رجوع الأرحام في الهبة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا يرجع في
الهبة لأحد الوالدين بعد القبض وفي غيرهما من ذوي
الرحم على الخلاف.
(ولا يرجع في الهبة لأحد الوالدين بعد القبض و) كذا (في غيرهما من ذوي الرحم على الخلاف) فيهم. ظاهر العبارة هنا وصريحها في
الشرائع كعبارة التحرير
الإجماع على المنع من الرجوع فيها إذا كانت لأحد
الأبوين واختصاصه بهما، وقال في المختلف : وإذا وهب الأب ولده الصغير أو الكبير وأقبضه لم يكن للأب الرجوع في الهبة إجماعاً، ولو كان لغير الولد من ذوي
الأرحام فللشيخ فيه قولان.
وظاهره الدلالة على عدم وقوع الخلاف إذا كانت الهبة من
الأب للأولاد، ووقوعه إذا كانت من الأولاد لآبائهم. وفي الدروس قصر الإجماع بعدم الرجوع على هبة الأب ولده الصغير.
ويفهم منه وقوع الخلاف في الكبير وفي الآباء.
ومقتضى الجمع بين هذه الكلمات وقوع الإجماع على عدم جواز الرجوع إذا كانت لأحد الأبوين وإن علا، أو الأولاد وإن نزلوا، كما صرّح به
الصيمري والشهيد الثاني،
حاكياً عن المصنّف ما يدلّ عليه، وإن اختصّ عبارته بالإجماع في الوالدين، وحكي التصريح بالإجماع كذلك عن
التذكرة والمهذّب والمحقق الثاني،
لكنه لم يصرّح بالإجماع، بل نفى الخلاف عنه بيننا، وبه على مطلق ذي الرحم صرّح في الغنية؛
وهو الحجّة.
مضافاً إلى الأصل، وعموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالعقد من الكتاب والسنّة، والمعتبرة المستفيضة عموماً وخصوصاً، فمن الأوّل : المعتبرة الثلاث،
ومنها الصحيح : إنما مثل الذي يرجع في هبته كالذي يرجع في قيئه. ونحوها الخبر، بل هو بالدلالة على اللزوم أظهر : «أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك، فإذا خرجت إلى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها».
وهي بعمومها تشمل الهبة للأبوين والأولاد، كما هو إجماع، ولغيرهم من ذوي الرحم، كما هو الأظهر الأشهر، وعليه عامّة من تأخّر إلاّ من شذّ وندر،
وفاقاً للمفيد وأحد قولي الطوسي وللديلمي والقاضي وابن زهرة
مدّعياً عليه كما عرفت إجماع
الإماميّة .
ومن الثاني : في مطلق ذي الرحم الصحاح، منها : «الهبة و
النحلة يرجع فيها صاحبها إن شاء، حيزت أو لم تُحَزْ، إلاّ لذي رحم فإنه لا رجوع فيها».
ومنها : عن الرجل يهب
الهبة ، أيرجع فيها إن شاء أم لا؟ فقال : «تجوز الهبة لذوي القرابة والذي يثاب من هبته، ويرجع في غير ذلك إن شاء»
ونحوهما صحيح آخر.
والمراد بالجواز فيه اللزوم بقرينة السؤال والسياق.
ومنه : في هبة الوالد للولد خاصة الموثق والمرسل القريب منه المتقدمان في
اشتراط القبض،
ونحوهما موثق آخر يأتي ذكره.
ومنه في هبة الولد للُامّ الموثق : عن رجل أعطى أمّه عطيّة فماتت وكانت قد قبضت الذي أعطاها وبانت به؟ قال : «هو والورثة فيها سواء».
ولا قائل بالفرق. خلافاً للانتصار، فجوّز الرجوع مطلقاً ولو كان المتّهب أباً أو أولاداً، مدّعياً عليه
الإجماع .
وهو شاذّ، ولا عبرة بإجماعه بعد ظهور وهنه بمصير الأكثر إلى خلافه، ومعارضته بالإجماعات المستفيضة في ردّه، مع
استفاضة المعتبرة المتقدمة عموماً وخصوصاً بخلافه، فقوله ضعيف غايته، وإن مال إليه في الكفاية لنصوص قاصرة السند والدلالة عن المقاومة لما مرّ من الأدلّة، وإن كانت في حدّ ذاتها معتبرة، منها الموثق : «أما الهبة والنحلة فإنه يرجع فيها حازها أو لم يحزها وإن كانت لذي قرابة».
قال بعد أن ذكرها وذكر الصحاح الخاصة المعارضة لها ـ : ويمكن الجمع بينهما بحمل الصحاح وما في معناها على الكراهة الشديدة، وهو أولى من اطراح الأخبار الثلاثة المعتبرة.
وفيه : أن الجمع بذلك فرع المكافأة، وهي لاعتضاد الصّحاح بالأصل والشهرة العظيمة، والإجماعات المحكية البالغة حدّ الاستفاضة، وفقد هذه المرجّحات في الأخبار الثلاثة مع قصور أسانيدها مفقودة.
مع احتمالها الحمل على وجهٍ لا يستلزم
اطراحها بالمرّة، بأن يقال : قوله : «وإن كانت لذي قرابة» قيد لقوله : «أو لم يحزها» يعني أنه إذا لم يحزها فله الرجوع فيها مطلقاً وإن كانت لذي قرابة، وهو معنىً صحيح، وإن كان بالنظر إلى ظاهرها بعيداً، لكن مع احتماله وإن بَعُد لا يستلزم العمل بتلك الصحاح تركها بالمرّة كما ذكره، بل
ارتكاب مثله مع ما هو عليه من البُعد أولى من حمل تلك الصحاح على الكراهة الشديدة كما ذكره.
وبما ذكرناه يظهر الجواب عما ذكره أخيراً بقوله : ومع قطع النظر عن الأخبار الثلاثة المذكورة قد وقع التعارض بين تلك الصحاح وصحيحة زرارة
وما في معناها مما يدل على جواز الرجوع مطلقاً، كموثقة
عبيد بن زرارة ،
وصحيحة جميل والحلبي عن
أبي عبد الله عليه السلام قال : «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع، وإلاّ فليس له».
ويمكن الجمع بوجهين : حمل المطلق على المقيّد، وثانيهما : حمل أخبار المنع على الكراهة، والترجيح للثاني، ويشهد له الأخبار الثلاثة المذكورة. إلى آخر ما ذكره. فإن الجمع بما ذكره فرع قوّة ما قابل الصحاح من الأخبار، وهي لما عرفت مفقودة. مع أنه على تقدير التكافُؤ والقوة فالجمع الأوّل من حمل المطلق على المقيّد، مع أوفقيّته بالأصل في المسألة أرجح من الحمل على الكراهة من وجوه عديدة، وقد قامت بإثباته الأدلّة القاطعة من الفتوى والرواية، ولا كذلك الحمل على الكراهة، إذ لم يقم على إثباتها شيء من الأدلّة.
نعم، ربما يرتكب في موضع لم يبلغ المنع فيه درجة الحجّة لقصوره عن المقاومة للأدلّة المبيحة، أو بلغها ولكن عارضه ما يكافئه من الأدلّة المبيحة، فيرتكب حينئذٍ الحمل على الكراهة، لأصالة
الإباحة ، أو غيرها من الأُصول الشرعيّة، وليس مفروض المسألة من شيء من الموضعين، لما عرفت من فقد المكافأة، وتوافق الأُصول الشرعيّة مع ما دلّ على عدم جواز الرجوع في الهبة بعد القبض لذي القرابة.
مع اعتضادها كالأخبار الدالّة عليه بما مرّ من عمومات المستفيضة الدالّة على عدم جواز الرجوع في الهبة بالكليّة، خرج منها ومن الأُصول الهبة لغير ذوي القرابة بالإجماع المحكي في
الغنية والمختلف وغيرهما من كتب الجماعة،
وبمفهوم الصّحاح المتقدمة، فتبقى فيهم على المنع دالّة، والعام المخصّص في الباقي حجّة على الأظهر الأشهر، بل عليه عامة علمائنا الإماميّة.
ومما ذكرنا ظهر ضعف القول بجواز الرجوع في هبة غير العمودين من الآباء والأولاد من ذوي القرابة، كما عن
الإسكافي والطوسي والحلّي،
مع
اضطرابٍ له في ذلك في المختلف عنه قد حكي.
وأمّا الصحيح والموثق الدالاّن على جواز رجوع الوالد في هبته لولده مطلقاً، كما في الأول : عن رجل كان له على رجل مال، فوهبه لولده، فذكر له الرجل المال الذي له عليه فقال له : ليس عليك فيه شيء في الدنيا والآخرة، قلت : يطيب ذلك له وقد كان وهبه لولد له؟ قال : «نعم يكون وهبه له ثم نزعه فجعله لهذا».
أو إذا كان كبيراً خاصة، كما في الثاني : عن رجل وهب لابنه شيئاً، أيصلح أن يرجع فيه؟ قال : «نعم، إلاّ أن يكون صغيراً».
ففيهما بعد ما عرفت من عدم التكافؤ، سيّما مع قصور سند الثاني أن الحكم فيه بالرجوع في هبة الولد الكبير لعلّه إنما هو من حيث عدم القبض، بأن يكون الموهوب بالغاً ولم يقبض، ولهذا حكم بلزوم الهبة للصغير من حيث إن
الأب قابض له كما مرّ. وبنحوه يقال في الصحيح : من أنه يحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حيث كون الهبة غير صحيحة؛ إمّا لكونها هبة لما في الذمّة لغير من هو عليه، وهو فاسد في المشهور بين الطائفة، وإن اختار فيها الصحة جماعة،
لأدلّة منها : خصوص هذه الرواية، نظراً إلى ظهور دلالتها عليها بلا شبهة، كما يعرب عنه قوله عليه السلام: «ثم نزعه». أو لأن من شرطها القبض ولم يحصل، فهي وإن انتقلت إليه بالعقد إلاّ أنه
انتقال متزلزل مراعى لزومه بالقبض.
واعلم أن المراد بالرحم في هذا الباب وغيره كالرحم الذي يجب صلته ويحرم قطعه مطلق القريب المعروف بالنسب وإن بَعُدت لحمته وجاز نكاحه، وفي
المسالك أنه موضع نصّ ووفاق.
وقيل : إنه من يحرم نكاحه خاصّة. وهو شاذّ محجوج بما ذكره من
الاتفاق على خلافه فتوًى ورواية؛ مضافاً إلى مخالفته العرف بلا شبهة.
رياض المسائل، ج۱۰، ص۲۱۵- ۲۲۱.