طرق معرفة القبلة وأدلتها (الاجتهاد والتقليد)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
المراد بالاجتهاد هنا: بذل الجهد
والتحرّي في العلامات الموجبة
للظنّ بالقبلة،
كما هو مقتضى
النصوص والفتاوى .
وليس المراد منه ما هو المصطلح بين الفقهاء؛
إذ يكفي معرفة أدلّة القبلة المذكورة في كتب
الفقه وغيرها
حتى مع
الجهل بأحكام
الشرع .
ويجب
الاجتهاد في تحصيل الظنّ بالقبلة عند عدم
إمكان تحصيل العلم بها.
والمناط فيه هو عدم التمكّن العرفي لا الدقّي العقلي.
ويدلّ على وجوب الاجتهاد- مضافاًإلى
الإجماع وقاعدة الاحتياط - الأخبار المستفيضة
:
منها: موثّق
سماعة ، قال: سألته عن
الصلاة ... قال عليه السلام: «اجتهد رأيك وتعمّد القبلة جهدك».
ومنها: صحيح
زرارة ، قال: قال
أبو جعفر عليه السلام: «يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة».
ولابدّ أن لا يكون الاجتهاد مستلزماً
للعسر والحرج ، فيكفي العامي قول المجتهد: ضع
الجدي على منكبك الأيمن في
العراق - مثلًا- ولا يجب عليه معرفة الدليل على كفاية ذلك من الإجماع أو الخبر أو
البرهان الرياضي .
ولا يجوز
الاكتفاء بالظنّ الضعيف مع إمكان القوي، ولا بالظنّ القويّ مع إمكان الأقوى».ويدلّ
عليه- مضافاً إلى الإجماع
- إطلاق الأمر بالتحرّي والاجتهاد الشامل للظنّ القويّ والأقوى مع إمكان تحصيلهما.
إلّاأنّ ظاهر
إطلاق كلمات الكثير الاكتفاء بمجرد الظنّ وعدم لزوم
الفحص عمّا هو قوي وأقوى.
واورد عليه بأنّ إطلاق الأمر بالاجتهاد والتحرّي يشمله. واحتمال كفاية صرف الوجود الصادق على أوّل مرتبة منه، مردود بأنّه خلاف مادّة الاجتهاد والتحرّي، فإنّ الظاهر عدم صدقهما على الضعيف مع القدرة الفعلية على القوي.
ولا فرق في وجوب الاجتهاد بين
الأعمى والبصير ؛
لإطلاق الأدلّة،
وللاتّفاق على ذلك،
ولأنّ الأعمى بإمكانه الاجتهاد بنفسه
- معتمداً على طلوع
الشمس بحرارتها أو هبوب الرياح مثلًا- وإن كان الغالب فيه عدم تمكّنه من الاجتهاد بنفسه فيجب عليه حينئذٍ الرجوع إلى الغير.
لا خلاف
في أنّه إذا تغيّر اجتهاده في جهة القبلة يجب عليه العمل على أساس الاجتهاد الأخير؛
لأنّه هو مقتضى لزوم التحرّي وتحصيل القبلة.
وأمّا الصلاة التي صلاها على طبق اجتهاده الأوّل فقد صرّح بعضهم بوجوب
إعادتها إذا كان وقوعها عن يمين القبلة أو يسارها؛
لأصالة عدم
الإجزاء مع تبيّن الخلاف،
ولأنّ المكلّف لمّا لم يجز له إلّاالعمل بالاجتهاد الثاني صار عالماً
إجمالًا ببطلان إحدى الصلاتين، فلابدّ له من إعادة الاولى فراراً عن مخالفة العلم المذكور، ولو كانت الصلاتان مترتّبتين كان الحال أوضح؛ للعلم ببطلان أحدهما على كلّ حال، إمّا لفوات
الترتيب ، أو لفوات
الاستقبال .
ولا تجب إعادة الصلاة السابقة إذا كان وقوعها ما بين اليمين واليسار؛
لصحّتها واقعاً.
هذا، وهناك بعض المسائل التي تتفرّع على بحث الاجتهاد والتقليد في معرفة القبلة، وهي ما يلي:
يظهر من كلمات البعض عدم
قدرة الأعمى على الاجتهاد،
ولعلّه لتعلّق أدلّة القبلة بحسّ البصر، فإذا فقد آلة
الإدراك صار كالعامي في الأحكام.
ويظهر من آخرين أنّ الاجتهاد ممكن في حقّه؛
لأنّه بإمكانه تحصيل الجهة بوجهٍ من الوجوه، كأن يتعرّف من خلال حرّ الشمس- مثلًا- على المشرق والمغرب.
وعلى أيّ حال، فقد ذهب الأكثر
حيث نسبه إلى رسالة صاحب المعالم وشارحها.
بل المشهور
إلى أنّ حكمه التقليد- مع فرض عدم تمكّنه من الاجتهاد- بل ادّعي عدم وجود خلاف صريح فيه إلّامن الخلاف.
واستدلّ له بعدّة أدلّة:
منها: الروايات الدالّة على جواز
الائتمام به إذا وجّه إلى القبلة.
كصحيح
الحلبي عن
الصادق عليه السلام قال:«لا بأس بأن يصلّي الأعمى بالقوم وإن كانوا هم الذين يوجّهونه».
وخبر
السكوني عنه عليه السلام أيضاً قال:«قال
أمير المؤمنين عليه السلام: لا يؤمّ الأعمى في
الصحراء إلّاأن يوجّه إلى القبلة».
وحسنة أو صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام- في حديث- قال: قلت: اصلّي خلف الأعمى؟ قال: «نعم، إذا كان له من يسدّده، وكان أفضلهم».
واورد عليها- مضافاً إلى أنّها مسوقة لبيان عدم كون فقد البصر منقصة للأعمى عن مرتبة الإمامة
- بأنّها ناظرة إلى ما إذا كانت القبلة معلومة لا تحتاج إلى اجتهاد لكنّها غير معلومة للأعمى فيوجّهونه نحوها»، وقد يحصل
القطع بها ولو بخبر الواحد المحفوف بالقرائن،
وهو فرض لم يختلف الشيخ مع المشهور بخصوصه؛ لأنّه إنّما يختلف معهم في صورة ما إذا كان جهل الأعمى ناشئاً من عدم التمكّن من الاجتهاد وكانت القبلة مجهولة له ومعلومة لغيره بالاجتهاد.
ومنها: ما دلّ على حجّية
خبر العدل الدالّ بعمومه أو إطلاقه
على لزوم
الأخذ بقول العدل مع
انتفاء العلم وعدم وجود ظنّ أقوى منه،
من دون فرق في ذلك بين الأعمى والبصير.واورد عليه بأنّ إطلاقه لا يشمل الرجوع إليه إذا كان إخباره عن اجتهاد.
ومنها: أنّ أدلّة القبلة متعلّقة بحسّ البصر،
فإذا فقده صار كالعامي فيجب عليه التقليد.
هذا، مضافاً إلى لزوم العسر والحرج
الشديد
من الصلاة إلى أربع جهات.
وأصالة البراءة من ذلك.
لكن قد يناقش فيهما بمنع العسر، وأنّ الصلاة إلى أربع جهات من باب المقدمة العلمية التي تنقطع بها البراءة.
وظاهر الشيخ في
الخلاف وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع سعة الوقت.
وقد يظهر ذلك أيضاً من
الألفيّة كما استظهره منه في مفتاح الكرامة،
كما يلوح من كلّ من أوجب الصلاة إلى أربع على من لم يتمكّن من معرفة القبلة
لفقد سائر
الأمارات والعلامات.
واستدلّ الشيخ لمختاره بالإجماع على فراغ
ذمّة الأعمى لو صلّى إلى أربع جهات، بخلاف ما لو صلّى إلى جهة واحدة.
واورد عليه بأنّ ضعفه يعلم من أدلّة القول المشهور.
ثمّ إنّه على القول بتعويل الأعمى على الغير فهل يتعيّن عليه التقليد أم يجوز له الصلاة إلى أربع جهات؟ قولان:
ذهب جماعة إلى
التعيين ،
بل هو ظاهر الأكثر؛
لكثرة أخبار التسديد وضعف مستند الأربع هنا.
وخالف في ذلك
الشيخ والشهيد الثاني وغيرهما،
فاختاروا التخيير.
وهو الذي إذا عرِّف لا يعرف،
وقد ذهب المشهور
إلى أنّه يقلّد،
فهو كالأعمى من هذه الناحية،
خصوصاً وأنّ فقد البصيرة أعظم من فقد البصر،
فيجري فيه كلّ ما يجري في الأعمى.إلّاأنّه قد يورد عليه بأنّه قياس مع الفارق، خصوصاً مع ورود النصوص الشرعيّة في خصوص الأعمى،
فإلحاق غيره به لا دليل عليه.وأمّا
الاستدلال بأنّ فقد البصيرة أعظم من فقد البصر فهو لا يفيد إلّاالظنّ، وهو لا يغني عن الحقّ شيئاً.
لكن ظاهر
الإرشاد اختصاص التقليد بالأعمى
دون
العامي والعارف الذي خفيت عليه العلامات، ولازمه وجوب
التكرار عليهما؛ ولعلّه لظهور أدلّة التحرّي في المباشر للاجتهاد، وعموم ما دلّ على وجوب التكرار من النصّ والقاعدة لهما بل للأعمى لولا الإجماع وثبوت الحرج الشديد المنتفي في غيره؛ لقدرة العامي على التعلّم، وندرة اتّفاق العذر لمن خفيت عليه الأمارات.
ويضعّفه: منع ظهور أدلّة التحرّي في المباشرة، بل الظاهر أنّ الغرض من الأمر تحصيل الطرف الأحرى، من غير فرق بين نشوئه من ملاحظة الأمارات أو تقليد الآخرين.
وقد اختلف الفقهاء في حكمه على قولين:
الأوّل: التقليد، وهو مختار جماعة، مستدلّين له:
أوّلًا بمفهوم قوله تعالى: «إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»،
فإنّ المستفاد منه الأخذ بقول العدل والعمل به من دون تثبّت، وإلّا كان أسوأ حالًا من
الفاسق .
واورد عليه بأنّه يعطي كون المراد الرجوع إلى خبر العدل لا تقليده.
وثانياً بأنّ العارف الفاقد للأدلّة يكون كالعامي؛ إذ لا طريق إلى الاجتهاد، فإمّا أن يقلّد العدل أو يصلّي إلى أربع جهات، والرجوع إلى العدل أولى؛ لأنّه يفيد الظنّ، والعمل بالظنّ واجب في الشرعيّات.
حيث قال: «إنّ الرجوع إلى الغير إحدى أمارات الاجتهاد، فمع فرض عدم غيره أو تعارضه يتعيّن الرجوع إليه؛ لأنّه من التحرّي، ومن اجتهاد الرأي، وتعمّد القبلة بحسب الجهد». واورد عليه بالمنع من وجوب العمل بالظنّ دائماً في الشرعيّات.
القول الثاني: الصلاة إلى أربع جهات،
وهو مختار أكثر الفقهاء،
بل قيل: إنّ عليه ظاهر
الأصحاب .
واستدلّ له:
أوّلًا: بقول الإمام الصادق عليه السلام في مرسل
خراش ، قال: «... فليصلّ لأربع وجوه»،
وثبوت الحرج الشديد بالصلاة لأربع جهات منتفٍ؛ لندرة اتّفاق
العذر في ذلك.
وثانياً: بأنّ العمل بالظنّ إنّما يجوز إذا لم يكن هناك علم بالقبلة، فإذا صلّى أربعاً فقد تيقّن ببراءة ذمّته وعلم أنّ صلاته إلى القبلة أو إلى ما لا يبلغ يمينها أو يسارها، خصوصاً مع قطع الفقهاء بذلك، وورود النصّ في
الصلاة إليها،
وعدم
الدليل على التقليد، إلّاأنّه مع ذلك لابدّ من الاحتياط في جعل إحدى الأربع إلى الجهة التي يخبر بها العدل أو غيره وإن كان
صبيّاً أو
كافراً ، ومع ضيق الوقت وعدم التمكّن إلّا من واحدة يصلّي إلى الجهة التي أخبر بها العدل،
احترازاً عن ترجيح المرجوح على الراجح.
ومن هنا احتمل بعضهم- في المبصر الفاقد للعلم والظنّ،
أو هو والأعمى
- الجمع بين الرجوع إلى الغير والصلاة إلى أربع جهات،
بل أوجب بعضهم الاحتياط.
واورد عليه- مضافاً إلى مخالفة ذلك للمشهور، بل لما كاد أن يكون إجماعيّاً في الأعمى- بأنّه يلزم منه
العسر والحرج ، وكذا لو أوجبنا عليهما التعلّم. وعليه فليس من وظيفة
المكلّف إلّاالتقليد، خصوصاً مع جريان البراءة عن الصلاة إلى أربع جهات.
الموسوعة الفقهية، ج۱۲، ص۱۶۷-۱۷۵.