قاعدة لاتعاد
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
من جملة القواعد الفقهية المشهورة التي يتمسّك بها الفقهاء لنفي
الإعادة في فروع كثيرة، مذكورة في
الفقه في أبواب الخلل من
كتاب الصلاة ، قاعدة (لا تعاد الصلاة إلّا من خمس)، وتفصيلها فيما يلي:
مضمون القاعدة هو الحكم بعدم لزوم إعادة الصلاة عند
الإخلال بما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط سهواً أو نسياناً، إلّا في موارد خمسة هي:
الطهور ، والوقت، و
القبلة ، والركوع، والسجود.
وهناك من عمّم هذه القاعدة إلى العبادات الاخرى على أساس
استفادة ذلك من عموم التعليل الوارد في بعض رواياتها من أنّ السنّة لا تنقض الفريضة، بناءً على أنّ المراد بالفريضة ما ورد تشريعه في
القرآن الكريم ، وبالسنّة ما أوجبه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يرد تشريعه في القرآن الكريم.
وعلى أساس هذا
الاستظهار تتوسّع القاعدة، فتشمل جميع المركّبات الشرعية المشتملة على أجزاء وشرائط، بعضها سنّة، وبعضها فريضة بالمعنى المذكور.
وقد استدلّ على هذه القاعدة بروايات، وهي على ثلاث طوائف:
ما اشتمل على عدم لزوم إعادة الصلاة فيما إذا وقع النقص أو الخلل في غير الفرائض منها، وهي
۱- صحيحة
زرارة - المروية في
الفقيه - عن
أبي جعفرالباقر عليه السلام ، قال: «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود ثمّ قال: القراءة سنّة، والتشهّد سنّة، ولا تنقض السنّة الفريضة».
ورواها في
الخصال أيضاً مع زيادة: «والتكبير سنّة»
بعد قوله عليه السلام: «والتشهّد سنّة».
والسندان صحيحان،
وقد نقلها الشيخ في
التهذيب مرسلًا عن زرارة؛
ولعلّه لوضوحها وشهرتها.
قال
المحقّق النائيني : «وصحّة سنده وكونه مرويّاً في الفقيه كافٍ في صحّة
الاعتماد عليه، مضافاً إلى كونه معمولًا به، معتمداً عليه عند الأصحاب، فلا إشكال فيه من حيث سنده أصلًا».
وقال
السيّد السبزواري : «أمّا البحث عن السند فهو ساقط؛ لصحّته، واعتماد جميع الأصحاب عليه فتوىً وعملًا».
هذا من حيث السند، وأمّا من ناحية الدلالة فقد دلّت الصحيحة بوضوح على عدم وجوب
الإعادة عند وقوع الخلل في الصلاة، إلّا إذا كان الإخلال بأحد الامور المنصوصة.
۲- صحيح
زرارة عن أحدهما عليهما السلام في القراءة قال: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى فرض الركوع والسجود، والقراءة سنّة، فمن ترك القراءة متعمّداً أعاد الصلاة، ومن نسي فلا شيء عليه».
فإنّ تفريع نفي الإعادة في القراءة على تقسيم الأجزاء أوّلًا إلى ما هو فرض من اللَّه وما هو سنّة ظاهر في التعليل، وبيان أنّ نكتة ذلك كون القراءة من السنّة لا الفريضة.
۳- صحيح
محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام في الرجل يفرغ من صلاته وقد نسي التشهّد حتى ينصرف، فقال: «إن كان قريباً رجع إلى مكانه فتشهّد، وإلّا طلب مكاناً نظيفاً فتشهّد فيه»، وقال: «إنّما
التشهّد سنّة في الصلاة».
فيكون سياق التعليل فيه ظاهراً في
إعطاء كبرى كلّيّة، وهي: أنّ ما ثبت في الصلاة بالسنّة لا ينقض الصلاة إذا أخلّ به لا عن عمد، بل نفس التعبير بالسنّة في قبال الفريضة أيضاً بحسب المناسبة والمتفاهم العرفي ظاهر في التخفيف من حيث المرتبة و
الأهمّية ، وبالتالي عدم نقض الصلاة بالإخلال به في صورتي السهو والنسيان على الأقلّ.
۴- صحيح زرارة- الذي نقله
الكليني والشيخ- قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الفرض في الصلاة، فقال: «الوقت، والطهور والقبلة، والتوجّه، والركوع، والسجود، والدعاء»، قلت: ما سوى ذلك؟ فقال: «سنّة في فريضة».
والمراد بالفرض ما فرضه اللَّه تعالى في كتابه فلابدّ من حفظها وعدم الإخلال بها حتى سهواً، والمراد بالسنّة ما جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفرضه قولًا أو عملًا.
قال
السيّد السبزواري : «إنّ الفريضة في
اصطلاح الأئمّة عليهم السلام في الصلاة ما ثبت وجوبه بالكتاب، والسنّة ما ثبت وجوبه بغير الكتاب من السنن المعصومية، وتسمّى الفريضة بفرض اللَّه أيضاً، والسنّة بفرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس المراد بها السنّة في مقابل الواجب كما هو شائع بين الفقهاء، وهذا نحو
اهتمام من المعصومين عليهم السلام بالنسبة إلى فرض اللَّه تعالى، وعناية خاصّة به، ويشهد له ما عن زرارة، قال: قال أبو جعفر عليه السلام: «كان الذي فرض اللَّه على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة، وليس فيهنّ وهم- يعني سهواً- فزاد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعاً وفيهنّ الوهم، وليس فيهنّ قراءة، فمن شكّ في الأوّلتين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين، ومن شكّ في الأخيرتين عمل بالوهم»،
والمراد بقوله: «ليس فيهنّ قراءة»، أي تعييناً... ومثله روايات اخرى مستفيضة، بل متواترة في هذه الجهة، استشهدنا بها في المقام للتفرقة في الجملة بين فرض اللَّه وفرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّه يغتفر في فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يغتفر في فرض اللَّه تعالى».
ما ضُمِّنت أنّ من حفظ الركوع والسجود فقد تمّت صلاته، ولا يضرّه الإخلال بغيرهما من الأجزاء الاخر، وهي:
۱- معتبرة
الحسين بن حمّاد عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت له: أسهو عن القراءة في الركعة الاولى؟ قال: «اقرأ في الثانية»، قلت: أسهو في الثانية؟ قال: «اقرأ في الثالثة»، قلت: أسهو في صلاتي كلّها؟ قال: «إذا حفظت الركوع والسجود فقد تمّت صلاتك»،
فإنّ ذيلها ظاهر في إعطاء قاعدة كلّية دالّة على أنّ السهو في داخل الصلاة كلّها لا يوجب الإعادة إذا كان قد حفظ الركوع والسجود، وحيث إنّها ناظرة إلى الأفعال في داخل الصلاة اقتصر فيها على ذكر الركوع والسجود فقط.
۲- معتبرة
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: قلت: الرجل يسهو عن القراءة في الركعتين الأوّلتين فيذكر في الركعتين الآخرتين أنّه لم يقرأ، قال: «أتمّ الركوع والسجود؟» قلت: نعم، قال: «إنّي أكره أن أجعل آخر صلاتي أوّلها».
۳- رواية
منصور بن حازم ، قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي صلّيت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها، فقال: «أليس قد أتممت الركوع والسجود؟» قلت: بلى، قال: «قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً».
فإنّ ظاهرها إعطاء نفس الكبرى الكلّيّة، فتكون هذه الطائفة أيضاً دليلًا على القاعدة في أجزاء الصلاة غير الركنية على الأقلّ.
لكن اعتُرض على
الاستدلال برواية منصور بن حازم بأنّه قد ورد في نفس باب القراءة
إجزاء تسبيح الركوع والسجود عن القراءة، فعن
أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: «إن نسي أن يقرأ في الاولى والثانية أجزأه تسبيح الركوع والسجود».
وهذا دليل على بدليّة
التسبيح عن القراءة لا جواز تركه مطلقاً مع إتمام الركوع والسجود.
وبالجملة: لا تتجاوز دلالة الرواية- لو قلنا بها- عن حدّ الإشعار بكفاية الركوع والسجود عن غيرهما عند النسيان، فلا يمكن الاستدلال بها، لا سيّما مع عدم عموم فيها يشمل غير القراءة من الأجزاء.
ما ورد بلسان التثليث وتقسيم الصلاة إلى أثلاث ثلاثة، وهي صحيح
الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود».
فإنّ التثليث الوارد فيها ظاهر في
اكتمال الصلاة بهذه الأثلاث، ونقصها بنقص شيء منها، وهذا لا محالة يكون كناية عن كفايتها في الجملة، والذي يكون قدره المتيقّن حالات النسيان والسهو لا محالة، وإلّا لم تكن هذه الثلاثة بمجموعها تمام الصلاة، بل هذا النسيان عرفاً أحد ألسنة الأهمّية والركنية للُامور الثلاثة دون غيرها بعد أن كان مركوزاً ثبوت أفعال اخرى في الصلاة أيضاً، فيكون المتفاهم منه عرفاً عدم قدح الإخلال بغيرها من أفعال الصلاة إذا حفظها المصلّي بنحو القضية المهملة- على الأقلّ- والتي قدرها المتيقّن صورة
السهو والنسيان.
نعم، هي ساكتة عن الوقت والقبلة؛ ولعلّه باعتبار نظرها إلى السهو و
الإخلال بما هو فعل عبادي يقوم
بإيجاده المكلّف مستقلّاً.
قد يقال بأنّ الروايات متهافتة في تحديد المراد بالفرائض التي دلّت على وجوب إعادة الصلاة بالإخلال بها، فإنّ بعض الطوائف ذكرت أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث: الطهور والركوع والسجود، وبعضها ذكرت اثنين منها، وهما: الركوع والسجود فقط، وبعضها ذكرت خمسة بإضافة القبلة والوقت، وبعضها ذكرت سبعة بإضافة التوجّه والدعاء. لكن اجيب عنه بعدم التهافت بينها؛ لأنّ الطائفة الثالثة- كصحيحة
الحلبي التي ذكرت الأثلاث الثلاثة للصلاة- لم تذكر ذلك بعنوان الفرائض لكي يتنافى مع الخمسة أو السبعة، فلعلّها ناظرة إلى الأفعال المستقلّة العبادية التي يقوم بها المكلّف، لا مطلق القيود حتى التي تكون وصفاً وحالة للصلاة، أو يكون المراد منها
إبراز أهمّية الأركان الثلاثة بالخصوص وعدم قبول أيّ إخلال بها بخلاف الركنين الآخرين؛ لثبوت نحو توسعة فيهما، والطائفة الثانية التي ذكرت الركوع والسجود فقط ناظرة إلى الأجزاء والسهو الواقع داخل الصلاة، لا مطلق القيود المعتبرة حتى التي محلّها قبل الدخول في الصلاة.
وأمّا الخمسة والسبعة الواردتان في صحيحي زرارة في الطائفة الاولى في مقام تعداد ما فرضه اللَّه في الصلاة فأيضاً لاتنافي بينهما؛ لأنّ التوجّه يراد به النيّة وقصد الصلاة والتوجّه إلى اللَّه سبحانه، والدعاء يراد به ذكر اللَّه سبحانه، وهما مقوّمان لعنوان الصلاة ومفهومها لغة وعرفاً، فعدم ذكرهما في صحيحة زرارة المتعرّضة لقاعدة (لا تعاد) لا ينافي ركنيّتهما ولزوم الإعادة من الإخلال بهما؛ لأنّ نظر الصحيحة إلى ما اعتبر من القيود في الصلاة بفرض اللَّه سبحانه بعد الفراغ عن تحقّق
أصل الصلاة خارجاً.
وممّا يدلّ على ذلك: أنّ التعبير ورد فيها بعنوان (لا تعاد الصلاة)، وهو لا يكون إلّا مع فرض تحقّق الصلاة أوّلًا المتوقّف على تحقّق التوجّه والنيّة والذكر، وإلّا لم يكن صلاة في الخارج حقيقة ليصدق الإعادة.
هذا، وممّا يؤكّد ثبوت هذه القاعدة أيضاً الروايات البيانية التفصيلية الصادرة عنهم عليهم السلام في أجزاء الصلاة وقيودها، فنلاحظ أنّ ما ورد منها في الأركان تأمر بالإعادة من الإخلال بها ولو كان سهواً، بخلاف ما ورد منها في غير الأركان؛ فإنّها تنفي الإعادة إذا كان الإخلال بها لا عن عمد، غاية
الأمر قد تأمر بالقضاء أو سجود السهو عنه ممّا يدلّ على صحّة الصلاة في نفسها.
لا شكّ في أنّ هذه القاعدة من القواعد الفقهيّة لا الاصولية؛ لأنّها بنفسها حكم فرعي عملي خاصّ بباب الصلاة وإن عبّر عنها بأنّها قاعدة كلّية دالّة على الصحّة في جميع موارد الخلل الجهلي، وأنّها غير مختصّة بمورد خاص،
إلّا أنّ ذلك لا يخرجها عن كونها فقهية ولا يجعلها من القواعد الاصولية؛ لأنّ القاعدة الاصولية هي التي تقع في طريق
استنباط الحكم الشرعي وما تكون واسطة لإثبات ذلك، وهي ليست كذلك.
لا يخفى أنّ مقتضى القاعدة الأوّلية في موارد السهو والنسيان ما هو ثابت في غيرها من
بطلان العمل ووجوب الإعادة في داخل الوقت والقضاء خارجه، ولكن قاعدة (لا تعاد) بما هي قاعدة ثانوية مفادها عدم وجوب الإعادة في غير ما نصّت عليه أثبتت حكماً على خلاف تلك القاعدة الأوّلية، فأصبحت ذات أهمّية من هذه الناحية.
وقد يقال بأنّ الحكم بالصحّة وعدم الإعادة في مورد السهو والنسيان ثابت بلا حاجة إلى قاعدة (لا تعاد)، وذلك بأحد تقريبين:
أنّ النسيان والسهو يوجب سقوط التكليف بالجزء أو الشرط المنسي؛ لأنّه فرع
الالتفات إليه، فيسقط اعتبارهما في حال النسيان، ويحكم بصحّة ما أتى به من العمل الناقص، إمّا تمسّكاً بإطلاق الأمر بأصل الواجب في حقّه لو فرض
إمكان خطاب الناسي بالأقل، أو بمقتضى الأصل العملي القاضي
بالبراءة لو فرض عدم
إمكان ذلك، كما ذهب إليه مشهور المتأخّرين، فلا نحتاج إلى قاعدة (لا تعاد)».
واجيب عنه:
بأنّا لو سلّمنا الأصل الموضوعي المبتني عليه هذا التقريب فلا يتمّ في المورد الذي يستوعب فيه النسيان تمام الوقت، فإنّه لا إشكال في أنّه إذا تذكّر في أثنائه أمكن
إيجاب الأكثر عليه؛ لأنّ الواجب إنّما هو الأكثر ما بين الحدّين، وهو متمكّن من إتيانه بمجرّد
ارتفاع النسيان في الأثناء، فيشمله إطلاق الأمر بالأكثر المقتضي لوجوب الإعادة.
بأنّه مبنيّ على كون الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط مولويّة، وأمّا إذا كانت إرشادية لبيان اعتبارها في المركب الشرعي- كما هو الظاهر منها ومقتضى فهم الأصحاب لها أيضاً- فإطلاق دليل
اعتبار ذلك القيد بنفسه يكون مقتضياً للإعادة والقضاء لا محالة.
بأنّه مبنيّ على الأصل المفترض من عدم إمكان فعلية الأمر في موارد النسيان، وهو ممنوع، فإنّه إن كان ذلك من جهة مساوقته للعجز عن
الامتثال فيخرج عن إطلاق الخطاب بقيد القدرة فهو واضح البطلان؛ لأنّ النسيان والغفلة غير العجز، فالمقيّد اللبّي المذكور لا يقتضي التقييد بأكثر من
إخراج حالات العجز وعدم القدرة حقيقة حتى إذا وصل إلى المكلّف.
وأمّا العجز الناشئ في طول عدم وصول التكليف- كموارد
الجهل المركب - أو عدم الالتفات إلى التكليف- كموارد السهو والنسيان- فلا مانع من إطلاق التكليف وشموله لها، وإن كان ذلك من جهة حديث الرفع ودلالته على الرفع الواقعي للتكليف في مورد الخطأ والنسيان فهو أيضاً بلا موجب؛ لأنّ مفاد الحديث ليس بأكثر من رفع المؤاخذة والتبعية والكلفة، فتجتمع مع فعلية الحكم الواقعي الثابت بمقتضى إطلاق دليله.
التمسّك بحديث الرفع وتطبيقه على الجزء أو الشرط المنسي بلحاظ حكمه الوضعي، فنرفع به جزئية الجزء المنسي أو شرطيته، وحيث إنّ الرفع فيه واقعي بلحاظ النسيان فيكون هذا الحديث بمثابة المقيّد و
الاستثناء عن إطلاق دليل الواجب، فيثبت بضمّه إليه أنّ الواجب ملاكاً أو ملاكاً وخطاباً- بناءً على إمكان تكليف الناسي بالأقلّ- في حقّ الناسي هو الأقلّ الذي جاء به، فيكون صحيحاً.
واجيب عنه:
بما تقدّم في نقد التقريب الأوّل أيضاً من عدم تماميّته فيما إذا لم يكن النسيان مستوعباً لتمام الوقت؛ لأنّ
الإتيان بالأكثر بين الحدّين الذي هو متعلّق التكليف ليس منسيّاً، فلا يكون مرفوعاً بحديث الرفع.
بعدم صحّة أصل التمسّك بالحديث بلحاظ الجزئية والشرطية ونحوها من الأحكام الوضعية؛ لأنّ ما فيه الثقل والكلفة إنّما هو الحكم التكليفي والأمر بالجزء لا الحكم الوضعي، ورفع الحكم التكليفي لا يقتضي وجوب الأقل عليه الذي لابدّ من إثباته في تصحيح عمله، فلا يمكن
إثبات الأمر بالأقلّ، بل يكون إطلاق دليل الجزئية أو الشرطية كحكم وضعي ثابت محكّماً ومثبتاً للإعادة
والقضاء ، كما هو واضح.
بالمنع من دلالة الحديث على الرفع الواقعي في مورد النسيان، بل غايته رفع التبعة والعقوبة، فلا مانع من التمسّك بإطلاق دليل الأمر الفعلي بالأكثر في حقّ الناسي وإن كان غير منجّز عليه حال نسيانه.
وهكذا يتّضح عدم صحّة شيء من التقريبين، وأنّ مقتضى الأصل والقاعدة الأوّلية في موارد السهو والنسيان ما هو ثابت في غيره من موارد الإخلال من وجوب الإعادة في داخل الوقت والقضاء خارجه لولا قاعدة (لا تعاد)، وبهذا يظهر أهمّية هذه القاعدة من الناحية الفقهية.
لا شكّ في أنّ قاعدة (لا تعاد) قاعدة واقعية لا ظاهرية؛ لأنّها تصحّح الصلاة وتنفي لزوم إعادتها واقعاً مع العلم بوقوع الخلل فيها سهواً أو نسياناً، وهذا بخلاف قاعدة
التجاوز أو الفراغ فإنّها حكم ظاهري؛ لأنّها تصحّح الصلاة عند الشكّ في الخلل إذا كان بعد تجاوز المحلّ أو بعد الفراغ حيث اخذ في موضوعها الشكّ؛ ولذا كانت حكماً ظاهرياً.
قال
السيّد الحكيم في الردّ على تمسّك صاحب الكفاية بحديث «لا تعاد» في مورد الشكّ في جزئية المنسي حال النسيان: «نعم، يبقى
الإشكال على المصنّف رحمه الله في إعمال حديث «لا تعاد» في صورة الشكّ وليس موضوعه ذلك؛ إذ هو نظير رفع النسيان، موضوعه الجزء المعلوم الجزئية، وليس هو من الأحكام الظاهرية».
وهذا هو مراد من ذكر بأنّ القاعدة حكم إرشادي ، أي
إرشاد إلى الصحّة وعدم البطلان واقعاً، وليس نهياً أو نفياً تكليفياً عن الإعادة ظاهراً أو واقعاً.
ثمّ إنّ هذه القاعدة مجرّد تعبير جامع لموارد صحّة
الصلاة ، وعدم قدح الخلل الواقع فيها إذا كان في غير الأركان.
توضيح ذلك: أنّ
القواعد الفقهية قد تكون ذات نكتة ثبوتية مستقلّة فتكون قاعدة ثبوتية خطاباً وملاكاً، أو ملاكاً فقط بحيث يكون تقييد أدلّة الأحكام الاخرى في موردها على أساس ذلك الملاك الوحداني والنكتة الواحدة الثبوتية، سواء كانت قاعدة واقعية أو ظاهرية، كقاعدة الجبّ والضمان باليد و
الإتلاف أو قاعدة التجاوز والفراغ أو غير ذلك.
وقد لا يكون إلّاتعبيراً وحدانياً في مقام الإثبات، بحيث لا يعدو أن يكون مجرّد لسان يكشف عن تقييد خطاب آخر- كالأمر بالصلاة- من دون أن يكون وراء ذلك جعل مستقلّ، أو نكتة مستقلّة ثبوتية للتقييد، كما في المقام؛ فإنّ قاعدة (لا تعاد) ليست إلّالساناً إثباتياً لبيان عدم إطلاق الجزئية أو الشرطية في حالات النسيان على حدّ سائر أدلّة التقييد، غاية الأمر قد جمع ذلك بلسان: لا تعاد الصلاة من غير الأركان.
ونفي الإعادة في فرض الإخلال بالجزء أو الشرط سهواً أو نسياناً يتصوّر ثبوتاً على نحوين:
أن تكون الجزئية أو الشرطية مقيّدة بغير حال النسيان، وهذا يعني
استيفاء الأقلّ في تلك الحالة لتمام الملاك كالأكثر في حال العمد؛ تمسّكاً بأدلّة سائر الأجزاء والشرائط، فيقع صحيحاً لا محالة ومجزياً، فلا تجب الإعادة عليه.
هذا بلحاظ الملاك وروح الحكم. وأمّا بلحاظ الخطاب فقد يقال بأنّه لا يمكن تصحيح الأقلّ في حال النسيان بالأمر، وإنّما يتعيّن تصحيحه بالملاك مع تعلّق الأمر بالأكثر بخصوصه؛ لأنّه يستحيل تخصيص خطاب بالأقلّ للناسي؛ إذ يستحيل وصوله إليه، فإنّ الناسي لا يمكن أن يتصوّر نفسه ناسياً وموصوفاً لهذا الخطاب، بل هو يتصوّر نفسه متذكّراً دائماً ومنبعثاً عن
الأمر الأوّل، وبمجرّد التفاته إلى كونه ناسياً يخرج عن ذلك، فجعل مثل هذا الخطاب لغو محض، ولعلّ هذا هو منشأ القول بأنّ الأقلّ المأتي به في حال النسيان- رغم كونه وافياً بتمام الملاك- لا يكون مأموراً به، ولكنّه مسقط للخطاب؛ لتحقيقه تمام الملاك المطلوب للمولى، وإنّما لا يشمله الأمر مع أنّه تابع إطلاقاً وتقييداً للملاك باعتبار
استحالة تكليف الناسي، حيث لا يمكن تكليفه هنا، لا بالأكثر؛ لعدم دخل الزائد في الملاك في حقّه، ولا بالأقلّ؛ لاستحالته.
إلّا أنّ الصحيح أنّه يمكن تصحيح عمل الناسي بالأمر بالأقلّ، فيكون التقييد راجعاً إلى مرحلة الجعل أيضاً، وذلك بجعل الأمر بالجامع بين الأكثر في حال العمد والأقلّ المقيّد بحال النسيان، وهو أمر واحد شخصي على طبيعي المكلّف، غاية الأمر أنّ الناسي يرى نفسه متذكّراً دائماً وممتثلًا لأفضل الحصّتين من هذا الجامع، مع أنّه يقع منه أقلّهما ولا محذور فيه.
وإن شئت قلت: إنّ كلّ مكلّف مأمور بالإتيان بما يتذكّر من الأجزاء، وهذا عنوان جامع ينطبق في حقّ الناسي على الأقلّ، وفي حقّ المتذكّر على الأكثر، فلا يتوقّف تصوير الأمر في حقّ الناسي بالأقلّ على فرض تكليف مخصوص به.
أن تكون الجزئية أو الشرطية ثابتة في حال النسيان أيضاً، ولكنّه مع ذلك لا تجب الإعادة؛ لعدم إمكان استيفاء ملاك الأكثر بعد
الإتيان بالأقلّ في تلك الحالة.
ولازم هذه الفرضية إمكان الجمع بين نفي الإعادة والعقوبة على ترك الأكثر إذا كان الإخلال نسياناً أو جهلًا عن تقصير؛ لفعلية الملاك في حقّه وقد فوّته بتقصيره رغم الاجتزاء بما أتى به وحقّقه من الملاك، وعدم لزوم الإعادة عليه؛ لعدم تأثيرها في تحصيل المقدار الفائت.
وهنا لا يمكن تصحيح الأقلّ بالأمر والخطاب الشرعي بفرض تعلّق الأمر بالجامع بين الأكثر في حال العمد والذكر، والأقلّ في حال النسيان كما كان في الفرض السابق؛ لأنّه يستلزم تقييد الجزئية بحال الذكر والعمد، وهو خلف.
وقد يحاول تصحيح الأمر بالأقلّ
افتراض أنّ الأمر بالأجزاء غير الركنية من قبيل الواجب في الواجب، فهناك أمر بالأركان، وأمر آخر بسائر الأجزاء يؤتى بها ضمن الفريضة، وقد استظهر ذلك من بعض الروايات الدالّة على أنّ سائر الأجزاء من السنّة في الفريضة.
إلّاأنّ هذا الوجه يستلزم صحّة الإتيان بالأقلّ- وهو الأركان- في حال العمد أيضاً، وهو خلاف الفتوى، بل والنصّ الدال على الإعادة في صورة الإخلال بها عمداً، الظاهر في عدم تحقّق الفريضة في تلك الحال، وأنّها ليست بصلاة أصلًا.
والصحيح إمكان تصوير ذلك من خلال أمرين وفرض تعلّق الأمر بالجامع بين الأقلّ المقيّد بحال النسيان، والأكثر المجعول على طبيعي المكلّفين، وأمر آخر بالأكثر تعييناً، إمّا مطلقاً أي لجميع المكلّفين، بناءً على أنّ النسيان رافع للتنجّز لا لفعلية الأمر، أو لخصوص العامد مع فعلية ملاكه حتى في حقّ الناسي، بناءً على مسلك المشهور من رافعية النسيان لفعلية التكليف، وبذلك يصحّ الأقلّ من الناسي بالخصوص- لا المتذكّر- باعتبار الأمر بالجامع المذكور رغم إطلاق الجزئية أو الشرطية في حقّه، بحيث يكون عاصياً إذا كان التفويت بتقصيره وسوء اختياره؛ لفعلية الأمر التعييني أو الملاك التعييني بالأكثر في حقّ تمام المكلّفين.
وهكذا يتّضح إمكان تصحيح الأقلّ في حال النسيان خطاباً وبالأمر فضلًا عن تصحيحه ملاكاً على كلتا الفرضيّتين للإجزاء ونفي الإعادة.
•
موارد قاعدة لاتعاد، لا إشكال في أنّ القدر المتيقن من القاعدة هو صورة السهو والنسيان، وإنّما وقع الكلام في عدّة امور، فراجع.
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۲۶۵-۲۷۷.