حجية الإقرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
قبل الشروع في بيان حجّية
الإقرار يلزم أن نعرف أنّ الإقرار مشروعٌ، بل يكون واجباً أيضاً عندما يتوقّف عليه
إرجاع حقوق العباد إليهم، كما أنّ
الإنكار أمام القاضي سوف يكون حراماً وكذباً، بل ومنعاً لحقّ الغير، وهو محرّم أيضاً. كما أنّ فحوى بعض ما دلّ على حجّية الإقرار هو المفروغية عن شرعيّته. هذا في الإقرار بحقوق العباد، أمّا الإقرار بحقوق اللَّه سبحانه فقد ورد في النصوص الحثّ على عدمه وعلى الكتمان وعدم فضح النفس، فراجع حيث يبحث في مصطلح (إفشاء، اعتراف، كتمان).
أمّا على مستوى قيمة الإقرار وتأثيره، فلا إشكال ولا خلاف بين الفقهاء
في حجّية الإقرار؛ بمعنى نفوذه على المقرّ وجواز الأخذ بمقتضاه وترتيب آثاره- بل وجوبه أحياناً- إذا توفّرت جميع شرائطه على ما سيأتي في شرائط الإقرار. وقد صرّح بذلك جماعة من الفقهاء،
بل قد ادّعي عليه إجماع العلماء
بل المسلمين أو الضرورة؛
ولذا أرسله كثير منهم إرسال المسلّمات ورتّبوا على حجّيته الفروع.
وقد استدلّ لذلك- مضافاً إلى
الإجماع المدّعى- بامور:
ومن ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ• فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».
وقوله تعالى: «وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ• وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ• أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ».
وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيرَاً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا».
وقوله تعالى: «سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ• قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ• وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ• فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ».
قال
العلّامة الحلّي : «وهو معتبر بالكتاب والسنة والإجماع، أمّا الكتاب...(إلى أن قال:) قال المفسرون: شهادة المرء على نفسه إقراره، والآيات في ذلك كثيرة في القرآن العزيز».
قال
الشهيد الأوّل : «وشرعه ثابت بالكتاب... وبالسنة... وبالإجماع».
ومثله ما ذكره
ابن فهد الحلّي .
قال
المحقّق الأردبيلي : «وفي القرآن العزيز آيات كثيرة تدلّ على اعتباره في الجملة».
ومثله ما قاله
السيّد الطباطبائي وغيره.
ومع ذلك لا يسلم
الاستدلال بالآيات المذكورة من الإشكال في بعضها، فقد حكى المحقّق الأردبيلي عن تذكرة العلّامة الحلّي ما نصّه: «والأخيرة أظهر في المطلوب».
ومراده من الأخيرة الآية الرابعة، أي قوله تعالى: «شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ».
وعلّق في
زبدة البيان قائلًا: «دلالة غير الأخيرة (أي الرابعة) على الإقرار المطلوب غير ظاهرة. نعم، الأخيرة (أي الرابعة) ظاهرة فيه، وما كان ينبغي نقل هذه العقود بهذه الأدلّة، ولكن نقلتها اتّباعاً؛ و
لإظهار عدم فهم الدلالة على ما فهمت».
ولعلّ وجه عدم دلالة الآية الاولى هو ظهورها من صدرها إلى ذيلها في أخذ الميثاق والتعهّد، و
إعطاء الميثاق والعهد غير الإقرار كما لا يخفى، والتعبير بالإقرار في الآية ليس المراد منه
الاعتراف بحقّ سابق، وإنّما إمضاء هذا التعهّد الواقع بينهم وبين اللَّه تعالى.
وأمّا الآية الثانية فلا يستفاد منها أكثر من تأثير الإقرار والاعتراف بالذنب في تخفيف العقوبة الثابتة بدليلها، وأمّا تأثير الإقرار في ترتّب العقوبة فلا. وأمّا الآية الثالثة فهي وإن كانت ظاهرة في الإقرار والاعتراف، إلّاأنّها ليست ظاهرة في أنّ ترتيب الآثار على
الأمر المعترف به أيضاً يكون بسبب الاعتراف و
اعتماداً عليه، بل الآثار إنّما تترتّب لثبوت الأمر المعترف به في الواقع، و
أثر الاعتراف في هذا المجال
إسكات المقرّ وسدّ باب
الاعتراض .
ولعلّ هذا
الاحتمال كالصريح في هذه الآية: «أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذَا غَافِلِينَ• أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا»؛ إذ من المعلوم أنّ العذاب
يوم القيامة ليس لإقرارهم بالشرك بل لنفس الشرك، وأخذ الإقرار إنّما هو سدٌ لباب الاعتراض، وهذا البيان بعينه يجري في الآية الخامسة أيضاً. كما أنّ الآية الرابعة لا تدلّ على أكثر من حسن الإقرار بالواقع وعدم الكتمان، ولو كان بضرر المقرّ؛ دفعاً للنزاع والمراء تكويناً،
كما ورد النهي عنه في الأخبار الكثيرة أيضاً. وأمّا نفوذ هذا الإقرار وترتيب آثار المقرّ به واقعاً فليست الآية بصدد بيانه كما لا يخفى، خصوصاً بعد ملاحظة عطف الوالدين والأقربين، بعد وضوح عدم نفوذ الإقرار عليهم قطعاً. وهذا قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآية ليس بيان النفوذ الشرعي. وقد صرّح ببعض ذلك بعض محقّقي المعاصرين.
بل
الإنصاف أنّ هذه الآيات لا تقع في سياق بيان حجّية الإقرار بوصف ذلك أمراً تشريعياً له آثاره القانونية، ولهذا نجد أنّها أتت في سياق المسائل الاخروية أو ما شابه ذلك، وفي لسانٍ من هذا النوع يصعب تكوّن ظهور للآيات في القضايا القانونية التي نحن بصددها هنا.
يضاف إلى ذلك أنّ الكتاب لو دلّ فقد يكون مجرّد
إرشاد إلى البناء العقلائي الحاكم بنفوذ الإقرار وحجّيته.
وهي مجموعتان:
الاولى: ما دلّ على نفوذ الإقرار وحجّيته بالمطابقة.
الثانية: ما دلّ على نفوذه بالملازمة.
ومن نماذج المجموعة الاولى من الروايات: النبويّان المرسلان عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، وقال: «لا إنكار بعد إقرار».
وقد ادّعى
المحقّق النجفي استفاضة الأوّل منهما أو تواتره،
كما علّق
الشيخ الحرّ العاملي عليها بقوله: «رواه جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم».
ومن ذلك أيضاً رواية
جرّاح المدائني عن
الإمام الصادق عليه السلام : «لا أقبل شهادة الفاسق إلّاعلى نفسه».
ولا إشكال في هذه الأخبار إلّا ضعف سندها، إلّاإذا قيل بتواتر الرواية الاولى، والظاهر من عبارة المحقّق النجفي عدم ثبوت هذا التواتر عنده؛ لتردّده بينه وبين
الاستفاضة . نعم، سيجي ثبوت المضمون- وهو الحجّية- بسائر الأدلّة، وهذا أمرٌ آخر. ومنها: النبوي المرسل الآخر: «قل الحقّ ولو على نفسك».
ويناقش- إلى جانب
الإرسال - بضعف الدلالة أيضاً، حيث يجاب عنه بما تقدّم في التعليق على الاستدلال بقوله تعالى: «ولو على أنفسكم» فلا نعيد.
مرسلة
محمّد بن الحسن العطار عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه».
وهذا الخبر- مع ضعف سنده- اورد عليه بأنّه غير تام دلالةً؛ لاحتمال أن يكون من قبيل ما ورد في أخبار حمل فعل المؤمن على الصحّة، مثل قوله عليه السلام: «كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولًا فصدقه وكذّبهم...»،
ومعه فتكون الرواية بصدد بيان قضية أخلاقيّة لا علاقة لها بباب القضاء.
ما استدلّ به ابن فهد الحلّي من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر اللَّه، فإنّه من يبدي لنا صفحته نُقِم عليه حدّ اللَّه».
وقد يناقش- علاوة على ضعف السند بالإرسال وغيره- أنّ المراد منه قطعاً خصوص
الإبداء الكاشف شرعاً الذي تترتّب عليه الآثار التي منها الحدّ، وأمّا أنّ الحجّة ما هي؟ وهل هي الإقرار أم لا؟ فليس في الرواية دلالة عليه، وليس فيها
إطلاق لكلّ
إبداء وإظهار حتى يشمل الإقرار ونحوه، بل هي بصدد بيان الحكم في الجملة. نعم، ورد في رواية
زيد بن أسلم في رجل اعترف بالزنا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر به فجلده، ثمّ قال: أيّها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود اللَّه تعالى، فمن أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر...»،
فهذه الرواية موردها الإقرار، إلّاأنّ الحديث ضعيف أيضاً بالرفع حتى في طرق الجمهور.
وأمّا المجموعة الثانية فهي أخبار كثيرة مذكورة في الأبواب المختلفة من الحدود والديات والقصاص والقضاء و
الإرث وفروع النزاع من أبواب المعاملات، ممّا دلّ على ترتيب الآثار على الإقرار- قولًا أو فعلًا- وهي تكشف بالملازمة عن حجّية الإقرار ونفوذه عند الشارع؛ لعدم احتمال خصوصية في هذه الموارد والمقامات على تشتّتها وتعدّدها واختلافها. بل قد ارسل في كثير من هذه الأخبار إرسال المسلّمات حيث وقع البحث فيها عن فروعه دون بحث عن أصله، ومعنى ذلك أنّه كان المرتكز في أذهان الرواة المتشرّعة ذلك بوصفه من المسلّمات؛ ولذا لم يسألوا عن
أصل حجّية الإقرار ونفوذه على المقِرّ.
وقد استدلّ به بعض الفقهاء
على أساس أنّ العاقل لا يكذب على نفسه بما يضرّ بها، فإذا أقرّ على نفسه بما يضرّ بها- وهو عاقل حسب الفرض- فإنّ ذلك يكشف على وجه القطع عن ثبوت المقرّ به في حقّه.
قال: «ولهذا كان آكد من الشهادة؛ لأنّ المدّعى عليه إذا اعترف لم تسمع عليه الشهادة (أي لا حاجة إلى الشهادة)، وإنّما الشهادة يحتاج إليها إذا أنكر، ولو كذّب المدّعي بيّنتَه لم تسمع (البيّنة)، وإن كذّب المقرُّ (المدّعى) ثمّ صدّقه سُمع».
وقد يلاحظ على هذا التقريب لدليل العقل أنّه غير دقيق؛ إذ قد يكذب العاقل على نفسه بما يضرّها لبعض الدواعي العقلائية، كما إذا كان لدفع ضرر آخر عن نفسه أو عن غيره ممّا يتعلّق به، بل غير العقلائية أيضاً كبعض حالات البغض والحبّ، وكم له من نظير. يضاف إلى ذلك أنّ عدم
إقدام العاقل على ما يضرّه بلا داع عقلائي ليس من القضايا العقلية، بل هو من الفطريات الوجدانيّة.
نعم، يمكن افتراضه بناءً عقلائياً يعمل وفقه العقلاء في امورهم
الاجتماعية بهدف حسم مادة النزاع في الخصومات والدعاوى والمرافعات؛ ولو لغلبة عدم إقرار العاقل على نفسه بما يضرّه، فهذه الحكمة وإن لم تكن علّةً مطّردة في جميع الإقرارات إلّاأنّها تبرّر هذا البناء العقلائي، فالمورد من الموارد العقلائية لا العقلية.
بل سيرتهم العملية على الأخذ بمقتضى الإقرارات من دون ردع من جانب الشريعة عن هذا
الارتكاز والسيرة، وهما بملاك قوّة الكشف نوعاً، بل قد مرّت الأخبار الكثيرة مؤكّدةً على الأخذ به و
إمضائه ، والارتكازات والسيرة العقلائية حجّة قطعيّة كما ثبت في محلّه من
علم الأصول .
بل ذكر بعض الفقهاء أنّه حتى لو لم يحصل لدينا جزم بمفاد هذا
الارتكاز العقلائي في عصر المعصوم، فلا أقلّ من الجزم بأنّه إمّا كان واضحاً أو كان مقبولًا أو كان محتملًا، وعلى أيّ تقدير لا نحتمل مخالفة ذلك من قبل المتشرّعة من دون سؤال من المعصوم وحصول الجواب منه بنفي نفوذ الإقرار، ولو كان لوصل حتماً، ممّا يؤكّد جريان سيرة المتشرّعة أيضاً على نفوذ الإقرار.
نعم، حيث كان بناء العقلاء من الأدلّة اللبّية غير اللفظيّة فلا إطلاق له بالنسبة للحالات المختلفة وإنّما يؤخذ بالقدر المتيقن منه، فلابدّ في كلّ حالة من البحث فيها والفحص في موردها بخصوصها من حيث شمول السيرة لها على نحو الجزم والقطع، وعدمه. وسيأتي الكلام فيه عند التعرّض لبعض هذه الحالات.
وعليه فيكون الاستدلال بالسيرة العقلائية بحسب الدقّة- وهي دليل قطعي على الحكم الشرعي إذا لم يردع عنه الشارع- ولم يردع- بل الأدلّة اللفظية المتقدّمة تدلّ على إمضائه من قبل الشارع. وهذا هو الدليل المهم والأساسي؛ لأنّ الآيات والروايات المتقدّمة إمضائية وليست تأسيسية، فلا يثبت بها أكثر ممّا هو ثابت بالسيرة العقلائية. ويمكن أن يستدلّ على حجّية الإقرار بالسيرة المتشرعية والإجماع، بل الضرورة الفقهية أيضاً؛ إذ لا شك في حجّيته في الجملة. إلّاأنّ هذه الأدلّة كلّها أدلّة لبّية لا إطلاق لها لكي يرجع إليه عند الشكّ والتردّد في حجّية الإقرار لجهة من الجهات ما لم يحصل العلم أو
الاطمئنان بشمول
السيرة العقلائية أو المتشرّعية أو الإجماع لذلك المورد أيضاً.
ومن هذا القبيل ما ذكره بعض الفقهاء من الشكّ في نفوذ الإقرار في بعض الموارد التي تبلغ حدّ القتل أو قطع العضو، فإنّ قيام الارتكاز على نفوذه في القضايا المالية لا يساوق نفوذه في القضايا الجزائية والجنائية. إلّاأنّ الصحيح أنّ هذا الشكّ في جريان السيرة غير صحيح؛
لإحراز سيرة العقلاء والمتشرّعة والإجماع على نفوذ الإقرار في هذه القضايا. نعم، وردت بعض الموارد الخاصّة التي دلّ الدليل على عدم نفوذ الإقرار فيها إلّا بقيد كقيد تكرّره أربع مرّات في حدّ الزنا مثلًا، أو قيد عدم الرجوع في بعض الحدود، وهكذا.
ومن هذه الموارد التي قد يطرأ فيها الشكّ حالة لزوم سبق الدعوى للإقرار وعدمه، فلو سأل المدّعي كان الإقرار نافذاً، أمّا إذا لم يسأل فيشكّ في نفوذ الإقرار
الابتدائي ، من باب أنّ حقّ المدّعي لا يكون جائزاً له إلّاعند مسألته على تفصيلات تذكر في محلّها.
لا ريب في عدم نفوذ إقرار أحد في حقّ الغير؛ لعدم دليل على نفوذه إلّافي حقّ نفسه، بل لعدم صدق الإقرار عليه حينئذٍ حتى يدّعى شمول أدلّة نفوذ الإقرار له، بل هو مجرّد
إخبار و
إسناد شيء إلى الغير، بل لا يصدق عليه الدعوى أيضاً؛ لخلوّه عن المطالبة بالحقّ، فليس إقراراً حتى يبحث عن شمول أدلّته له، ولا هو دعوى حتى تترتّب عليه أحكامها، بل وليس شهادة على الغير أيضاً؛ لأنّ الشهادة فرع وجود مدعٍ وقضاء. وهذا كلّه معلوم، فلا يحتاج مع ذلك إلى الاستدلال بأدلّة نفي الضرر والضرار و
ادّعاء أنّ الإقرار على الغير
إضرار به كما يظهر من بعض،
إذ ذلك بمثابة التقييد وليس كذلك الأمر كما هو واضح.
نعم، سيأتي الكلام في الإقرار بالنسب ونفوذه في الإقرار بالولد مع صغره بلا حاجة إلى التصديق ولو بعد البلوغ وثبوت النسب من الجانبين، وهذا أمر على خلاف القاعدة قد دلّ عليه الدليل كما سيأتي تفصيله.
الإقرار من وسائل الإثبات القضائي؛ لما فيه من الكشف عن الواقع، وليس هو مجرّد إعفاء للخصم من إثبات الواقعة المقرّ بها، أو أنّه ليس دليلًا بل يغني عن الدليل، كما يفهم من بعض كلمات علماء القانون المعاصرين.
ولا يقف الإقرار عند كونه دليلًا وإثباتاً قضائياً، بل يحتلّ مرتبة عالية في
الإثبات القضائي تفوق البيّنة الظنية، كما صرّح بذلك بعض الفقهاء؛
لأنّ احتمالات خلاف الواقع فيه تظلّ أقلّ منها في البيّنة الظنية؛ ولهذا إذا أقرّ المدّعى عليه حُسم الخلاف فوراً.
الموسوعة الفقهية، ج۱۶، ص۱۵- ۲۴.