الاكتساب المكروه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو ما اشتمل على وجه نهى
الشارع عنه نهي تنزيه علم من طريق العقل أو النقل، إلّاإذا وجب عيناً أو كفاية أو تخييراً، فإنّه لا كراهة فيه كما تقتضيه القواعد في
الحسن والقبح . ومعنى كراهيتها رجحان تركها مطلقاً.
والمكروهات من
الاكتساب امور كثيرة، أهمّها ما يلي:
ومن ذلك: الصرف الذي لا يسلم صاحبه من
الربا .وبيع الأكفان الذي يسرّ بايعها الوباء.وبيع الطعام الذي يؤدّي إلى
الاحتكار وحبّ الغلاء، بل وسلب الرحمة من القلب.وبيع الرقيق؛ فإنّ شرّ الناس من باع الناس.
واتّخاذ الذبح والنحر صنعة، والذي قد يورث قساوةً في القلب.والصياغة، حيث ورد أنّ الصائغ يعالج زين- أو رين- أمّتي.
ولا خلاف في شيء من ذلك، والنصوص به مستفيضة
:
منها: ما رواه
إبراهيم بن عبد الحميد عن
أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قال:«جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول اللَّه، قد علّمت ابني هذا الكتابة، ففي أيّ شيء أسلمه؟ فقال: أسلمه للَّه أبوك ولا تُسلمه في خمس، لا تسلمه سبّاءً ولا صائغاً ولا قصّاباً ولا حنّاطاً ولا نخّاساً، قال: فقال: يا رسول اللَّه، ما السبّاء؟ قال: الذي يبيع الأكفان، ويتمنّى موت امّتي، وللمولود من امّتي أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس، وأمّا الصائغ فإنّه يعالج زين امّتي، وأمّا القصّاب فإنّه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه، وأمّا
الحنّاط فإنّه يحتكر الطعام على امّتي، ولئن يلقى اللَّه العبد سارقاً أحبّ إليّ من أن يلقاه قد احتكر الطعام أربعين يوماً، وأمّا النخّاس فإنّه أتاني جبرئيل فقال:يا محمّد، إنّ شرار امّتك الذين يبيعون الناس».
ومنها: رواية
إسحاق بن عمّار ، قال:دخلت على
أبي عبد اللَّه عليه السلام فخبرته أنّه ولد لي غلام... قلت: جعلت فداك، في أيّ الأعمال أضعه؟ قال: «إذا عدلته عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت: لا تُسلمه صيرفياً؛ فإنّ الصيرفي لا يسلم من الربا، ولا تسلمه بيّاع أكفان؛ فإنّ صاحب الأكفان يسرّه الوباء إذا كان، ولا تسلمه بيّاع طعام؛ فإنّه لا يسلم من الاحتكار، ولا تسلمه جزّاراً؛ فإنّ الجزّار تسلب منه الرحمة، ولا تسلمه نخّاساً، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: شرّ الناس من باع الناس».
واستظهر بعض الفقهاء من هذه الأخبار- كغيرها-
اختصاص الكراهة باتّخاذ ذلك حرفة وصنعة- على وجه يكون صيرفياً، وبيّاع أكفان، وحنّاطاً، ونخّاساً، وجزّاراً- دون أن يصدر منه ذلك أحياناً.هذا في غير بيع الرقيق، وأمّا فيه فذُكر أنّه قد يُناقش من جهة عموم العلّة.وفيه: أنّ المذكور في العلّة كراهة بيع الناس، الذي هو اسم الجمع المحلّى المفيد للعموم، وهو وإن كان غير مراد ولكن لم تثبت
إرادة من يبيعه أحياناً، فيقتصر على القدر المتيقّن.
ويقصد بذلك العمل ببعض المهن الوضيعة مثل التكسّب باتّخاذ
الحياكة والنساجة صنعة وحرفة؛ لما فيها من الضعة والرذالة.وكذا
الحجامة إذا اشترط
الأجرة على العمل المضبوط بالمدّة أو العدد، فلا يكره لو عمل بغير شرط، وإن بذلت له بعد ذلك.كما لا خلاف
في كراهة التكسّب بضراب الفحل،
وهو أن يؤاجر فحله لذلك مع ضبطه بالمرّة والمرّات المعيّنة أو بالمدّة أو بغير
الإجارة .ولو دفع إليه صاحب الدابّة على جهة الهدية والكرامة فلا كراهة.
واستدلّ لجميع ذلك بجملة من الأخبار:
منها: رواية أبي إسماعيل الصيقل الرازي، قال: دخلت على أبي عبد اللَّه عليه السلام ومعي ثوبان، فقال لي: «يا أبا إسماعيل، يجيئني من قبلكم أثواب كثيرة، وليس يجيئني مثل هذين الثوبين». فقلت: جعلت فداك، تغزلهما امّ إسماعيل وأنسجهما أنا، فقال لي:«حائك؟» قلت: نعم. فقال: «لا تكن حائكاً...».
ومنها: رواية
طلحة بن زيد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّي أعطيت خالتي غلاماً، ونهيتها أن تجعله جزّاراً أو حجّاماً أو صائغاً».
ومنها: موثّقة
زرارة ، قال: سألت
أبا جعفر عليه السلام عن كسب الحجّام؟ فقال:«مكروه له أن يشارط، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماكسه، وإنّما يكره له ولا بأس عليك».
ومنها: رواية
الصدوق في الفقيه، قال:نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن عسيب الفحل، وهو أجر الضراب.
وحُمل على التنزيه؛
للإجماع .
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: قلت له:أجر التيوس، قال: «إن كانت العرب لتعايرعيّرته كذا وعيّرته به: قبّحته عليه ونسبته إليه، يتعدّى بنفسه وبالباء.
به، ولا بأس».
ورد في الشريعة مرجوحية الاكتساب الذي ترده الشبهة، ومن ذلك اكتساب الصبيان ومن لا يتورّع عن المحرّمات، حيث ذكروا أنّه يكره كسب الصبيان المجهول أصله؛ لما يدخله من الشبهة الناشئة من
اجترائه على ما لا يحلّ؛ لجهله أو علمه
بارتفاع القلم عنه.أمّا لو عُلم اكتسابه من محلّل ومباح فلا كراهة، وإن أطلق بعضهم، بل قيل:الأكثر.كما أنّه لو علم تحصيله أو بعضه من محرّم- كالقمار- وجب
اجتناب ما علم منه أو اشتبه به. ومحلّ الكراهة تكسّب الولي به أو أخذه منه أو الصبي بعد رفع الحجر عنه، وكذلك غير الولي.
قال
المحقّق النراقي فيما يكره التكسّب به: «التكسّب بما يكتسب به الصبيان بنحو
الاحتطاب والاحتشاش فيما لم تعلم
الإباحة أو الحرمة، أي يكره للولي أن ينقله إلى نفسه أو غيره، أو يتصرّف فيه بالتصرّفات الجائزة، وأمّا الواجبة- كحفظه من التلف أو صرفه فيما يحتاج إليه الصغير- فواجب. وكذا يكره لغير الولي بأن يشتريه من الولي».
وفي حكم الصبيان كلّ من يعلم أنّه لا يجتنب ولا يتورّع عن المحرّمات في تكسّبه،
كالإماء في بعض البلاد إلّامع الأمانة، وكذلك العشّار والظلمة والمتعاملين معهم في أموالهم المحرّمة، بل المشتبهة، بل كلّ من لا يؤمن في اجتنابه عن المحرّمات، بل عن المشتبهات؛ لصدق الشبهة المستحبّ اجتنابها للروايات المستفيضة.
ولفحوى رواية
السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن كسب الإماء، فإنّها إن لم تجد زنت، إلّا أمة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعةً بيده، فإنّه إن لم يجد سرق».
قال
المحقّق النراقي: «المراد أنّهما مظنّتان لذلك، فيسري الحكم إلى كلّ من هو مظنّة لأخذ كلّ محرم، بضميمة الإجماع المركب، والتخصيص المصرّح به فيها محمول على شدّة الكراهة، وإلّا فيكره في غير محلّ التخصيص مع عدم
الاطمئنان أيضاً؛ لما ذكر، ولعلّه تتفاوت مراتب الكراهة بتفاوت المظنّة».
وقال المحقّق الأردبيلي: «يكره التصرّف في مال من لا يجتنب المحارم، بل أشدّ، وكذا المعاملة معه، كالعشّار، وحكّام الجور، وكذا أخذ جوائزهم؛ لعموم دلالة الاجتناب، والترغيب إلى التقوى، والزهد في الدنيا، مع عدم المعارض».
المشهور
كراهة أخذ الأجرة على تعليم
القرآن الكريم ،
بل ادّعي عليه الإجماع.
قال
الشيخ الطوسي : «يكره أخذ الأجرة على تعليم شيء من القرآن ونسخ المصاحف، وليس ذلك بمحظور، وإنّما يكره إذا كان هناك شرط، فإن لم يكن هناك شرط لم يكن به بأس».
واستدلّ له بالروايات:
منها: رواية
حسّان المعلّم ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن التعليم، فقال: «لا تأخذ على التعليم أجراً»، قلت: فالشعر والرسائل وما أشبه ذلك أشارط عليه؟قال: «نعم، بعد أن يكون الصبيان عندك سواء في التعليم لا تفضّل بعضهم على بعض».
ومنها: ما رواه زيد بن علي عن آبائه عن
علي عليهم السلام: «أنّه أتاه رجل فقال:يا أمير المؤمنين، واللَّه، إنّي احبّك للَّه، فقال له: لكنّي ابغضك للَّه، قال ولم؟ قال:لأنّك تبغي في
الأذان ، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً، وسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظّه يوم القيامة».
ومنها: رواية الأعشى، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اقرئ القرآن فتهدى إليّ الهدية، فأقبلها؟ قال: «لا»، قلت: إنّي لم اشارطه، قال: «أرأيت لو لم تُقرئ كان يُهدى لك؟» قال: قلت: لا، قال: «فلا تقبله».
ومنها: رواية
إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه السلام قال: قلت له: إنّ لنا جاراً يكتب، وقد سألني أن أسألك عن عمله، قال: «مُره إذا دُفع إليه الغلام أن يقول لأهله: إنّي إنّما اعلّمه الكتاب والحساب وأتّجر عليه بتعليم القرآن حتى يطيب له كسبه».
ولا تنافيها رواية الفضل بن أبي قرّة، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: هؤلاء يقولون: إنّ كسب المعلّم سحت. فقال:«كذبوا أعداء اللَّه، إنّما أرادوا أن لا يعلّموا القرآن، لو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلّم مباحاً»؛
لأنّ غايتها
انتفاء الحرمة، وهو لا ينافي الكراهة، مع أنّ المستفاد منها انتفاء الحرمة في مطلق التعليم دون تعليم القرآن.
وحمل بعضهم جملة الأخبار الناهية عن الأجرة والمبالغة في تحريمها وأنّها سحت، على التقيّة، كما حملت على الواجب من تعليم القرآن.
قال المحدّث البحراني: «المفهوم من كلام الأصحاب هو العلم بالخبر...(الأخير) الدالّ على الجواز، وحمل الأخبار الأخر على الكراهة، اشترط أو لم يشترط».ثمّ أضاف: «ولا يبعد عندي حمل جملة الأخبار الناهية عن الاجرة، والمبالغة في تحريمها، وأنّها سحت، على التقيّة، كما هو ظاهر الخبر...
(الأخير)، بل صريحه. ويؤيّده ما ذكره الأصحاب هنا من أصالة الحلّ، وإشاعة معجزته صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ القرآن هو أظهر معاجزه صلى الله عليه وآله وسلم، ولزوم
اندراسه ، فإنّك لا تجد أحداً ينصب نفسه ويترك معاشه وتحصيل الرزق له ولعياله ويجلس لتعليم القرآن لأولاد الناس بغير أجرة تعود إليه».
وجوّز بعضهم قبول الهدية لمعلّم القرآن إذا لم يكن أجراً وشرطاً؛ لرواية جرّاح المدائني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «المعلّم لا يعلّم بالأجر، ويقبل الهدية إذا اهدي إليه».
بل أجيب عمّا ربما يقال بكراهة أخذ الهدية مطلقاً أيضاً؛ لرواية الأعشى المتقدّمة، بأنّها إنّما تدلّ على كراهة قبول الهدية على قراءة القرآن دون تعليمه.ثمّ استظهر من هذه الرواية كراهة التكسّب بقراءة القرآن الكريم.
وذهب جماعة إلى كراهة التكسّب وأخذ الأجرة بكتابة ونسخ القرآن الكريم مع الشرط في ذلك،
بل ادّعي عليه الإجماع.
كما يُكره
الاكتساب بتعشير -المراد بالتعشير بالذهب هو كتابة كلمة العشر بالذهب عند كلّ عشر آية من كلّ سورة على ما هو المرسوم الآن أيضاً.-
المصحف وكتابته بالذهب وبغير السواد مطلقاً.
ولم يستبعد بعضهم
إلحاق تذهيب الأجزاء والأنصاف والأحزاب والجداول ونحوها بالتعشير.
وفي موثّقة
سماعة ، قال: سألته عن رجل يعشّر المصاحف بالذهب، فقال: «لا يصلح»، فقال: إنّه معيشتي، فقال: «إنّك إن تركته للَّهجعل اللَّه لك مخرجاً».
وفي خبر محمّد الورّاق، قال: عرضت على أبي عبد اللَّه عليه السلام كتاباً فيه قرآن مختّم معشّر بالذهب وكتب في آخره سورة بالذهب فأريته إيّاه، فلم يعب فيه شيئاً إلّا كتابة القرآن بالذهب، فإنّه قال:«لا يعجبني أن يكتب القرآن إلّابالسواد كما كتب أوّل مرّة».
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۲۰۷-۲۱۴.