رد العين بعد مدة الإجارة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يجب على المستأجر رفع اليد عن العين المستأجرة بعد انقضاء مدة
الإجارة لو طلب منه المالك ذلك، نعم لو كان للمستأجر حق في إبقاء يده على العين بعد مدة الإجارة فسيأتي التعرض لحكمه.
أمّا وجه وجوب رفع اليد فلأنّه تسلّم العين لأجل استيفاء المنفعة، ومع انقضاء المدة وانقضاء عقد الإجارة لا وجه لبقائها في يده، فيجب عليه رفع اليد عنها، فإن امتنع منه لغير عذر صارت العين مضمونة بلا خلاف.
ثمّ إنّه هل يكفي رفع المستأجر يده عن العين بعد انقضاء المدة، أو أنّه يجب عليه الرد وتكون مئونة ذلك بعد مضي المدة عليه، أو انّه يجب ذلك عند مطالبة المالك؟ اختلفت كلمات الفقهاء في ذلك.
قال
ابن الجنيد: «اجرة حمل ما استؤجر وردّه على صاحبه على المستأجر إلّا أن يشترط ذلك».
وقال الشيخ
بوجوب الرد بعد مضي المدة وتكون مئونة ذلك عليه، نظراً إلى عدم كونها
أمانة مالكية في يده بعد انقضاء مدة الإجارة، فلا يجوز له الإمساك بعد انقضاء المدة، وإن جاز وضع اليد عليها شرعاً لغرض إيصالها إلى المالك فتكون العين حينئذٍ أمانة شرعية يجب ردّها على
الفور ، وإلّا كان ضامناً؛ لأنّ الأصل ضمان مال الغير إلّا ما خرج بالدليل.
هذا، ولكن حكم
الحلّي بعدم وجوب الرد إلّا بمطالبة المالك، فإن تلف قبل المطالبة لم يكن ضامناً
كالرهن ؛
لأصالة البراءة وبقاء العين أمانة بيده. بل ذكر جماعة منهم العلّامة والمحقق والشهيد الثانيين
عدم وجوب شيء على المستأجر بعد مطالبة المالك سوى التخلية بين المالك والعين كما في سائر الأمانات؛ لما مرّ من أصالة البراءة
واستصحاب الحالة السابقة،
وهذا هو الأشهر
أو المشهور بين المتأخّرين،
.
لو استأجر شخص دكاناً سنة- مثلًا- وكان قد اشترط على المؤجر ضمن العقد أو في عقد لازم آخر أن يكون له حق السكنى أو ايجاره للغير والاجرة للمالك قبال دفع شيء على سبيل الزيادة على
الاجرة أو فيها أو بدون شيء أصلًا لم يكن للمؤجر إخراجه وأخذ العين المستأجرة بعد انقضاء مدة الإجارة، بل عليه ابقاء العين تحت يد المستأجر ما لم يتنازل المستأجر عن هذا الحق أو ينقله إلى الغير بعوض أو مجاناً.
وللإجارة في الفرض المذكور صور:
إذا استأجر للزراعة مطلقاً ومن دون تعيين زرع خاص، فزرع فيها ما يبقى بعد المدة عادة فالظاهر من كلمات الفقهاء جواز القلع للمالك بعد انقضاء مدة الإجارة، لكنهم اختلفوا في أنّه هل للمالك منعه من زرع ذلك قبل انقضاء المدة أم لا؟
قال الشيخ: بأنّ للمكري منعه في الحال؛ لأنّ زرعه لذلك يستلزم البقاء بعد المدة مما يقتضي
التصرّف في ملك المؤجر بما لا يتناوله العقد، فيحتاج المطالبة بالقلع، والزرع ثابت في ملكه، وحيث يشق ذلك جعل له المنع في الحال ليتخلّص منه.
ثمّ قال: «لكن لو زرع لم يكن له أن يطالب بالقلع في الحال (أي قبل انتهاء مدة الإجارة)؛ لأنّ له حق الانتفاع بالأرض».
وتبعه العلّامة في الأخير، وإن استشكل في جواز المنع من الزرع.
وأورد عليه
المحقق الكركي بأنّه لو لم يكن للمالك المطالبة بالقلع لما كان له المنع من أوّل الأمر؛ لأنّه قد رضي بكلّ ما اقتضاه عقد الإجارة، فإذا كان هذا من مقتضياته لم يكن له المنع،
ومن هنا ذهب
فخر المحققين إلى عدم جواز منع المالك من زرع ما يبقى بعد المدة.
لو استأجر الأرض لخصوص ما يبقى بعد المدة ففي جواز قلعه بعد انقضائها مجاناً وعدمه أقوال:
ذهب بعض الفقهاء
إلى عدم جواز القلع مجاناً، نظراً إلى أنّ أصل الوضع في الزرع أو الغرس كان بحق، فلا بدّ من ثبوت الحق له بمقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لعرق ظالم حق»،
وإن قلنا بانتهاء حقه من حيث الإجارة ولكن لما كان للمؤجر حق في أرضه فلا بد من الجمع بين الحقين، والحكم بلزوم دفع المؤجر
للأرش مع القلع أو الرضا بالبقاء بالاجرة، والظاهر أنّ التخيير المزبور بيد المؤجر لترجيح حقه.
بل ربّما زاد الشيخ
وابن سعيد في وجوه التخيير بأن يكون للموجر دفع قيمة الغرس ليملكه، استناداً إلى النبوي: «من غرس في رباع قوم بإذنهم فله
القيمة ».
وروي مثله عن
أبي جعفر عليه السلام في رجل اكترى داراً وفيها بستان فزرع في البستان وغرس نخلًا وأشجاراً وفواكه وغير ذلك ولم يستأمر صاحب الدار في ذلك، فقال عليه السلام: «عليه الكري، ويقوّم صاحب الدار الزرع والغرس قيمة عدل، فيعطيه الغارس إن كان استأمره في ذلك، وإن لم يكن استأمره فعليه الكري وله الغرس».
واورد عليه بأنّ تملّك مال الغير من دون رضاه باطل بنص
الكتاب والسنة .
وفصّل فخر المحققين بين الزرع والغرس، فحكم باستحقاق المستأجر ابقاء الزرع بالاجرة، وعدم استحقاق المؤجر قلعه حتى مع دفع الأرش، وأمّا الغرس فحكم بجواز قلعه للموجر بلا أرش.
ولعلّ الوجه فيه: أنّ المنفعة المطلوبة في الزرع إنّما تحصل بعد إكمال الزرع، والقلع وعدم الابقاء يستلزم عدم ملكية المستأجر للمنفعة المتقوّمة المطلوبة بالإجارة.
وهذا بخلاف الغرس فإنّه يمتاز بأنّ له أمد أطول، ويمكن نقله من موضع إلى آخر.
هذا، ولكن ذهب جماعة من الفقهاء كالمحقق الكركي
والشهيد الثاني وغيرهما
إلى جواز القلع مجاناً، نظراً إلى أنّ تقدير المدة في العقد يقتضي التفريغ عند انقضائها، والأرض ملك المؤجر، فله أخذها خالية عن حق الغير، وحينئذٍ فلا يستحق المستأجر الإبقاء ولا الأرش أيضاً؛ لأنّ التقصير من قبله، حيث أقدم على استئجار الأرض مدة يعلم عدم درك الزرع فيها.
لو استأجر الأرض مدة يبلغ فيها الزرع عادة فإن قصّر وأخّر الزرع حتى ضاق الوقت كان للمالك إجباره على القلع بعد المدة؛
لأنّ المستأجر حينئذٍ بمثابة
الغاصب .
أمّا لو لم يقصِّر بل اتفق التأخير لتغير الهواء ونحوه ففي استحقاق المستأجر إبقاء الزرع بالاجرة وعدمه قولان:
فقد صرّح الشيخ وغيره بأنّ للمستأجر إبقاء الزرع بأُجرة المثل فيجب الصبر على المالك حينئذٍ.
واستدلّ له بأنّ ما خرج عن المدة وإن لم يتناوله العقد إلّا أنّه يستتبعه؛ لمفهوم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ليس لعرق ظالم حق»، وليس المستأجر هنا ظالم؛ لعدم كونه مقصّراً، فيجمع بين الحقين، وذلك بابقاء الزرع مع أخذ اجرة المثل حذراً من لزوم التكليف بما لا يطاق، وهو الأمر بالإزالة المؤدي إلى ضياع ماله، وهذا
ضرر لم يقدم عليه حال العقد.
أمّا المالك فلا يتضرر مع أخذ الاجرة أصلًا، بل يحتمل صدق المضار على المالك لو قلع الزرع بعد المدة فتشمله الفقرة الثانية من حديث لا ضرر.
ولو فرض عدم شمول القاعدة بكلتا فقرتيها للمقام أمكن التمسّك بعموم ما ورد: في رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى أله ذلك أم لا؟
فوقّع عليه السلام: «يتقي اللَّه ويعمل في ذلك بالمعروف، ولا يضر أخاه
المؤمن ».
هذا مضافاً إلى وجود ملاكات اخرى للمنع عن القلع في أمثال المقام نحو القاعدة العقلائية القاضية بالعدل
والإنصاف وحرمة
الإسراف والتبذير وإتلاف المال،
إلّا أنّه لا بد من تقييد ذلك بفرض عدم تضرّر المالك ببقاء الزرع في أرضه، فمع تعارض الضررين يرجع إلى القاعدة الأوّلية كقاعدة سلطنة المالك على أمواله، فيجوز له تخلية أرضه من الزرع.
وقد يقال بترجيح الأقوى ضرراً.
هذا ولكن ذهب بعض الفقهاء
إلى جواز القلع للموجر بلا أرش حتى مع عدم تضرّره بالإبقاء؛ إذ الأرض ملكه فيجوز له
إخلاؤها من مال الغير بمقتضى
قاعدة السلطنة مع عدم مانع في البين؛ إذ الاستدلال بلا ضرر مخدوش تارة من جهة أنّ مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ منه الضرر لا تشريع حكم يتدارك به الضرر.
واخرى أنّ لسان القاعدة امتناني وسياقها حفظ الحقوق والأموال لأهلها، فهي لا تشمل ما يوجب خلاف ذلك في حق الغير.
اختلفوا في تعلّق أرش نقص الأرض- الحاصل بقلع الزرع ومئونة رفعه بردم الحفر وطمّها- بذمة المستأجر وعدمه.
وكذلك اختلفوا فيمن تكون عليه مئونة القلع.
أمّا الأوّل فالمشهور عند بعض الفقهاء
عدم تعلّق أرش نقص الأرض في ذمة المستأجر إن كان قد اشترط عليه القلع بعد انتهاء المدة، كما لا يجب عليه ردم الحفر وطمّها لرضا المالك حين العقد بالقلع بعد المدة.
هذا فيما إذا قلع المستأجر بعد المدة.
أمّا لو قلع قبل انقضائها فهل يجب عليه ذلك؟
قال العلّامة: «يجب تسوية الحفر واصلاح الأرض».
ولو أطلق المالك ولم يشترط على المستأجر القلع بعد المدة فقد ذكر
الشيخ والعلّامة في بعض كتبه بوجوب تسوية الأرض ودفع الأرش حتى فيما لو قلع بعد المدة،
وذلك لما أدخله من نقص على ملك غيره بغير إذنه، إلّا أنّه أطلق في
القواعد عدم الأرش ولو في القلع قبل المدة.
وفصّل
المحقق الكركي بين القلع بعد المدة والقلع قبل انقضائها، فيلزم
الأرش في الثاني دون الأوّل؛ لأنّ تعيين المدة في الإجارة يقتضي التفريغ بعدها، فيكون مأذوناً في القلع بهذا الاعتبار، بخلاف ما لو قلع في أثناء المدة.
فلا إشكال في كونها على المستأجر الزارع إذا كان قبل انقضاء المدة لكونه المريد للقلع، وأمّا القلع بعد المدة لإخلاء الأرض لمالكه فهل تجب على المستأجر الغارس أو على المالك؟
تردّد العلّامة في كونها على أحدهما بعينه.
قال
السيد العاملي : «الظاهر أنّها على الغارس؛ لأنّه إنّما قضى الشرط
بالإذن له على أن لا يدخل على المؤجر فيه ضرر، فكان كالإذن في ردّ العارية حيث يحتاج إلى مئونة فإنّها على المستعير. وكان أيضاً كما لو استأجر داراً لتربية فصيله فكبر واحتيج إلى نقض باب الدار فإنّ على المستأجر ردّه واصلاحه».
وينبغي أن يعلم أنّ كلا البحثين صغرويان؛ بمعنى أنّه لا إشكال في كون مقتضى القاعدة الأولية- ولعلّه مقتضى إطلاق العقد أيضاً حيث لا قرينة ولا عرف على الخلاف- أنّ المالك للأرض يستحق أرضه غير منقوصة عما كانت عليه حين سلّمها للمستأجر، كما أنّ مئونة الردّ إلى المالك ولو بمعنى التخلية أيضاً لا تكون عليه؛ لأنّها وظيفة المستأجر لا المالك.
وإنّما وقع الخلاف المذكور من جهة استظهار أنّ اشتراط القلع أو الرضا به أو العرف يقتضي خلاف ذلك، وأنّ الإذن بشيء إذن بلوازمه.
إلّا أنّ كل ذلك بحث صغروي، فما لم يستظهر بقرينة قطعية أو عرف كذلك ما هو خلاف مقتضى القاعدة، فالمحكّم هو ما أشرنا إليه من ثبوت أرش نقص الأرض، وكذلك مئونة القلع على المستأجر لا المالك.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۲۵-۲۳۲.