الإسلامية خطر من قبل أعداء الإسلام و
مناوئيه ، فيكون الاختلاف وما يوجب تمزيق الصف الإسلامي و
إثارة الفتنة بين المسلمين من أشدّ
المحرّمات وأعظم
المعاصي والبلايا، وقى اللَّه المسلمين شرّها، قال تعالى: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا».
وتفصيل ذلك متروك إلى مصطلح (جهاد).
الأدلّة الشرعية قد تكون في
الأحكام الكلية وقد تكون في موضوعات الأحكام والامور الخارجية ويسمّى ذلك في
علم الاصول بالتعارض بين الأدلّة الشرعية.
والدليل الشرعي ما يكون
أمارة أي كاشفاً عن
الواقع كظهورات
الكتاب و
السنّة في الأحكام والبيّنة وقول
أهل الخبرة في الموضوعات، في قبال
الأصل العملي، وهو ما يحدّد
الوظيفة العمليّة للمكلّف عند فقد الدليل
الكاشف عن الحكم الشرعي الواقعي. وقد بحث علماء الاصول بتفصيل أحكام التعارض بين الأدلّة الشرعية، والاصول العمليّة، واستنبطوا لها
قواعد وموازين دقيقة وفنيّة كما بحثوا منشأ وقوع الاختلاف في الأدلّة الشرعية على الأحكام خصوصاً في الروايات المأثورة عن
أئمّة أهل البيت عليهم السلام. يطلب ذلك في محلّه من علم الاصول (تعارض الأدلّة).
لا شكّ أنّ أحكام الشريعة الإسلامية لا اختلاف فيها في واقعها فإذا كان يمكن
التوصل إليها بالقطع و
اليقين ، كما في عصر
التشريع وعصر الأئمّة
المعصومين عليهم السلام لما كان هناك اختلاف في البين، حيث كان يمكن
الرجوع إليهم
مباشرة والتوصل إلى الحكم الشرعي الواقعي و
استيضاحه .
إلّا أنّه حيث لا يتيسّر ذلك في عصر
الغيبة كان
الطريق إلى تلك الأحكام ما أسّسته الشريعة نفسها من الطرق
الاجتهادية للتوصل إلى الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية
المقرّرة عند الشك وعدم التوصل إلى الحكم الشرعي الواقعي.
وهذه الطرق الاجتهادية إذا لم تكن قطعيّة ويقينيّة بل كانت ظنّية لا بدّ وأن تكون مقرّرة من قبل
الشريعة نفسها أي لا بدّ وأن تكون يقينيّة
الاعتبار والحجّية شرعاً أو عقلًا على ما هو مقرّر في علم الاصول؛ إذ لا يمكن
إثبات حجّية الظن بالظن بل لا بدّ من
الانتهاء إلى العلم واليقين إمّا بالحكم الشرعي الواقعي أو بالاعتبار
وحجّية ذاك الطريق غير العلمي، وقد يصطلح عليه علماء الاصول بالحكم الظاهري أو
المنجزية و
المعذّرية .
والاختلاف بين الفقهاء يحصل نتيجة لذلك في غير الأحكام
المسلّمة والضرورية من الشريعة ممّا لا بدّ من
تحصيل اليقين، أو الظنّ المعتبر من مجموعة ما هو مأثور عن
النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام من الروايات والأحاديث وسائر ما يمكن أن يستكشف منها
الحكم الشرعي إمّا بطريق علمي حدسي- أي غير ضروري وبديهي وإلّا كان من المسلّمات- أو بطريق ظني معتبر شرعاً أو
عقلًا أو الانتهاء إلى الوظيفة العمليّة المقرّرة عند عدم التوصل إلى الحكم الواقعي بدليل معتبر.
ومن الواضح أنّ تشخيص ذلك يتوقّف على ممارسة عمليّة دقيقة تسمّى بالاجتهاد و
الاستنباط الفقهي وهو من أدقّ العلوم وأوسعها و
أشرفها مكانة ورفعة، وقد ورد
التأكيد عليه في كتاب اللَّه سبحانه في قوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ...»،
وفي أحاديث المعصومين عليهم السلام كما وضعت له قواعده واصوله و
منهجه العام في الشريعة نفسها وقد طوّرها وفصّلها
الفقهاء بما ذكرناه بإسهاب في مقدّمة
موسوعتنا الفقهية فليراجع تفصيله هناك.
وعلى هذا
الأساس يكون وقوع الاختلاف بين المجتهدين
الممارسين لعمليّة الاستنباط على الرغم من وحدة المنهج العام المقرّر شرعاً للاجتهاد الفقهي أمراً
طبيعيّاً ناجماً عن طبيعة
التعقيد العلمي وتنوّع مصادر الاستنباط ودقّتها وكثرة
العناصر المؤثّرة عليها.
وقد تعرّض العلماء لحصر أسباب اختلاف الفقهاء في امور قد لا تكون دقيقة ولا
منسجمة مع مباني فقه
أهل البيت عليهم السلام، ومن هنا نحن نلخّص أهم الأسباب لاختلاف فقهائنا فيما يلي:
۱-الاختلاف في فهم
دلالة الدليل الشرعي من
آية في كتاب اللَّه سبحانه أو حديث صادر عن
المعصوم حيث انّ دلالات
الدليل الشرعي تبتني على
الاستظهارات اللغوية والعرفية، وهي امور قد تتأثّر بالذوق و
الفهم اللغوي والعرفي أو المتشرّعي
للفقيه .
۲- الاختلاف في
الاطلاع على الأحاديث والأدلّة الشرعية التي يمكن أن يستند إليها في استنباط الحكم نتيجة
التتبع في المجاميع الحديثيّة الموسّعة. فقد يطلع فقيه على دلالة لحديث في باب فقهي يمكن
الاستناد إليه في أبواب فقهيّة اخرى، أو قد يطلع على حديث لم يطلع عليه الآخرون، وهذا كان
ممكناً بل واقعاً كثيراً في حقّ الفقهاء المتقدّمين قبل تجميع الأحاديث والروايات في المجاميع الحديثيّة
المستوعبة للُاصول والرسائل الحديثيّة المتعدّدة والتي قد يعبّر عنها بالاصول
الأربعمائة .
۳- الاختلاف في
توثيق سند الحديث حسب اختلاف مباني التوثيق السندي والقواعد
الرجالية أو حسب سعة التتبع وتحصيل
القرائن التي على أساسها يمكن توثيق راوٍ أو سند لحديث يمكن الاستناد إليه في استنباط الحكم الشرعي.
۴- الاختلاف في بعض قواعد الاستنباط العامّة
المرتبطة بالأدلّة الاجتهادية كحجّية
الشهرة الفتوائية أو حجّية خبر
الثقة مطلقاً أو في موارد خاصّة
كإعراض المشهور عنه أو الخبر غير
محرز الوثاقة عند عمل
المشهور به أو القواعد المرتبطة بالاصول العمليّة
كالاستصحاب في الشبهات الحكمية أو غير ذلك، فإنّ جملة من هذه القواعد بنفسها اجتهادية وقع في أصلها أو حدودها الاختلاف بين الفقهاء.
۵- الاختلاف في مدى
انطباق تلك القواعد و
الكبريات على صغرياتها فإنّ مرحلة
التطبيق أيضاً قد تكون دقيقة واجتهادية يقع فيها الاختلاف أو الخطأ كالاختلاف في مجرى الأصل العملي وكيفيّة تطبيقه في
أطراف العلم الإجمالي، أو كيفيّة تطبيق قواعد الجمع العرفي بين دليلين متعارضين، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة في أبواب
الفقه وفروعه التفصيلية. والتي قد يقع
الخطأ وعدم الدقة في تطبيق القواعد والكبريات المسلّمة عليها فينشأ من ذلك الاختلاف في
الفتوى و
النتيجة .
۶- الاختلاف في
الاستدلالات العقلية النظرية أو
مدركات العقل العملي التي يكون لها دور وتأثير في عمليّة
الاجتهاد واستنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العمليّة المقرّرة كما في بحث
إمكان الترتّب وما بني عليه من أحكام باب
التزاحم ، أو
امتناعه وبحث امتناع
اجتماع الأمر
والنهي، أو إمكانه وبحث
البراءة العقلية أو حقّ الطاعة، إلى غير ذلك، فإنّ هذا الاختلاف أيضاً يسبّب الاختلاف في النتائج والفتاوى الفقهية المستنبطة على أساسها.
۷- وممّا له
تأثير بالغ على عمليّة الاجتهاد الفقهي والذي يكون من أسباب الاختلاف في الفتوى، بل من أهمّها درجة
العمق والدقّة و
الاستيعاب و
الإشراف للفقيه على الفقه ومصادره وقواعد الاستنباط والاستدلال الفقهي وروح الأحكام الشرعية والأدلّة أو الأحاديث الصادرة بشأنها والمواقف الفقهية العامة أو الخاصة، إلى غير ذلك من الامور الكمّية أو الكيفية المؤثرة في تقويم وتصحيح عمليّة الاستنباط الفقهي و
ابتعاده عن
الانحراف أو الخطأ في الفهم و
النظر .
يؤثّر الاختلاف الواقع بين الفقهاء في الفتوى في مقامين:
أحدهما: مقام
تحديد التكليف: فاختلاف الفقهاء يؤثّر على
المكلّفين بجميع أقسامهم الثلاثة التي ذكروها
لمعرفة الأحكام وتحديدها، وهي:
المجتهد و
المقلِّد و
المحتاط ، وبيان تأثيره عليهم كالآتي:
يُسقِط الاختلاف بين الفقهاء
الإجماع كدليلٍ للمجتهد ببلوغه حدّاً يضرُّ بحجّيته، وذلك يختلف تبعاً لمباني حجّية الإجماع، فالإجماع الدخولي- مثلًا- لا تضرّه مخالفة الواحد والاثنين إن عرفا
بأعيانهما .
قال
السيد المرتضى : «فأمّا ما اختلفت
الإماميّة فيه فهو على ضربين: ضرب يكون الخلاف فيه من الواحد والاثنين، عرفناهما بأعيانهما و
أنسابهما ، وقطعنا على أنّ
إمام الزمان- عجّل اللَّه فرجه - ليس بواحدٍ منهما، فهذا
الضرب يكون المعوّل فيه على أقوال باقي
الشيعة الذين هم الجُلّ و
الجمهور ، ولأنّا نقطع على أنّ قول
الإمام في تلك الجهة دون قول الواحد والاثنين. والضرب الآخر من الخلاف أن تقول
طائفة كثيرة لا تتميّز بعدد ولا معرفة إلّا
الأعيان الأشخاص بمذهب، والباقون بخلافه، فحينئذٍ لا يمكن الرجوع إلى الإجماع و
الاعتماد عليه».
ومثله في عدم القدح بحجّية الإجماع الحدسي
المبتني على أساس
الملازمة أو تراكم الظنون وحساب
الاحتمالات مع فرض المخالفين للإجماع ليسوا بتلك المنزلة بحيث تخلُّ مخالفتهم بالملازمة
المستفادة بين فتوى المجمعين ورأي الإمام عجّل اللَّه فرجه أو بقيمة الاحتمالات الحاصلة من
المجمعين .
قال السيد الشهيد محمّد باقر الصدر: «ولمّا كان
استكشاف الدليل الشرعي من الإجماع مرتبطاً بحساب الاحتمال لم يكن للإجماع بعنوانه موضوعيّة في حصوله، فقد يتمّ الاستكشاف حتّى مع وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحو لا يؤثّر على حساب الاحتمال المقابل. وهذا يرتبط إلى درجة كبيرة
بتشخيص نوعيّة المخالف وعصره، ومدى تغلغله في الخطّ العلمي وموقعه فيه. كما أنّه قد لا يكفي الإجماع بحساب الاحتمال للاستكشاف، فتضمّ إليه قرائن احتماليّة اخرى على نحو يتشكل من المجموع ما يقتضي الكشف بحساب الاحتمال».
كما يفرض الاختلاف بين الفقهاء على المجتهد تتبّع موارده والبحث عن أسبابه الراجعة إلى الدليل مقدّمةً
لإعمال اجتهاده.
لكن قد يقال بأنّ مراجعة موارد اختلاف الفقهاء ليس لازماً للمجتهد، فيكفيه معرفته بالأدلّة وقواعد الاستنباط، وخبرته في تطبيقها على محلّ
البحث لا أكثر من ذلك.
يتعيّن عليه تتبّع موارد الاختلاف بين الفقهاء للعمل بما يوافق آراء من يحتمل
مطابقة رأيه وفتواه الواقع.
يؤثّر اختلاف الفقهاء في الفتوى على المقلِّد في امور:
أ- وجوب الرجوع إلى أعلم المجتهدين في تقليده عند اختلاف آرائهم، وعند
التساوي فيما بينهم المشهور أنّه
مخيّر في تقليد أيّ واحد منهم.
ب- تبدُّل رأي مجتهده إلى رأي جديد مختلف عن الأوّل، فيجب عليه أن يطبّق فتوى مجتهده فيما يخصّ أعماله السابقة التي عملها على
الرأي السابق من
البناء على الصحّة و
الاكتفاء بما أتى به أو عدمهما أو غير ذلك.
ج- عدوله في
التقليد من مجتهد إلى مجتهد آخر- بسبب موت أو غيره- مخالف للأوّل في بعض الفتاوى، فيجب عليه أن يطبّق فتوى مجتهده الجديد فيما يخصّ أعماله السابقة التي عملها على رأي مجتهده الأوّل إلّا فيما يراه المجتهد الثاني
إجزاءه .
وتفصيل هذه الأحكام يطلب من محالّه، كالفرض السابق.
د- إذا كان نظر مقلَّده
الاحتياط اللزومي في مسألة مختلف فيها بين الفقهاء يجوز للمقلّد الرجوع فيها إلى أحد المجتهدين الآخرين- مع
مراعاة الأعلمية فيهم، أو بدونها حسب اختلاف المباني في ذلك- فيقلّده في الحكم بالجواز إذا كان ذلك فتواه، ويصطلح على ذلك بالرجوع إلى الغير في الاحتياط. وبعضهم فصّل بين الاحتياط في الفتوى فيجوز الرجوع فيه إلى الغير والفتوى بالاحتياط فلا يجوز.
ما يصنعه
القاضي أو الحاكم الإسلامي في المسائل الخلافيّة يختلف باختلاف الحالات، فإذا كان القاضي أو الحاكم مجتهداً فلا محالة يجري حسب نظره واجتهاده فيما يتولّاه أو يقضي به، وإذا كان مقلّداً يعمل حسب فتوى مقلّده.
هذا هو مقتضى القاعدة الأولية، إلّا أنّه يمكن
الخروج عن ذلك في الموارد التي تكون
المصلحة العامّة
لإدارة الحكم، أو
النظام القضائي العام متوقفة على خلاف ذلك فيمكن للحاكم أو الدولة الإسلامية أن تختار أحد الاجتهادات الفقهية المشروعة والواجدة لشرائط الحجّية العامة، ويجعله أساساً
للقوانين والمقررات، سواء في ذلك باب
القضاء أو غيره من أنظمة الدولة وقوانينها العامة، وهذه إحدى المسائل
المستحدثة الهامّة، وقد تعرّض لها
السيد الشهيد الصدر قدس سره في كتابه (
اقتصادنا ) عند بحثه عن النظام الاقتصادي الإسلامي حيث قال: «إنّ
الصورة التي نكوّنها عن
المذهب الاقتصادي لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم فهي
انعكاس لاجتهاد معيّن؛ لأنّ تلك الأحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة نتيجة لاجتهاد خاصّ في فهم النصوص، وطريقة
تنسيقها والجمع بينها. وما دامت الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي اجتهاديّة، فليس من الحتم أن تكون هي الصورة
الواقعيّة؛ لأنّ الخطأ في الاجتهاد ممكن؛ ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميّين مختلفين أن يقدّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي في
الإسلام تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كلّ تلك الصور صوراً اسلامية للمذهب الاقتصادي؛ لأنّها تعبّر عن
ممارسة عمليّة الاجتهاد التي سمح بها الإسلام وأقرّها ووضع لها مناهجها وقواعدها. وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً، بقطع
النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام».
وفي كرّاسه الذي ألّفه لبيان تصوّره عن
دستور الجمهورية الإسلامية قال: «إنّ أيّ موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد يعتبر نطاق البدائل المتعدّدة من الاجتهاد المشروع دستوريّاً، ويظل
اختيار البديل المعيّن من هذه البدائل موكولًا إلى
السلطة التشريعيّة التي تمارسها الامّة على ضوء المصلحة العامّة».
المقام الثاني: مقام
العمل بالتكليف: ثمّة أفعال للمكلّفين يرتبط حكمها بحكم فعل غيرهم مثل
صلاة الجماعة، والتصرّف في مال الغير
بإذنٍ مالكيّ أو
معامليّ، و
النيابة عن الغير في
أداء الواجبات، وغير ذلك ممّا يتقوّم بطرفين أو أكثر. فلو فرض اختلاف الحكم
الثابت عن اجتهاد أو تقليد بحقّ كلّ من الطرفين عن حكم الطرف الآخر، فهل هناك أصل أو قاعدة يقتضيان
تحديد ما يلزم أن يكون العمل عليه أم لا؟
المستفاد من كلمات الفقهاء
المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة المختلفة أنّه كلّما كان حكم فعل الغير مرتبطاً بحكم
الشخص بنحوٍ يكون موضوعاً له نظير صحّة صلاة الإمام بالنسبة لصحّة صلاة
المأموم فالمدار في ذلك هو حكم فعل الغير عند المكلّف نفسه؛ لأنّه المكلّف
بإحراز كلّ ما له دخل في صحّة فعله؛ ولذلك أفتى الفقهاء في جملة من الموارد وفقاً لهذه القاعدة، فمن ذلك:
۱-
اقتداء المأموم بالإمام في صلاة الجماعة، فإنّه يعتبر في
جوازه وصحّة صلاة المأموم جماعة أن تكون صلاة الإمام صحيحة، فلو كانت باطلة
لإخلالٍ بها في جزء أو شرط لم تصحّ صلاة المأموم جماعة. وقد جعل الفقهاء
المدار في إحراز هذا
الشرط على المأموم، فإن كانت صلاة الإمام صحيحة عنده صحّت صلاته جماعة وإن كان الإمام نفسه يراها باطلة، وإن كانت صلاة الإمام
باطلة عند المأموم بطلت جماعته وإن كان الإمام يرى صحّتها.
لكنّ ذلك لا يختصّ بالاختلاف الحاصل بين الفقهاء في
الفتوى ، بل يعمّه والموضوعات التي يرى الإمام
ثبوتها خلافاً للمأموم، كما لو تخالف اجتهادهما في معرفة
القبلة أو في
الأداء الصحيح لبعض أجزاء وشرائط الصلاة مثل أداء
الحروف من مخارجها في
القراءة وغير ذلك.
۲- الصلاة التي يؤدّيها الشخص نيابة عن
الميّت ، فإنّ فتوى الفقهاء فيها العمل بمعتقد
الفاعل تقليداً أو اجتهاداً دون الميّت، بل ذكر بعضهم أنّه لو فاتت الميّت صلاة يعتقدها
قصراً - كما إذا سافر إلى أربعة
فراسخ من دون الرجوع ليومه واعتقدها النائب تماماً
لاعتقاده اعتبار الرجوع ليومه في الأربعة مثلًا- وجب القضاء عنه
تماماً .
۳-
الحجّ الذي يؤدّيه الشخص نيابة عن الميّت، فإنّ مشهور الفقهاء العمل على معتقد النائب، فقد صرّحوا فيما لو اختلف معتقد الميّت عن
الوارث في اعتبار
البلديّة أو الميقاتيّة بأنّ المدار على معتقد الوارث دون الميّت.
۴-
الزكاة على
الطفل ، فإنّه يستحبّ للوليّ دفعها عملًا بما يقتضيه اجتهاده أو تقليده؛ لأنّ
التكليف متوجّه إليه، وقيل:
يعمل كلٌّ على وفق تكليفه.
۵-
الدين الذي يعتقد الوارث ثبوته في ذمّة الميّت مع اعتقاد الميّت عدم ثبوته عليه فإنّه لا يجوز للوارث
التصرّف فيه؛ لكونه تصرّفاً في مال الغير باعتقاده.
۶-
العقد الذي يؤدّيه المتعاقدان، فإنّه لا يقع
صحيحاً عند المشهور إن أخلّ أحد الطرفين- أي
الموجب و
القابل - ببعض الشروط المعتبرة في
الإيجاب و
القبول عند الطرف الآخر وإن كان الآتي به معتقداً لصحّته بتلك الكيفيّة.
لكنّ بعض الفقهاء خالف هذه القاعدة في بعض الموارد كما في الحجّ النيابي
و
منجّزات المريض حيث جعل المدار فيها على تكليف الميّت،
وكذا صحّة جماعة المختلفين في التكليف وغير ذلك مع كون محلّ الخلاف من المسائل الظنّية في غير القراءة.
نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان الحكم بصحّة العمل عند الغير موضوعاً لترتّب
الأثر بالنسبة إليه، كما إذا كان الثابت عنده من التكليف عدم وجوب
السورة عليه فصلّى صلاة
الاستئجار عن الميّت بدون سورة فإنّ صلاته تكون صحيحة عنده، والحكم بالصحّة هذا يكون موضوعاً لجواز أكل
الاجرة بالنسبة إلى من يرى عدم صحّة الصلاة بلا سورة،
وكما إذا كان الثابت عنده جواز
إيقاع عقد
النكاح بالفارسيّة فإنّه يكون نكاحاً صحيحاً عنده، والحكم بالصحّة هذا يكون موضوعاً
لحرمة التزوّج بامرأته بالنسبة إلى من يرى
بطلان عقد النكاح
بالفارسيّة ما دامت هي في
حبالة الأوّل.
وكيف كان فتفصيل البحث عن هذه الموارد وغيرها يأتي كلٌّ في محلّه.
يمكن
إدراج الاختلاف الواقع في باب القضاء ضمن
العناوين التالية:
قد يقع الاختلاف بين شخصين في قضيّة بينهما ولا ينحلّ
النزاع بينهما
بالتراضي و
الصلح ، فيتعيّن عليهما رفع أمرهما إلى القاضي للبتّ فيه. وقد وضعت الشريعة العديد من القواعد للحكم وفضّ النزاعات المذكورة: منها:
قاعدة البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، وقاعدة
إقرار العقلاء على أنفسهم جائز. وقاعدة
القرعة ، وقاعدة
العدل و
الإنصاف ، و
القسامة وغير ذلك. والتفصيل فيها موكول إلى محالّه.
قد يقع الاختلاف فيمن ينظر في القضيّة
المترافع فيها من القضاة، فيلزم تحديده ضمن الصور التالية:
الاولى: أن يكون أحدهم معنيّاً بالقضيّة المترافع فيها؛ لدخولها ضمن نطاق
صلاحيّاته دون غيره، كأن يكون منصوباً قاضياً في بلد
المرافعة أو في زمانها أو فيما يعمّ موضوعها أو غير ذلك، بينما الآخرون
منصوبون في غير ذلك، فالنظر فيها يكون إليه لا إليهم.
الثانية: أن يكون كلّ واحدٍ من القضاة معنيّاً بالقضية؛ لدخولها ضمن نطاق صلاحيّاته، سواء في ذلك كونه منصوباً على وجه
العموم أو على وجه
الاختصاص بمساحة يشترك معه غيره فيها، لكن بشرط أن لا ينظر أيٌّ منهم في القضيّة
مستقلّاً عن غيره من القضاة المعنيّين بها، فالنظر في
القضية يكون إليهم على نحو
الاشتراك ،
فإن اختلفوا لم ينفرد واحد منهم بها.
الثالثة: أن يكون كلّ واحد من القضاة معنيّاً بالقضيّة كذلك، لكن مع جواز أن ينظر فيها مستقلّاً عن غيره ودعي لذلك، ثمّ وقع اختلاف بينهم فيمن ينظر فيها، فقد ذكر بعض الفقهاء أنّ النظر فيها يكون لمن سبق إلى
إجابة الدعوة من أحد
المتخاصمين، فإن كانوا أجابوا معاً اقرع بينهم.
الرابعة: الصورة المتقدّمة نفسها، لكن لم يُدعَ أحد من القضاة للنظر في القضيّة، بل حضر المتخاصمان عندهم ففي هذه الصورة ذكر بعض الفقهاء
أنّه يقدّم القاضي الذي يختاره
المدّعي؛ لأنّ له الاستعداء على خصمه عند من يشاء، فهو صاحب المنازعة، فإذا استعدى لزم القاضي
إحضار خصمه، أو الحكم عليه غائباً مع عدم إمكانه. لكن ناقش
الأردبيلي في تقديم
مختار المدّعي مع كون غيره أفضل أو
أعدل أو
أورع ، ولم يستبعد تعيّن الرجوع إلى الإمام عليه السلام مع
الإمكان ، وإلّا اقرع بينهم.
كما ناقش غيره بعدم ثبوت حقٍّ للمدّعي قبل ثبوت صدق دعواه، فيرجع إلى
الأعلم ، فإن لم يكن أو لم يحرز اقرع بينهم.
الخامسة: الصورة المتقدّمة نفسها مع
التداعي ، فمقتضى القاعدة
إجراء القرعة بينهم.
وقيل: يتعيّن بمن سبق إلى الحكم، فإن اشتبه السابق اقرع
لاستخراجه، فإن اقترنت أحكامهم تساقطت.
وخصّ بعضهم القول الأخير بفرض غيبة كلّ متخاصم عن الآخر ليصحّ قضاء الجميع.
وفيه صورتان:
الاولى: إذا اختلف القضاة في الحكم حيث يفرض
التعدّد و
الاستقلال ينفذ حكم الأعلم منهم أو الأعدل أو الأورع أو
الأصدق في الحديث، فإن استووا تجري في الأحكام قواعد
الترجيح في
الأخبار .
الثانية: إذا اختلف القضاة في الحكم حيث يفرض التعدّد وعدم الاستقلال بأن يكونا منصوبين بشرط
الاتّفاق على الحكم، فإنّه لا ينفذ حكم أيّ منهما حينئذٍ.
يقع الاختلاف في موضوعات الأحكام الشرعيّة كثيراً في
الفقه :
منها: اختلاف ما يعتبر
اجتماعهم فيه
كالشهود في البيّنة
وحكمي الزوجين
و
الوصيّين و
الوكيلين وغيرهما ممّا اعتبر اجتماعهما.
ومنها: اختلاف
القِيَم بسبب اختلاف البلد
أو تغيّر القيمة بمرور الزمان
أو غير ذلك.
ومنها: اختلاف
الأعراف والعادات فيما يؤخذ قيداً في
الموضوع ، نظير عدم كون الشيء مأكولًا أو ملبوساً في صحّة الصلاة عليه،
وكون الشيء
مكيلًا أو موزوناً في وقوع
الربا فيه مع
التفاضل ،
وغير ذلك.
وجميع هذه الموارد يأتي تفصيل البحث عنها في محالّها.
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۳۸۹-۴۰۲.