الاستطاعة المالية للرجوع إلى الكفاية
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الاستطاعة المالية للرجوع إلى الكفاية
المشهور
بين الفقهاء، بل ادّعي عليه
الإجماع بأنّه يعتبر في
الاستطاعة الرجوع إلى كفاية من تجارةٍ أو
زراعة أو صناعة أو منفعة ملك له من بستان أو دكّان أو نحو ذلك بحيث لا يحتاج إلى السؤال بعد الرجوع.
وورد في كلام بعضهم تقييد ذلك بصورة لزوم الحرج؛ لأنّ الدليل على
الاعتبار عنده ليس إلّا قاعدة نفي الحرج ونحوها، وعليه فلو لم يقع في الحرج فلا يسقط عنه الحجّ.
ولكن ذهب جمع آخرون إلى عدم
اعتبار الرجوع إلى الكفاية في الاستطاعة كابن أبي عقيل و
ابن الجنيد - على ما نقل عنهما
العلّامة الحلّي - و
السيّد المرتضى و
ابن إدريس وغيرهم.
ونسب
المحقّق الحلّي هذا القول إلى أكثر الأصحاب،
كما نسبه
المحقّق البحراني إلى المشهور».
واستدلّ على اعتبار الرجوع إلى الكفاية بوجوهٍ:
الأوّل: الإجماع على ذلك.
واورد عليه- بعد منعه؛ لوجود المخالف في المسألة-: أنّه مدركيّ، والإجماع المعتبر هو التعبّدي الموجب للقطع بصدور الحكم عن
المعصوم عليه السلام لا المدركي، وفي المقام يحتمل أن يكون مدركه بعض الوجوه المذكورة في المسألة فلا يكون الإجماع حجّةً.
الثاني: أصل البراءة عن وجوب الحجّ، فإنّه مع عدم وجود ما به الكفاية يشكّ في وجوبه، و
الأصل عدم وجوبه.
واورد عليه بأنّه مع وجود الإطلاقات في الأدلّة لا تصل النوبة إلى
الأصل العملي .
الثالث: منع صدق الاستطاعة بدون الرجوع إلى الكفاية.
واورد عليه بأنّ الظاهر صدقها بمجرّد القدرة المالية على الذهاب و
الإياب ، مع أنّ الاستطاعة قد فسّرت في الأخبار المتقدّمة بالزاد والراحلة وتخلية السرب وصحّة البدن وأن يكون عنده ما يحجّ به، ومقتضى إطلاقها المقامي عدم دخالة شيء آخر في تحقّقها ما لم يدلّ دليل معتبر على دخالة شيء آخر فيها.
ولكن قد يقال هنا: إنّ ظاهر آية الحجّ الشريفة وكذا الأخبار المفسّرة لها هو أن يكون المكلّف واجداً لما يزيد على حاجته في إعاشته الاعتيادية، فمن لم يكن ممّن يرجع إلى الكفاية لم يكن مستطيعاً، كما أنّ من لم تكن عنده نفقة عياله لم يكن مستطيعاً.
الرابع: جملة من الأخبار:
منها: صحيح
ذريح المحاربي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «من مات ولم يحجّ
حجّة الإسلام ، لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحجّ، أو سلطان يمنعه، فليمت يهوديّاً أو نصرانيّاً».
فإنّه يدلّ على أنّ الحاجة التي تجحف به تكون مانعةً عن وجوب الحجّ، وواضح أنّه مع عدم مئونة العيال في مدّة سفره، وكذا عدم وجود ما به الكفاية عند الرجوع زائداً على نفقة الحجّ وعلى مئونة العيال أيّام سفره بحيث يلزم من الحجّ صرف مئونة العيال وصرف ما به الكفاية عند الرجوع في سبيل الحجّ يكون ذلك إجحافاً به، فتدلّ هذه الرواية على عدم وجوب الحجّ مع عدم مئونة العيال في مدّة سفره، وكذا مع عدم ما به الكفاية عند الرجوع.
واورد على الاستدلال به بأنّ
الإجحاف أمر مشكّك ذو مراتب نظير عنوان القدرة في المال واليسار والسعة، وما ورد من تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة في الحقيقة مفسّر لهذه العناوين، فيعلم من الأخبار المفسّرة للاستطاعة أنّ المراد من عدم حصول الإجحاف هو كونه واجداً للزاد والراحلة ما لم يرد دليل تعبّدي آخر على اعتبار وجدانه شيئاً آخر زائداً على ذلك.
واجيب عن ذلك بأنّ الظاهر من تفسير الاستطاعة أنّ الحكم بالسفر إلى الحجّ متوقّف على
الزاد والراحلة وتخلية السرب وصحّة
البدن ، وهذا لا ينافي
اشتراط وجوب الحجّ بأن يكون عنده مئونة العيال مدّة سفره وعنده ما به الكفاية عند الرجوع، وهذا يدور مدار الدليل على ذلك، والإجحاف ليس من العناوين المجملة.
نعم، للإجحاف مراتب وبعض مراتبه أشدّ من بعض، وهذا لا يوجب
الإجمال في معناه، فكلّ مرتبة من مراتبه التي يصدق عليها الإجحاف مانع من وجوب الحجّ وإن كانت مرتبته الاخرى أشدّ، ولا إشكال في صدق الإجحاف إذا لم يكن عنده ما به الكفاية عند الرجوع.
ومنها: ما رواه
الصدوق في
الخصال بإسناده عن
الأعمش عن
جعفر بن محمّد عليهما السلام- في حديث
شرائع الدين - قال: «وحجّ البيت واجب على من استطاع إليه سبيلًا، وهو الزاد والراحلة مع صحّة البدن، وأن يكون للإنسان ما يخلفه على عياله وما يرجع إليه بعد حجّه».
وقد استدلّ بالفقرة الأخيرة على اعتبار الرجوع إلى الكفاية.
وأورد عليه
السيّد الحكيم بإجمال «ما يرجع إليه بعد حجّه» من حيث المدّة وأنّها سنة أو أقلّ أو أكثر، ومن حيث الكمّ وأنّه قليل أو كثير.
ثمّ قال: «وحمله على ما لا بدّ له منه عند الرجوع- بقرينة دليل نفي الحرج- رجوع إلى الدليل المذكور».
واجيب عن ذلك بأنّه لا إجمال فيه أصلًا، فإنّ مقصود
الإمام عليه السلام- واللَّه أعلم- أن لا يرجع عن الحجّ مع التحيّر و
اختلال نظم كسبه ومعاشه بحيث يقع في الحرج، فإن كان تاجراً فلا بدّ أن يبقى عنده من المال بعد الحجّ ما يشتغل بتجارته كما في السابق أو مزارعاً فبزراعته أو
أجيراً فبإجارته أو نحو ذلك، ومع حصول الاختلال في اموره لا يكون مستطيعاً منذ البداية.
وأمّا ما أفاده من لزوم الرجوع إلى دليل نفي الحرج فنقول: إنّه لا يلزم ذلك أصلًا؛ لأنّه يفهم من نفس الرواية أنّ معنى الاستطاعة يقتضي عدم وقوعه في الحرج بعد الرجوع وإن لم تكن هناك قاعدة
باسم قاعدة نفي الحرج .
وأمّا سند الحديث فقد تقدّم الكلام فيه.
ومنها: خبر أبي الربيع الشامي ، وله نسختان فقد رواه المشايخ الثلاثة مسنداً هكذا: سئل أبو عبد اللَّه عليه السلام عن قول اللَّه عزّ وجلّ «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»،
فقال: «ما يقول الناس؟» قال: فقلت له: الزاد والراحلة، قال: فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: «قد سئل
أبو جعفر عليه السلام عن هذا؟ فقال: هلك الناس إذاً، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس، ينطلق إليهم فيسلبهم إيّاه، لقد هلكوا إذاً، فقيل له: فما السبيل؟ قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله، أ ليس قد فرض اللَّه الزكاة فلم يجعلها إلّا على من يملك مائتي درهم؟!».
ورواه
المفيد من دون ذكر السند هكذا:
«روى
أبو الربيع الشامي عن
الإمام الصادق عليه السلام قال: سئل عن قوله عزّ وجلّ: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قال: «ما يقول فيها هؤلاء؟»، فقيل له: يقولون الزاد والراحلة، فقال عليه السلام: «قد قيل ذلك لأبي جعفر عليه السلام فقال: هلك الناس إذا كان من له زاد وراحلة لا يملك غيرهما أو مقدار ذلك... ممّا أن يحجّ بذلك، ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه، لقد هلك إذاً، فقيل له: فما السبيل عندك؟ فقال: السعة في المال، وهو أن يكون معه ما يحجّ ببعضه ويبقى بعض يقوت به نفسه وعياله...»».
ووجه دلالة النسخة الاولى على اعتبار الرجوع هو أنّ المراد من قوله عليه السلام: «ويبقي بعضاً لقوت عياله» هو
إبقاء مقدار من المال لقوت عياله حتى بعد رجوعه من الحجّ، فالمقصود حينئذٍ هو قوته وقوت عياله لا قوت عياله فقط، وعليه فكما يدلّ الحديث على اعتبار وجود مئونة العيال كذلك يدلّ على اعتبار وجود ما به الكفاية بعد الرجوع.
واورد عليه: أنّ هنا احتمالًا آخر، وهو أن يكون المراد إبقاء قوت عياله فقط في مدّة غيبته، وعليه فيدلّ على اعتبار مئونة العيال لا اعتبار ما به الكفاية بعد الرجوع، فالخبر على حسب هذه النسخة مجمل ولا معيّن لأحد الاحتمالين.
ويمكن أن يقال: إنّ الظاهر من الخبر هو
الاحتمال الأوّل؛ وذلك بقرينة قوله عليه السلام: «من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن الناس»، فإنّ ظاهر
الاستغناء استغناؤه به بحسب العادة وبقول مطلق، لا في خصوص مدّة الذهاب والإياب أو في سنة. مع أنّ ما فيه من اعتبار السعة في المال لا يجامع وجوب بيع عقاره وبضاعته اللتين لا تقدحان في
استحقاقه الزكاة إذا لم يف حاصلهما بمئونة السنة.
وأمّا دلالة الخبر حسب نسخة المفيد على اعتبار ما به الكفاية بعد الرجوع فواضحة؛ لقوله عليه السلام: «ثمّ يرجع فيسأل الناس بكفّه»، وكذا ظاهر قوله عليه السلام:
«ويبقي بعضاً يقوت به نفسه وعياله»
هو وقت رجوعه، وإلّا فكيف يقوت نفسه بذلك البعض مع أنّه قد خرج إلى الحجّ؟!.
ومنها: صحيح
هارون بن حمزة الغنوي في رجل مات ولم يحجّ حجّة
الإسلام ولم يترك إلّا قدر نفقة الحجّ وله ورثة؟ قال: «هم أحقّ بميراثه إن شاءوا أكلوا، وإن شاءوا حجّوا عنه».
ومنها: صحيح
معاوية بن عمّار أو حسنه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في رجل توفّي وأوصى أن يحجّ عنه؟ قال: «إن كان
صرورة فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب، وإن كان قد حجّ فمن ثلثه، ومن مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم يترك إلّا قدر نفقة الحمولة وله ورثة فهم أحقّ بما ترك، فإن شاءوا أكلوا، وإن شاءوا حجّوا عنه».
فإنّهما يدلّان على عدم وجوب الحجّ عن الميّت على الورثة في صورة عدم تركه المال إلّا بقدر نفقة الحجّ، فيعلم من ذلك أنّه يعتبر في وجوب الحجّ عنه على الورثة وجدانهم أمراً زائداً عليها، وهو الرجوع إلى الكفاية.
واورد عليه بأنّ غاية ما يدلّان عليه اعتبار شيء زائد على قدر نفقة الحجّ، وأمّا اعتبار وجدانه لمقدار ما به الكفاية بعد الرجوع فلا يدلّان عليه، فلعلّه يكفي أن يكون واجداً لمئونة العيال إلى زمان عوده إلى وطنه زائداً على نفقة الحجّ.
ومنها: ما في
مجمع البيان في تفسير آية الحجّ المباركة: «المروي عن
أئمّتنا عليهم السلام أنّه الزاد والراحلة ونفقة من تلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية، إمّا من مال أو ضياع أو حرفة».
واورد عليه: بأنّ ظاهره بيان لمضمون الأخبار بحسب فهم الناقل، وعلى فرض كونه رواية فهو ليس بحجّة؛
للإرسال .
الخامس: لزوم الحرج والمشقّة، فإنّ من يرجع إلى بلاده ولم يجد ما يصرفه على نفسه أو عياله ولم يكن قادراً على التكسّب اللائق بحاله من التجارة والصناعة ونحو ذلك ممّا يعيش به حسب وجاهته واعتباره يقع في الحرج والمشقّة، وهو منفيّ في الشريعة.
وعليه فالعبرة إنّما هي بحصول الحرج بعد الرجوع، فلو لم يقع في الحرج فلا يعتبر الرجوع إلى الكفاية.
ثمّ إنّه ينبغي التعرّض هنا لأمرين:
۱- هل يعتبر في الرجوع إلى الكفاية- بناء على القول بها- وجدان المكلّف لضياع أو كسب أو عقار ونحوها ممّا يكفيه
لإعاشته إلى آخر السنة أو أقلّ، أو أزيد، أو أن المعتبر وجدانه لذلك إلى آخر العمر؟
قال
الشهيد الثاني : «ليس في كلامهم تصريح بشيء، فيمكن أن تكون مئونة السنة قوّة أو فعلًا؛ لأنّها الكفاية والغنى الشرعيّان، ويمكن اعتبار ما فيه الكفاية عادة بحيث لا يحوجه صرف المال في الحجّ إلى سؤال الناس كما تشعر به رواية أبي الربيع».
وقد أفاد بعض الفقهاء أنّ ما هو المعتبر هنا هو اشتراط كونه ذا صناعة أو كسب أو
عقار أو
ضياع ونحو ذلك حتى لا يصير الحجّ سبباً لوقوعه في العسر والحرج، وأمّا اعتبار بقاء ذلك الضياع أو الكسب أو الصناعة إلى آخر العمر أو إلى سنة أو إلى يوم واحد- مثلًا- فلا وجه له؛ إذ الدليل المعتمد عليه هو قاعدة نفي العسر والحرج، ولا إجمال في هذه القاعدة من حيث الزمان، وعليه لو فرضنا في يوم رجوعه عن الحجّ تلف ضياعه أو انتفت قدرته على التكسّب، فإنّ ذلك لا يكشف عن عدم كون حجّه صحيحاً مجزياً عن حجّة الإسلام؛ إذ ليس الموقع له في العسر والحرج هو الحجّ، بل يجري هذا أيضاً بناءً على كون
المستند في اعتباره هو الأخبار؛ لأنّه- بعد فرض تسليم تماميّتها سنداً ودلالةً- لا يستفاد منها إلّا كونه واجداً بعد الحجّ لما يكفيه لإعاشته من مال يتكسّب به أو ضياع يستفيد منها أو نحو ذلك، وأمّا اعتبار بقاء ذلك إلى مدّة أو إلى آخر العمر فهو ممّا لا تدلّ عليه النصوص لا صراحةً ولا ظهوراً.
۲- المتعيش بالوجوه الشرعية اللائقة به كطلبة العلم إذا حصل له مقدار مئونة الذهاب والإياب ومئونة عياله في مدّة السفر، والفقير الذي شغله أخذ الصدقات وغيرها ولا يقدر على التكسّب، إن لم يكن لهما ما به الكفاية بعد الرجوع، هل يجب عليهما الحجّ أم لا؟
ذهب بعض الفقهاء- كالسيّد اليزدي- إلى الوجوب،
بينما ذهب بعض آخر إلى عدم الوجوب، لاعتبار وجود ما به الكفاية بعد الرجوع في هذه المسألة أيضاً.
وقد أفاد
السيّد الشاهرودي أنّه إن كان المستند في اعتبار الرجوع إلى الكفاية هو الأخبار اتّجه القول بعدم الوجوب؛ لعدم واجديّته له لا بالفعل ولا بقوّة التكسّب، وإن كان المستند فيه هو قاعدة نفي العسر والحرج اتّجه القول بوجوبه عليه؛ لعدم لزوم الحرج من وجوب الحجّ عليه، بل حاله قبل الحجّ وبعده سواء.
ووافقه بعض الفقهاء فيما أفاده أخيراً من وجاهة القول بالوجوب عليه إن كان المستند هو قاعدة نفي الحرج.
وأمّا ما أفاده أوّلًا من وجاهة القول بعدم وجوب الحج عليه إن كان المستند هو الأخبار، فهو لا يوافق صحيح ذريح المتقدّم المشتمل على قوله عليه السلام: «لم تمنعه عن ذلك حاجة تجحف به»، فإنّه لا يمكن
الاستناد به للقول بعدم الوجوب هنا؛ إذ مع وجود ما يستغنى به من مثل الزكاة و
الخمس لا إجحاف.
نعم، توافق ما ذكره رواية أبي الربيع الشامي المتقدّمة حسب نقل المفيد وكذا الروايات الوارد فيها عنوان القوّة في المال أو القدرة فيه أو اليسار وما شابه ذلك من التعبيرات.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۵۰۲-۵۱۰.