ضمان الأجير بالإفساد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إنّ إفساد
الأجير لما استؤجر عليه تارة يكون بالمباشرة وأخرى بالتسبيب فهنا صورتان:
الأولى،
الإفساد مباشرة.
الثانية، التسبيب في الإفساد.
لو أفسد الأجير متعلق العمل بنفسه فلا يستحق اجرة أصلًا بناءً على اشتراط الوفاء بالإجارة في استحقاق الاجرة، بل يكون الأجير ضامناً للمالك لو أفسد محل العمل بواسطة عمله، وعليه دعوى
الإجماع وعدم الخلاف
من غير واحد من الفقهاء، وذلك
لقاعدة اليد والإتلاف ،
وصحيح
الحلبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام: في الرجل يعطي الثوب ليصبغه فيفسده، فقال: «كلّ عامل أعطيته أجراً على أن يصلح فأفسد فهو ضامن».
ونحوه خبرا
السكوني والكناني وغيرهما من الأخبار.
ولا فرق في ذلك بين الأجير المشترك والخاص، ولا بين كون العمل في ملكه أو ملك المستأجر، وبين حضور ربّ المال أو غيبته، بلا خلاف في شيء من ذلك بين المتقدمين من فقهائنا والمتأخّرين.
هذا فيما لو تجاوز الأجير الحدّ المأذون فيه وإن لم يكن قاصداً له، وأمّا إذا لم يتجاوز ذلك الحدّ فحصل التلف بسبب ضعف المحل وعدم تحمّله للعمل فإنّ ظاهر الفقهاء
ضمان الأجير أيضاً. بل في
الانتصار وغيره الإجماع على
ضمان الصانع لما جنته يداه على المتاع بتعدٍّ وغيره.
هذا كلّه مضافاً إلى عموم قاعدة الاتلاف وغيرها.
لكن ذهب في
التحرير والسرائر إلى عدم ضمان الحجام والختّان لو لم يتجاوزا محل القطع مع حذقتهم في الصنعة فاتفق لهم ذلك، ومال إليه
الأردبيلي والسبزواري والسيد اليزدي وغيرهم.
ويمكن أن يكون وجه ذلك أحد أمرين:
الأوّل: عدم إسناد الإتلاف إلى العامل؛ لأنّه بمثابة الآلة لا يأتي إلّا بما هو مأمور به من قبل المستأجر بمقتضى حكم الإجارة، مضافاً إلى انصراف الصحيحة عن مثل الفرض لظهور قوله عليه السلام: «ليصلح فأفسد» في أنّه لم يأت بمتعلّق الإجارة- وهو
الإصلاح - بل فعل غيره وهو
الإفساد ،
وحينئذٍ لا بد أن يكون مورد العمل مجمع الإصلاح والإفساد، دون المتمحّض في الإفساد عادة فانّه خارج عن مدلولها»).
الثاني: أنّ كلّ إتلاف لا يوجب الضمان بل يشترط أن لا يكون بأمرٍ من المالك واذنه ولو ضمناً.
وأيضاً لا يكون تكليفاً لزومياً على المؤجر كما في الطبيب الحاذق، فإنّه مكلّف بحفظ النفس المحترمة وعلاج المرض، وهذا مما يستحيل فيه الضمان، وإلّا لانسد باب الطبابة وعلاج المرضى مع مسيس الحاجة إليه.
ثمّ إنّه يظهر من بعض العبائر
التفصيل بين ما إذا لم يكن وظيفة العامل فيه إلّا العمل فقط فلا يضمن كما لو لم يكن بصيراً في كون العمل مضرّاً، وبين ما إذا كان بصيراً فيه بحيث يعتمد عليه ويراد منه الاصلاح كما في
الطبابة والبيطرة فإنّ الأجير فيهما ضامن مع الإفساد إلّا أن يأخذ البراءة في ذلك.
وفصّل
السيد الخوئي بين ما إذا كان العمل مستلزماً للموت وعدمه، فلا يضمن في الثاني إن لم يتجاوز الحدّ المأذون فيه، أمّا في الفرض الأوّل كما إذا مات الصغير بسبب الختان فإنّ الختّان يكون ضامناً ولو تبرّأ من الضمان ولم يتجاوز الحد المأذون فيه، وكذا يكون ضامناً لو كان المختون كبيراً وقد سلّم نفسه إليه ولم يبرأه من الضمان؛ لأنّ دم المسلم لا يذهب هدراً،
أمّا لو أبرأه لم يكن ضامناً.
ووجه الفرق بينهما أنّ الكبير الذي سلّم نفسه للختّان مع استجماعه لشرائط التكليف رافع لديته، بخلاف الصغير فإنّ إذنه ليس كإذن الكبير في إتلاف عضو منه، كما أنّه ليس ملكاً لوليّه لكي يكون له حق الإذن في إتلافه.
وأمّا الإتلاف غير المباشري فهو على نحوين: تارة يكون عمله عاملًا معدّاً للإتلاف، وأخرى يكون سبباً أقوى له.
نحو الحمّال يكون على رأسه أو ظهره الشيء فيعثر ويسقط ما على رأسه وينكسر فهل يكون ضامناً أم لا؟ قولان:
ذهب أكثر الفقهاء
إلى ضمان الحمّال، بل في جامع المقاصد نسبته إلى
الإجماع .
والمستند فيه أنّ التلف يستند إلى الحمّال وإن لم يكن عن قصد منه فيكون ضامناً؛ لقاعدة الإتلاف.
وقد يستدلّ
للضمان في المقام ببعض الروايات الخاصة كمعتبرة
داود بن سرحان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب إنساناً فمات أو انكسر منه شيء فهو ضامن»
- بناءً على عود الضمير المجرور إلى المتاع، وكون الحامل أجيراً مثلًا- المعتضدة
بخبر
زيد بن علي عن آبائه عليهم السلام: أنّه اتي بحمّال كانت عليه قارورة عظيمة فيها دهن فكسرها فضمّنها إيّاه، وكان يقول: «كلّ عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن».
ونوقش في الاستدلال برواية ابن سرحان سنداً ودلالة، أمّا من حيث السند فلورود
سهل بن زياد في طريق
الكليني والصدوق
والطوسي .
إلّا أنّه يمكن الجواب عنه بأنّها رويت في
الفقيه والتهذيب بطريق صحيح لا يشتمل على سهل بن زياد.
وأمّا الدلالة فاورد عليها أوّلًا: بأنّ الظاهر عود الضمير المجرور إلى الإنسان الذي هو أقرب، ويؤيده عدم فرض كون العامل أجيراً لحمل متاع غيره، وحينئذٍ تكون الرواية أجنبية عن الأجير والضمان، بل هي ناظرة إلى موارد
القتل وكسر أعضاء الإنسان خطأً.
وثانياً: معارضتها برواية
الصدوق لها عن داود بن سرحان أيضاً إلّا أنّه قال:
«مأمون» بدل قوله: «ضامن»
وممّا يؤكد عدم الضمان صحيحة
أبي بصير في رجل استأجر حمّالًا فيكسر الذي يحمل أو يهريقه، فقال عليه السلام: «على نحو من العامل إن كان مأموناً فليس عليه شيء، وإن كان غير مأمون فهو ضامن».
هذا، ولكن صرّح
الشهيد الثاني وغيره
بعدم ضمان الحمّال إذا لم يكن مقصّراً، وحكم بذلك بعض الفقهاء المعاصرين أيضاً.
ومستندهم فيه أحد أمرين:
الأوّل: دعوى عدم ضمان الأمين إلّا مع
التفريط أو مع كونه
عارية مضمونة.
الثاني: أنّ عثرة الحمّال بمثابة الآفة السماوية لا يستند فيها التلف إلى الحمّال بوجه، بل هو كالآلة المحضة لا إتلاف معه كي يستوجب الضمان.
ويؤيّده ما ورد في إنسان سقط على آخر فقتله حيث حكم بعدم ضمان الساقط شيئاً، فإذا كان الحال في النفوس ذلك ففي تلف الأموال بطريق أولى.
أمّا التسبيب في الإتلاف كما لو لم يكن الطبيب مباشراً في العلاج بل كان آمراً، فإن كان الفعل يسند إليه عرفاً وكان المباشر بمثابة الآلة المحضة كما في الصبي غير المميّز أو كان مغرراً به أو مستغفلًا فإنّ الأمر حينئذٍ يكون كالطبيب المباشر في ثبوت الضمان.
أمّا إذا كان المباشر مستقلًا في تصرفه بأن كان بالغاً عاقلًا مختاراً ففي ضمان الطبيب هنا قولان:
صرّح
المحقق النجفي وبعض آخر بضمان الطبيب الآمر،
والوجه فيه أحد أمرين:
أحدهما: دعوى استناد الإتلاف إلى الطبيب؛ لأنّه السبب وهو أقوى من المباشر.
ثانيهما: التمسّك باطلاق موثقة
السكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قال
أمير المؤمنين عليه السلام: من تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه وإلّا فهو ضامن»،
وتنزيل
النص والفتوى على المباشر تنزيل للإطلاق على النادر.
هذا ولكن ذهب
السيد الحكيم والسيد الخوئي إلى القول بعدم ضمانه، والوجه فيه هو إنكار استناد التلف إلى الطبيب؛ لأنّ أمره إرشادي لا يعدو التوصيف، ولا شأن له عدا كونه داعياً لصدور الفعل عن الفاعل المختار، فهو يصدر عنه باختياره.
وأمّا دعوى اندراجه تحت إطلاق موثق السكوني فغير تامة؛ لعدم الاطلاق فيها أصلًا، ولانصراف عنوان التطبّب أو التبيطر فيها إلى المباشرة، حيث إنّه من باب التفعّل يدلّ على مطاوعة الفعل وقبوله، فيكون مساوقاً لقوله: «عالج» الظاهر في مباشرة العلاج.
ولو لم يكن الطبيب آمراً بل كان واصفاً له بقوله للمريض: إنّ دواءك كذا وكذا فهل يكون ضامناً؟ وقع الخلاف بينهم في ذلك، فصرّح جماعة- منهم
العلّامة في التذكرة
- بضمان الطبيب عملًا باطلاق موثقة السكوني، ولاستناد الإتلاف إلى الطبيب؛ لأنّه أقوى في التأثير من المباشر.وذهب آخرون
إلى الحكم بعدم الضمان؛ لما تقدم من دعوى انكار الإطلاق في الموثقة، وعدم استناد التلف إلى الطبيب إلّا مع المباشرة أو مع كونه سبباً أقوى.
وفصّل
الشهيد الصدر بين ما إذا كان الطبيب مقصّراً في إبداء رأيه وبين ما إذا لم يكن كذلك.
ولو وصف الطبيب الدواء على سبيل الكبرى الكلية من دون تعيين الدواء لشخصٍ بعينه كما لو قال: «دواء المرض الكذائي كذا وكذا» فاجتهد المريض وطبّقه على نفسه باختياره. أو قال: «لو كنت مريضاً بمثل هذا المرض لشربت الدواء الكذائي»، من دون تعرض للحكم الكلّي أو حكم المريض بعينه، فالحكم فيه بعدم الضمان أوضح من الفرض السابق.
بل قال
المحقق النجفي بمنافاة الضمان في المثال الأوّل لُاصول المذهب وقواعده.
ومن هنا ذهب إلى عدم الضمان بعض من اختار الضمان في الفرض السابق.
إلّا أنّ بعضهم تأمّل فيه، بل قيل: إنّ «الأظهر الضمان في جميع الصور إلّا مع التبري».
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۲۵۲-۲۵۸.