الاستطاعة البذلية
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الاستطاعة المالية كما تحصل بما إذا كان
المكلّف مالكاً
لنفقة الحجّ كذلك تحصل بما إذا
بذل له مالك المال من ماله للحجّ ما يكفيه لنفقته، وهو ما يحتاج إليه في
السفر ذهاباً وإياباً، وكذا ما يحتاج إليه في
الإنفاق على عياله حتى يرجع إليهم ويعبّر عن هذه الاستطاعة بالاستطاعة البذلية، فإذا قال له المالك: حجّ وعليّ جميع هذه النفقات التي تحتاجها في حجّك، أو قال له: بذلت لك جميع نفقاتك لتحجّ بها، أو عيّن مبلغاً من
المال ما يكفيه لجميع ذلك، وقال له: حجّ بهذا المال حصلت له
الاستطاعة بهذا البذل ووجب عليه الحجّ.
قد ادّعي عليه
الإجماع .
واستدلّ على ذلك بجملة من النصوص:
على ما روي في كتاب
التوحيد ، قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «وَ لِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
قال: «يكون له ما يحجّ به»، قلت: فمن عرض عليه
الحجّ فاستحيى؟ قال: «هو ممّن يستطيع».
قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام:
رجل لم يكن له مال، فحجّ به رجل من إخوانه، أ يجزيه ذلك عن
حجّة الإسلام أم هي ناقصة؟ قال: «بل هي حجّة تامّة».
واورد على
الاستدلال به بأنّه يدلّ على
الإجزاء ولا يدلّ على
الوجوب بالبذل، والإجزاء عن حجّة الإسلام أعمّ من الوجوب.
واجيب عنه بمنع ذلك؛ لأنّ ظاهره هو كون الإجزاء لتماميّته، وأنّها ليست حجّةً ناقصة، وهي تتوقّف على حصول الاستطاعة بإحجاج بعض إخوانه به، فيدلّ على
المطلوب .
عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أ هو ممّن يستطيع إليه سبيلًا؟ قال: «نعم، ما شأنه يستحيي ولو يحجّ على
حمار أجدع
أبتر ؟!».
عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل، فإنّه لا يسعه إلّا أن يخرج ولو على حمار
أجدع أبتر».
في حديث، قال: قلت
لأبي جعفر عليه السلام : فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى؟ قال: «هو ممّن يستطيع الحجّ، ولِمَ يستحيي؟! ولو على حمار أجدع أبتر» قال: «فإن كان يستطيع أن يمشي بعضاً ويركب بعضاً فليفعل».
واورد على الاستدلال بالأخبار الأخيرة المشتملة على
الأمر بمشي بعض وركوب بعض، والحجّ على حمار أجدع أبتر بأنّها تدلّ على وجوب الحجّ ولو مع
العسر و
الحرج ، وهذا ممّا لا يمكن
الالتزام به.
واجيب عن ذلك:
بأنّ دلالتها على وجوب الحجّ مع العسر والحرج إنّما تكون بالإطلاق لا
بالصراحة ، ومقتضى
حكومة أدلّة نفي العسر والحرج
اختصاص الوجوب بما إذا لم يكن مع العسر والحرج.
بأنّ الظاهر من هذه الأخبار خصوصاً صحيح
معاوية بن عمّار وجوب الحجّ عليه مع
المشقّة و
التسكّع في مورد
استقرار الحجّ بالبذل ورفضه بعد
البذل ، فالأمر بتحمّل المشقّة والحجّ متسكّعاً في هذه النصوص بعد فرض استطاعته بالبذل، فإنّ
المستفاد من النصوص أنّ مورد الأسئلة
رفض الحجّ بعد البذل، فحينئذٍ يستقرّ الحجّ في ذمّته، ولا بدّ من الخروج عن عهدته ولو متسكّعاً حتى على حمار أجدع أبتر، فيعلم من ذلك أنّ البذل كالملك يحقّق الاستطاعة، فلا تختصّ الاستطاعة بالملك.
بأنّ اشتمال هذه النصوص على ما لا نقول به لا يوجب طرحها أو حملها على خلاف ظواهرها، فإنّ المقدار الذي لا مانع من العمل به منها ولا معارض له لا وجه لطرحها أو
الحمل على خلاف ظاهرها بالنسبة إليه، بل يجب
العمل به منها.
واستدلّ أيضاً لكفاية الاستطاعة البذلية بنفس آية الحجّ المباركة: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
فإنّها تدلّ على وجوب الحجّ بمطلق الاستطاعة، وهي تتحقّق بالبذل وعرض الحجّ أيضاً.
نعم، الروايات الخاصّة فسّرت الاستطاعة بقدرة خاصّة، وهي التمكّن من الزاد والراحلة وتخلية السرب وصحّة البدن، وهذه الامور كما تحصل بالملك تحصل بالبذل أيضاً.
وأورد عليه السيّد الحكيم بأنّ الاستطاعة المذكورة فيها وإن كانت في نفسها صادقة على البذل، ولكنّ الروايات فسّرتها بملكيّة الزاد والراحلة؛ لظهور اللام في قوله عليه السلام: «له زاد وراحلة» في الملكيّة، وبعض الروايات وإن كانت مطلقة ولكن وجب تقييدها بما دلّ على الملكية، فلا تشمل البذل وإباحة الزاد والراحلة.
وأجاب عنه السيّد الخوئي:
بأنّه لا موجب لحمل المطلق على المقيّد وتقييد إطلاق ما يحجّ به بالملكيّة؛ لعدم التنافي بين حصول الاستطاعة بالملكيّة وحصولها بالإباحة والبذل، كما يقتضيه إطلاق قوله «ما يحجّ به»، أو «عنده ما يحجّ به»، وإنّما يحمل المطلق على المقيّد للتنافي بينهما كما إذا وردا في متعلّقات الأحكام بعد إحراز وحدة المطلوب، وأمّا مجرّد المخالفة في الموضوع من حيث السعة والضيق فلا يوجب التقييد، فلا منافاة بين حصول الاستطاعة بالملك وحصولها بالإباحة والبذل.
ولكن اورد عليه- كما تقدّم- بأنّ ورود الطائفتين في مقام تفسير الآية المباركة وتحديد الاستطاعة فيها يوجب تحقّق التنافي بينهما؛ لوضوح ثبوت المنافاة بين كون المراد من الاستطاعة الواردة في الآية خصوص الملكيّة وبين كون المراد منها الأعمّ منها ومن الإباحة، فاللازم حمل المطلق على المقيّد.
بأنّ الروايات- المتقدّمة- المفسّرة للآية مختلفة، ففي بعضها عبّر ب «من له زاد وراحلة» الظاهر في الملكيّة، وفي بعضها ورد «ما يحجّ به» أو «عنده ما يحجّ به»، أو «يجد ما يحجّ به» الظاهر في الأعمّ من الملك والإباحة، فيقع التعارض في الروايات المفسّرة، والمرجع إطلاق الآية، والقدر المتيقّن في الخروج عن إطلاقها من لا مال له ولا بذل له، وهذا ممّن لا يجب عليه الحجّ قطعاً وإن كان قادراً عليه بالقدرة العقلية ويبقى الباقي- وهو المالك للزاد والراحلة ومن ابيح له المال للحجّ- مشمولًا للآية.
بأنّ حرف اللام لا يدلّ على الملكيّة، وإنّما يدلّ على الاختصاص، وهو أعمّ من الملكيّة، كما في قوله تعالى: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ».
وبالجملة: نفس الآية الشريفة متكفّلة لوجوب الحجّ بالبذل، والروايات لا تخالف ذلك خصوصاً صحيحة معاوية بن عمّار الثانية الظاهرة بل الصريحة في كفاية البذل على وجه الإباحة.
ثمّ إنّهم قد تعرّضوا في المقام لعدّة امور وهي:
توجد في المسألة عدّة أقوال مفصّلة هي:
التفصيل بين ما إذا كان البذل بنحو التمليك وبين ما إذا كان بنحو الإباحة، فيجب الحجّ على الأوّل دون الثاني، وهو المنسوب إلى ابن إدريس الحلّي،
إلّا أنّ السيد الحكيم قال: إنّ التأمّل في عبارة السرائر يقتضي أنّ مراده اعتبار الوثوق في استمرار البذل، فيرجع إلى القول بالتفصيل الآخر الآتي.
وقد اورد على هذا التفصيل بأنّ إطلاق النصوص يدفعه، بل الإباحة أظهر دخولًا في إطلاق الروايات من التمليك، بل قوله عليه السلام: «فإن عرض عليه الحجّ» أو قوله عليه السلام: «دعاه قوم أن يحجّوه» ظاهر في خصوص الإباحة.
وهناك إشكال في وجوب الحجّ إذا كان البذل على وجه التمليك، وهو أنّ التمليك لا يتحقّق إلّا بعد قبول المبذول له، والقبول لا يكون واجباً عليه؛ لأنّه شرط للوجوب.
ولكن قد اجيب عنه بأنّ القبول هنا من شرائط الواجب لا الوجوب؛ لأنّ المعتبر في شرط الوجوب هو التمكّن من المسير إلى الحجّ بسبب البذل ولو كان على نحو التمليك، وهو يحصل بإنشاء الهبة من الباذل ولو لم يحصل القبول من المبذول له، وعلى هذا فيفرّق بين هبة الباذل لأجل الصرف في سبيل الحجّ وبين هبته مطلقاً عن قيد الصرف فيه، بوجوب القبول في الأوّل دون الأخير، فاللازم حينئذٍ وجوب الحجّ بالبذل مطلقاً ولو كان على وجه التمليك؛ لوجوب القبول على المبذول للحجّ؛ لحصول الاستطاعة بنفس إيجاب الهبة من الباذل قبل صدور القبول من المبذول له، وإذا وجب عليه الحجّ يجب عليه القبول؛ لكون قبوله حينئذٍ من شرائط الوجود لا الوجوب.
التفصيل بين ما إذا كان البذل واجباً عليه بنذر أو يمينٍ ونحو ذلك وبين ما إذا لم يكن واجباً عليه، فيجب الحجّ على المبذول له على الأوّل دون الثاني. كما اختاره المحقق الكركي،
وهو المنسوب إلى العلّامة الحلّي أيضاً.
وأورد عليه السيد الحكيم بأنّه خلاف إطلاق الأدلّة، وأمّا التعليل الذي ذكره العلّامة الحلّي في التذكرة من أنّه لا يمكن تعليق الواجب على غير الواجب فهو عليل لا يرجع إلى قاعدة عقلية أو شرعية، ولكن لا يستبعد أن يكون مراد العلّامة اعتبار الوثوق ببقاء البذل إلى آخر أزمنة الحاجة، فيرجع إلى القول الآتي.
وقال السيّد الخوئي في ردّ التعليل المذكور: «كيف يمكن القول بعدم جواز تعليق الواجب بغير الواجب؟! فإنّ تعليق الواجب بغير الواجب في الأحكام كثير جدّاً، فإنّ وجوب القصر معلّق على السفر المباح ووجوب التمام معلّق على الإقامة حتى المباحة، وكذا وجوب الصوم معلّق على الإقامة، ووجوب الإنفاق على الزوجة معلّق على النكاح الجائز في نفسه، وهكذا وهكذا، بل دخول غير الواجب في موضوع الروايات أظهر؛ لأنّ البذل غير الواجب أكثر وأغلب من البذل الواجب».
التفصيل بين بذل نفس الزاد والراحلة وبين بذل ثمنهما، فيجب الحجّ على الأوّل دون الثاني، واختاره الشهيد الثاني في المسالك،
وقال في الروضة: «فلو بذل له أثمانهما لم يجب القبول؛ وقوفاً فيما خالف الأصل على موضع اليقين».
وقد اورد عليه بأنّ مقتضى الروايات المتقدّمة تحقّق الاستطاعة ببذل ما يحجّ به، وهو كما يشمل بذل عين الزاد والراحلة يشمل أثمانهما.
وهو التفصيل بين ما إذا كان المبذول له واثقاً ببقاء البذل إلى آخر أزمنة الحاجة وبين ما إذا لم يكن كذلك، فيجب الحجّ على الأوّل دون الثاني، وهو مختار جماعة من الفقهاء.
وذهب بعضهم إلى اعتبار الوثوق في صورة الإباحة دون صورة البذل بالتمليك.
واستدلّ لعدم الاختصاص بما إذا كان المبذول له واثقاً ببقاء البذل بإطلاق النصوص المتقدّمة.
واستدلّ للاختصاص بوجوهٍ:
ما ذكره المحقّق النراقي من عدم صدق الاستطاعة بدونه عرفاً ولا لغةً، فيعارض إطلاق أدلّة وجوب الحج بالبذل الشامل للبذل مع عدم الوثوق ما ينفي الوجوب بدون الاستطاعة الشامل له أيضاً كمفهوم الآية وغيره بالعموم من وجه حيث يفترقان في البذل الموثوق به فيجب الحجّ معه، وفي عدم الاستطاعة مع عدم البذل فلا يجب الحجّ بدونها ويشتركان في البذل غير الموثوق به حيث يصدق عليه عدم الاستطاعة ويتعارض فيه وجوب الحجّ من جهة تحقق البذل وعدم وجوبه من جهة انتفاء الاستطاعة فيه، فيتساقطان، ويرجع إلى الأصل.
واورد عليه بأنّ الإطلاق لوروده في مقام تفسير الاستطاعة يكون حاكماً على ما ينفي الوجوب بدونها، فيقدّم عليه وإن كانت النسبة عموماً من وجه.
ما ذكره المحقّق النراقي أيضاً من انصراف الإطلاق في النصوص إلى ما يكون معه الوثوق، فلا يشمل ما لو لم يوثق به.
واورد عليه بأنّ تمام الموضوع للوجوب في النصّ هو عرض الحجّ، وهذا موضوع واقعي لا دخل للوثوق بالوفاء وعدمه فيه، فلا وجه لدعوى الانصراف وشبهه.
ما ذكره صاحب المدارك وغيره من أنّ التكليف بالحجّ بمجرّد البذل مع عدم الوثوق بالباذل موجب للتعرّض للخطر على النفس المستلزم للحرج العظيم والمشقّة الزائدة، فكان منفيّاً.
وعلّق على ذلك بأنّه إذا كان السفر إلى الحجّ مع عدم الوثوق مستلزماً للخوف على النفس كان السفر حراماً، فلا يكون مستطيعاً واقعاً؛ لحرمة السفر، وإلّا فالسفر لا يكون حراماً. وعليه فإن كان الباذل يفي بما بذل واقعاً ولا يرجع يكون مستطيعاً واقعاً وإلّا فهو غير مستطيع؛ لأنّ الموضوع هو البذل حدوثاً وبقاءً، هذا كلّه بحسب الواقع، وأمّا في الظاهر فإنّه وإن كان يحتمل أن يرجع عمّا بذله إلّا أنّه كاحتمال تلف المال في الاستطاعة المالية، فكما لا يعتنى بهذه الاحتمالات هناك استناداً إلى استصحاب بقاء المال وعدم التلف وغيره من الاصول المحرزة للبقاء، كذلك في الاستطاعة البذلية لا يعتنى باحتمال الرجوع لتلك الاصول.
وبالجملة: عدم الوثوق بالباذل واحتمال رجوعه عمّا بذله كعدم الوثوق ببقاء المال، فكما أنّه لا يمنع عن وجوب الحجّ كذلك عدم الوثوق في المقام.
أنّ موضوع وجوب الحجّ هو البذل الفعلي حدوثاً وبقاءً لا حدوثاً فقط، ولذا لو رجع الباذل عن بذله في الأثناء لا إشكال في عدم الوجوب على المبذول له، وعليه فمع عدم الوثوق بالباذل والشكّ في البقاء يشكّ في صدق الموضوع، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق؛ لكونه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.
واورد عليه بأنّ موضوع الوجوب الواقعي هو البذل الباقي بلا دخل لعلم المكلّف وجهله فيه، وفي الظاهر يرجع إلى الاصول المحرزة للبقاء كما في الاستطاعة المالية.
صرّح جماعة من الفقهاء بأنّه لو كان للمكلّف بعض النفقة فبذل له آخر الباقي بحيث صار مستطيعاً من مجموع ما عنده وممّا بذل له لوجب عليه الحجّ.
واستدلّ عليه بامور:
منها: إطلاق نصوص البذل، فإنّه يصدق ببذل ما يتمّم به كما يصدق ببذل الجميع.
ويرد عليه: أنّ ظاهر عرض الحجّ الذي هو الموضوع في النصوص هو عرض الجميع لا بعضه.
ومنها: أنّ ثبوت الحكم في الاستطاعة المالية والبذلية يدلّ على ثبوته للجامع بينهما الموجود في مورد التبعيض. ويرد عليه: أنّه لم يثبت وجود الجامع مع التبعيض كما يتّضح بملاحظة النظائر، فإنّ ثبوت حكم لكرّ من حنطة وكرّ من شعير لا يدلّ على ثبوته لنصف كرّ من الحنطة ونصف كرّ من الشعير.
ومنها: أنّ الموضوع لوجوب الحجّ هو أن يكون عنده ما يحجّ به أو يجد ما يحجّ به، وهو كما يصدق ببذل تمام النفقة كذلك يصدق ببذل المتمّم. وبعبارة اخرى: أنّ إطلاق العنوان المذكور كما هو شامل لكلّ من الاستطاعة الملكية والبذلية، كذلك شامل للاستطاعة المركّبة منهما.
كما يعتبر في حصول الاستطاعة البذلية بذل نفقة الذهاب يعتبر فيه بذل نفقة الإياب إذا لم تكن عنده؛ لأنّ الموضوع في الأدلّة- وهو عرض الحجّ- إنّما يتحقّق ببذل ما يحتاج إليه في الذهاب والإياب، وعليه فلو بذل له نفقة الذهاب فقط ولم تكن عنده نفقة الإياب لم يجب الحجّ.
ولكن ذهب السيّد الخوئي إلى أنّ الحال في الاستطاعة البذلية هو الحال في الاستطاعة الملكيّة، فلا بدّ من التفصيل في المسألة، فإن استلزم عدم العود الحرج يعتبر بذل نفقة العود، وإن كان بقاؤه في مكّة أو ذهابه إلى بلد آخر غير حرجي فلا تعتبر نفقة العود، فالميزان هو الحرج وعدمه، وحال العود في المقام كنفقة العود في الاستطاعة المالية.
ذكر السيّد اليزدي أنّه لو لم يبذل نفقة العيال لم يجب الحجّ إلّا إذا كان عنده ما يكفيهم إلى أن يعود أو كان لا يتمكّن من نفقتهم مع ترك الحجّ أيضاً.
واستدلّ السيّد الحكيم على عدم وجوب الحجّ في صورة عدم بذل نفقة العيال بأنّ نفقة العيال خارجة عن نصوص البذل؛ لاختصاصها ببذل ما يحتاجه لنفسه في سفر الحجّ، لكن لمّا كان وجوب الإنفاق على العيال يقتضي منعه من السفر لم يكن مستطيعاً كسائر الأعذار الشرعية، ونصوص البذل إنّما تتعرّض لتشريع الاستطاعة المالية لا غير، فلا تنافي ما دلّ على اعتبار الاستطاعة من الجهات الاخرى، وقد عرفت فيما سبق أنّ الأعذار الشرعية مانعة عن الاستطاعة.
وللسيّد الخوئي في المقام منهج وطريق آخر في الاستدلال على عدم الوجوب، فإنّه قال: «إن كان الإنفاق واجباً والسفر يمنعه من الإنفاق يدخل المقام في باب التزاحم ويقدّم الأهمّ، ولا يبعد أن يكون الإنفاق على العيال أهمّ؛ لأنّه من حقوق الناس. نعم، إذا لم يتمكّن من الإنفاق عليهم أصلًا حتى مع عدم السفر بحيث يكون الإنفاق متعذّراً عليه حجّ أو لم يحجّ يقدّم الحجّ بلا إشكال؛ لعدم المزاحمة حينئذٍ».
وذهب السيّد الحكيم إلى تقديم الحجّ في هذا الفرض أيضاً، إلّا أنّه علّل ذلك بأنّه لا محذور شرعي في السفر، كما علّل بذلك فيما إذا كان عنده ما يكفي عياله إلى أن يعود.
ثمّ إنّه لو كان الإنفاق غير واجب ولكن كان عدم الإنفاق حرجيّاً له فلا يجب الحجّ لنفي الحرج.
صرّح جملة من الفقهاء بعدم اشتراط الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة البذلية، بل نفي عنه الخلاف الظاهر.
واستدلّ لذلك بصدق الاستطاعة بمجرّد عرض الزاد والراحلة بدون الرجوع إلى الكفاية، وبعبارة اخرى: إنّ عدم اشتراطه هو مقتضى إطلاق أخبار الاستطاعة البذلية.
وأمّا ما يدلّ على اعتبار الرجوع إلى الكفاية من الأخبار فلا يمكن الاستدلال به على اعتباره هنا؛ لأنّ تلك الأخبار بصدد بيان عدم وجوب الحجّ إذا توقّف الحجّ على الأخذ من الكفاية، فيبقى عند الرجوع بلا نفقة حتى يحتاج إلى التكفّف، وليس ما نحن فيه من ذلك؛ إذ الذهاب وعدمه سيّان من هذه الجهة.
ومن جملة الأخبار خبر أبي الربيع الشامي، حيث ورد فيه: «هلك الناس إذاً لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم إيّاه، لقد هلكوا إذاً...».
قال في وجه عدم صحّة الاستدلال به هنا على اعتبار الرجوع إلى الكفاية: «إنّ الظاهر من الرواية صدراً وذيلًا كون موردها الاستطاعة المالية ولا إطلاق لها يشمل مورد الاستطاعة البذلية...».
وأمّا إن كان الدليل قاعدة نفي الحرج فلا تنطبق على الاستطاعة البذلية أيضاً؛ إذ من المفروض أنّ المبذول له لا يصرف شيئاً من المال في الحجّ وإنّما مصارفه على الباذل، ويكون حاله بعد الحجّ كحاله قبل الحج، فلا يقع في الحرج بسبب سفره إلى الحجّ، بخلاف الاستطاعة المالية، فإنّه لو صرف جميع ما عنده من المال في الحجّ بحيث لو رجع إلى بلده ولا مال له لكفاية نفسه وعياله يكون سفره إلى الحجّ مستلزماً لوقوعه في الحرج فيرتفع وجوبه.
نعم، لا يجب الحجّ بالبذل فيما لو وقع المبذول له في الحرج من جهات اخر ولو على سبيل الندرة، كما لو فرضنا أنّ كسب الشخص منحصر في خصوص أشهر الحجّ، فلو سافر إلى الحجّ في هذه الأشهر لا يتمكّن من الكسب أصلًا ويتعطّل أمر معاشه في طول السنة.
ثمّ إنّه لو كان له مال لا يفي بمصارف الحجّ وبذل له ما يتمّم ذلك وجب عليه القبول؛ لصدق العَرْض بذلك ولا يختصّ عنوان عرض الحجّ ببذل تمام النفقة، فإنّ الميزان تحقّق الاستطاعة ولو بالتلفيق بين ما عنده من المال وما بذل له. ولكن يعتبر حينئذٍ الرجوع إلى الكفاية؛ لأنّ المفروض أنّ له مالًا فيشمله قوله عليه السلام: «يحجّ ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله».
•
بذل نفقة الحج للمديون، لا إشكال في عدم منع الدين من وجوب الحجّ في الاستطاعة البذلية فيما إذا كان المكلّف متمكّناً من أداء الدين بما عنده من المال، أو فيما إذا كان الدين مؤجّلًا ولم يكن سفر الحجّ منافياً لأدائه، أو كان الدين حالًّا مع عدم مطالبة الديّان، وكذا إذا لم يتمكّن من أداء دينه ولو تدريجاً مع ترك الحجّ.
•
الاستطاعة المحققة بالهبة، لو وهب المال واهب وأطلق ولم يذكر الحجّ لا تعييناً ولا تخييراً فالمنسوب إلى المشهور عدم وجوب قبول الهبة حينئذٍ.
•
إجزاء الحج البذلي عن حجة الإسلام، أنّ الحجّ البذلي مجزٍ عن حجّة الإسلام مطلقاً، فإن استطاع المبذول له بعد الإتيان بالحجّ البذلي لا يجب عليه الخروج للحجّ مرّة اخرى.
لا إشكال في جواز رجوع الباذل عن بذله قبل أن يدخل المبذول له في الإحرام، سواء أعطاه المال على نحو البذل وإباحة التصرّف أو كان على نحو الهبة إذا لم تكن لذي رحم أو لم يتصرّف فيها تصرّفاً مانعاً عن الرجوع؛ لقاعدة سلطنة الناس على أموالهم، وجواز الرجوع في الهبة.
وأمّا بعد الإحرام ففي جواز رجوع الباذل عن بذله قولان: جواز الرجوع وعدم جوازه.
واستدلّ للثاني بأنّه يجب على المبذول له حينئذٍ إتمام العمل، وإذا وجب عليه الإتمام فليس للباذل الرجوع؛ لاستلزامه تفويت الواجب عليه وعدم قدرته على الإتمام، نظير من أذن لغيره في الصلاة في ملكه، فإنّه بعد الشروع في الصلاة ليس للمالك الرجوع عن إذنه؛ لأنّه يستلزم قطع الصلاة وهو محرّم شرعاً.
واجيب عن ذلك:
أوّلًا: بمنع وجوب إتمام العمل على المبذول له؛ لأنّ الاستطاعة كما هي شرط لوجوب الحجّ حدوثاً كذلك هي شرط له بقاءً، فإذا زالت الاستطاعة بعد الإحرام- كما إذا فقد ماله أو رجع الباذل عن إذنه وامتنع من الإنفاق- انكشف أنّه غير مستطيع من أوّل الأمر، فلا يجب عليه الحجّ، وإذا لم يكن واجباً عليه لا يجب عليه الإتمام، والمفروض أنّه لم يأتِ به ندباً حتى يتمّه، وإنّما دخل في الإحرام بعنوان أنّه مستطيع وبعنوان حجّة الإسلام، ثمّ انكشف أنّه لم يكن ثابتاً عليه، وأمّا إتمام العمل لا بعنوان حجّ الإسلام فأمر يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، فله رفع اليد عن إحرامه والرجوع إلى بلاده.
وثانياً: لو فرض وجوب الإتمام على المبذول له فإنّما هو وجوب مخاطب به نفس المبذول له، وذلك لا يرتبط بالباذل ولا يوجب استمرار البذل على الباذل وصرف المال من كيسه على ذلك الرجل بعد أن رجع عن إذنه. وعليه فالصحيح جواز الرجوع للباذل عن بذله قبل الإحرام وبعده؛ لقاعدة سلطنة الناس على أموالهم.
وأمّا تنظير المقام بباب الإذن في الصلاة ففيه أنّ الكلام في المقيس عليه؛ لأنّ عدم جواز رجوع المالك عن إذنه في الصلاة يتوقّف على وجوب إتمامها وحرمة قطعها على الإطلاق وهو أوّل الكلام؛ إذ لا دليل على حرمة قطع الصلاة سوى الإجماع والقدر المتيقّن منه غير هذا المورد، فحينئذٍ إذا رجع المالك عن إذنه كان بقاء الرجل ومكثه في الدار غصباً ومعه تبطل الصلاة.
وقد يتمسّك لعدم جواز الرجوع بقاعدة الغرور. ولكن اورد عليه بأنّ أقصى ما تدلّ عليه قاعدة الغرور إنّما هو ضمان الغارّ لمصاريف العمل الذي وقع بأمره، فيجوز للمغرور الرجوع إلى الغارّ فيما صرفه في سبيل العمل الواقع حسب أمره وإذنه، ولا يثبت بها عدم جواز رجوع الباذل عن بذله، فيمكن له الرجوع إلى شخص ماله، ولكن يضمن ما صرفه المبذول له، فلا منافاة بين ثبوت الضمان على الباذل وجواز رجوعه عن بذله.
على أنّ هذه القاعدة غير ثابتة على الإطلاق وإنّما وردت في موارد خاصّة، ولا دليل عليها سوى النبوي المرسل.
نعم، وردت في باب تدليس المرأة رواية فيها لفظ الغرور: «وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة كما غرّ الرجل وخدعه»،
وهي ضعيفة بمحمد ابن سنان. ومضافاً إلى ذلك أنّ الغرور في المقام غير صادق؛ لأنّه يتوقّف على علم الغارّ وجهل المغرور، وكون الغارّ قاصداً لإيقاع المغرور في خلاف الواقع، وأمّا ما نحن فيه فالباذل قد لا يكون عالماً بالرجوع عن البذل وقد يحدث ذلك من باب الاتّفاق؛ لعدم وفاء ماله بالبذل أو لأغراض وجهات اخر.
ثمّ إنّ السيّد الخوئي بعد القول بجواز الرجوع بعد الإحرام ذكر أنّه إذا رجع بعد الدخول في الإحرام وجب على المبذول له إتمام الحجّ إذا كان مستطيعاً فعلًا؛ لحصول الاستطاعة الملفّقة من البذلية والملكية، وهي كافية لثبوت الوجوب، وذكر أيضاً أنّ الباذل حينئذٍ ضامن لما صرفه المبذول له للإتمام. واستدلّ عليه بأنّ الإذن في الشيء إذن في لوازمه؛ لقيام السيرة العقلائية على أنّ كلّ عمل يقع بأمر الغير وإذنه يقع مضموناً عليه. وأيضاً حكم بأنّ الباذل ضامن لما صرفه المبذول له؛ للعود فيما إذا رجع الباذل في أثناء الطريق، لما مرّ آنفاً.
وقد وافقه بعض الفقهاء في الحكم بالضمان في كلا الفرعين، ولكن ذهب في الفرع الأوّل إلى وجوب إتمام الحجّ على المبذول له وإن لم يكن مستطيعاً فعلًا إن لم يكن في ذلك حرج عليه.
وبعض آخر وإن وافقه في الفرع الأوّل في الحكم بوجوب الإتمام عليه في خصوص صورة الاستطاعة، إلّا أنّه ناقش في ضمان الباذل في كلا الفرعين، فإنّه قال: «إنّه لا موجب للضمان، فإنّ قاعدة الغرور لا تجري في المقام؛ لإقدام المبذول له على الدخول في العمل مع علمه بأنّ للباذل الرجوع عن بذله، وجواز الهبة له نظير ما إذا أذن لجاره وضع خشبة بنائه على جداره، ثمّ طلب منه رفعها، فإنّ الضرر على الجار برفعها أمر قد أقدم عليه الجار؛ ولهذا يفرّق بين المصالحة على وضعها وبين مجرّد الإذن والرضا في وضعها، فإنّه لا أثر للرجوع في الأوّل؛ للزوم الصلح بخلاف مجرّد الرضا. وممّا ذكرنا يظهر أنّه إذا رجع الباذل في أثناء الطريق فلا موجب لكون نفقة العود عليه، كما أنّه لو رجع عن البذل بعد الشروع في الأعمال، فإن لم يكن المبذول له مستطيعاً مع قطع النظر عن البذل أو صار مستطيعاً بعد رجوعه عن بذله ولم يمكن إدراك الحجّ بإعادة الإحرام... لا يجب عليه الإتمام؛ لانكشاف عدم كونه مكلّفاً بحجّة الإسلام، والمفروض أنّه أحرم له. نعم، إذا كان مستطيعاً أو أمكن تدارك الإحرام بعد استطاعته يجب عليه حجّة الإسلام ولم يكن في البين موجب لضمان الباذل.
ودعوى أنّ أمر الغير بفعل يوجب الضمان لا يخفى ما فيه، فإنّ ذلك فيما إذا أتى الفعل للغير بحيث يكون له اجرة أو يتوقّف على صرف المال ممّا لا ينفذ رجوعه عن إذنه».
لا يجب الحجّ إذا بذل المالك نفقة الحجّ لواحد غير معيّن من جماعة كثيرة بحيث أوجبت كثرتهم عدم صدق عرض الحجّ في نظر أهل العرف، أو أوجبت الشكّ في صدق ذلك وعدمه، كما إذا بذل الرجل نفقة الحجّ لأحد الأفراد الذين لم يحجّوا من أهل مدينة كربلاء. نعم، إذا سبق واحد منهم فقبض المال من الباذل، فبذلك تحصل له الاستطاعة ويجب عليه الحجّ.
وأمّا إذا بذل المال لأحد شخصين لا على وجه التعيين بأن قال لعليّ وجعفر- مثلًا-: بذلت هذا المبلغ لأحدكما ليحجّ به، أو بذل لأحد أشخاص ثلاثة أو أربعة أو أكثر بحيث يصدق معه أنّه قد عرض الحجّ على أحدهم، فذهب السيّد اليزدي وغيره إلى وجوب الحجّ عليهم كفايةً، فلو ترك الجميع استقرّ عليهم الحجّ، فيجب على الكلّ؛ لصدق الاستطاعة بالنسبة إلى الكلّ، نظير ما إذا وجد المتيمّمون ماءً يكفي لواحد منهم، فإن تيمّم الجميع بطل.
ويظهر من السيّد الحكيم اختيار عدم الوجوب حيث ناقش في كلام السيّد اليزدي بأنّ الاستطاعة نوعان: ملكية وبذلية، وكلتاهما في المقام غير حاصلة؛ أمّا الملكيّة فلانتفاء الملك على الفرض، وأمّا البذلية فلعدم شمول نصوص البذل له؛ لأنّ البذل وعرض الحجّ إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الشخص الخاص، وأمّا العرض للجامع بينه وبين غيره فلا معنى له، فلا تشمله النصوص.
وأجاب عنه السيّد الخوئي بأنّ البذل للجامع بما هو جامع وإن كان لا معنى له؛ لعدم إمكان تصرّف الجامع في المال، ولكنّ البذل في المقام في الحقيقة يرجع إلى البذل لكلّ شخص منهم، غاية الأمر مشروطاً بعدم أخذ الآخر، فمعنى البذل لهم تخييراً أنّ من أخذ المال منكم يجب عليه الحجّ ولا يجب على الآخر، وأمّا إذا لم يأخذه واحد منهم فالشرط حاصل في كلّ منهم، فيستقرّ عليهم الحجّ، نظير ما إذا وجد المتيمّمون ماءً يكفي لواحد منهم، فإن تيمّم الجميع يبطل. نعم، تفترق مسألة التيمّم عن المقام في الجملة، وهو أنّه في باب التيمّم يجب السبق إلى أخذ الماء على من كان متمكّناً من الغلبة ومنع الآخر ودفعه، ولا يجب التسابق في المقام؛ لأنّ المال بذل على نحو الواجب المشروط، وإيجاد الشرط غير واجب.
وحاصل ذلك- كما في المناسك-: أنّه إذا بذل مال لجماعة ليحجّ أحدهم فإن سبق أحدهم إلى قبض المال المبذول سقط التكليف عن الآخرين، ولو ترك الجميع مع تمكّن كلّ واحد منهم من القبض استقرّ الحجّ على جميعهم.
وقد ظهر إلى هنا أنّ في المسألة ثلاثة أقوال:
وجوب السبق عليهم لقبض المال المبذول، فإذا سبق أحدهم وقبض المال اختصّ به وتحقّقت له الاستطاعة البذلية ووجب عليه الحجّ وسقط التكليف عن الآخرين، وإذا ترك الكلّ مع تمكّنهم جميعاً من السبق ومن قبض المال استقرّ الحجّ عليهم جميعاً.
عدم وجوب السبق عليهم ولكن إن سبق أحدهم إلى قبض المال المبذول سقط التكليف عن الآخرين، ولو ترك الجميع مع تمكّن كلّ واحد منهم من القبض استقرّ الحجّ عليهم جميعاً.
عدم وجوب السبق عليهم وعدم استقرار الحجّ مع ترك الجميع. واستدلّ للقول الأخير بما تقدّم من عدم شمول نصوص البذل للمقام؛ لأنّ البذل وعرض الحجّ إنّما يتحقّق بالنسبة إلى الشخص المعيّن، وأمّا العرض للجامع فلا معنى له، وقد تقدّم الجواب عن ذلك.
وهناك وجه آخر لعدم شمول النصوص للمقام، وهو أنّ مدلول تلك النصوص وجوب الحجّ على المبذول له، وكلّ من الاثنين أو الثلاثة لم يبذل له الحجّ، بل المبذول له هو السابق منهم إلى الأخذ بالبذل ولم يقم في المقام دليل على وجوب السبق إلى الأخذ، ولذا لو لم يسبق أحد منهم إلى الأخذ لم يجب الحجّ على أحدهم فضلًا عن استقراره على كلّ منهم.
وبالجملة: السبق إلى أخذ البذل يدخل السابق في موضوع وجوب الحجّ بالبذل، وإدخال المكلّف نفسه في موضوع التكليف غير لازم، والبذل على الجامع وإن كان معقولًا إلّا أنّه غير مشمول للروايات المتقدّمة.
وعلى هذا، فإذا بذل مال لجماعة ليحجّ أحدهم، فإن سبق أحدهم بقبض المال المبذول وجب عليه، ولو ترك الجميع القبض مع تمكّن كلّ واحد منهم من القبض لم يستقرّ الحجّ عليهم.
لا يجب بالبذل إلّا الحجّ الذي هو وظيفة المبذول له على تقدير الاستطاعة، فلو كانت وظيفته حجّ التمتّع فبذل له حجّ القران أو الإفراد لم يجب عليه القبول وبالعكس؛ لأنّ البذل لا يغيّر وظيفته من قسم خاص إلى قسم آخر من الحجّ، وإنّما البذل يوجب دخوله في موضوع الاستطاعة، وببركة النصوص التزمنا بأنّ الاستطاعة ليست منحصرة في الاستطاعة المالية، بل هي أوسع من ذلك وأعمّ من المالية والبذلية، والفرق بينهما إنّما هو من جهة نوع الاستطاعة، وأمّا من حيث الوظيفة المقرّرة له من القران والإفراد والتمتّع فلا فرق بينهما.
وكذلك الحال لو بذل لمن حجّ حجّة الإسلام، فإنّه لا يجب عليه القبول؛ لأنّ المفروض أنّه قد أدّى الواجب ولا يجب عليه الإتيان ثانياً.
ومثل ذلك أيضاً ما لو بذل له مصرف العمرة المفردة؛ لأنّه لو كان له مال لا يجب فكيف بالبذل؟! والوجه ما تقدّم من أنّ البذل لا يغيّر وظيفة المبذول له.
وقد تعرّضوا هنا لفرضين يجب القبول فيهما:
ما إذا استقرّت عليه حجّة الإسلام وصار معسراً، فبذل له المال، فإنّه يجب عليه القبول؛ لحصول القدرة على الامتثال بهذا البذل، فإنّ الواجب عليه إتيان الحجّ متى قدر عليه وتمكّن منه ولو بالقدرة العقلية، فإنّ حال الحجّ حينئذٍ حال سائر الواجبات الإلهيّة من اعتبار القدرة العقلية فيها فوجوب القبول في هذا المورد ليس لأجل شمول أخبار البذل للمقام؛ لأنّ تلك الأدلّة في مقام بيان اعتبار الاستطاعة الخاصّة في الحجّ، وأمّا وجوب الحجّ في هذا المورد فلم يعتبر فيه الاستطاعة المفسّرة في الروايات، بل حاله
حال سائر التكاليف من اعتبار القدرة العقلية في وجوب الإتيان بها، والمفروض حصول القدرة هنا، ولذا لو وهب له مال على نحو الإطلاق وجب عليه القبول؛ لأنّه يحصل له التمكّن من الامتثال والقدرة على الإتيان، فيجب عليه تفريغ ذمّته بحكم العقل.
ما إذا وجب عليه الحجّ بنذر أو نحوه ولم يتمكّن، فبذل له باذل وجب عليه القبول؛ لما تقدّم من أنّ القدرة الخاصّة المعتبرة في الحجّ المفسّرة في الروايات بالزاد والراحلة وغيرهما إنّما تعتبر في حجّة الإسلام خاصّة، وأمّا سائر أقسام الحجّ الواجبة، فلا يعتبر فيها إلّا القدرة العقلية المعتبرة في سائر الواجبات الإلهيّة، فمتى حصلت له القدرة على الامتثال ولو بالبذل أو الهبة وجب عليه القبول؛ لتفريغ ذمّته بحكم العقل.
لا فرق في وجوب قبول البذل بين أن يكون الباذل واحداً أو متعدّداً، فلو قال شخصان للمكلّف: حجّ وعلينا نفقتك، وجب عليه القبول؛
وذلك لإطلاق روايات عرض الحجّ كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت له: فإن عرض عليه ما يحجّ به فاستحيى من ذلك، أ هو ممّن يستطيع إليه سبيلًا؟
قال: «نعم»،
فإنّ المستفاد منه أنّ الموضوع لوجوب الحجّ عرض ما يحجّ به، ولا ريب في صدق ذلك على ما إذا كان الباذل متعدّداً.
هذا، مضافاً إلى خصوص صحيح معاوية بن عمّار قال: «فإن كان دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى»،
فإنّه صريح في كون الباذل متعدّداً.
•
الحج بالمبذول المغصوب ، إن بذل له مال فحجّ به ثمّ انكشف أنّه كان مغصوباً ففي كون حجّه مجزئاً عن حجّة الإسلام قولان: الأول، الإجزاء، وهو مختار بعض الفقهاء.القول الثاني: عدم الإجزاء عن حجّة الإسلام، وهو مختار غير واحد منهم.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۴۶۹-۴۹۸.