قاعدة نفي السبيل
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هذا
الأثر من آثار
الإسلام ورد في كلمات بعض
الفقهاء تحت عنوان: قاعدة نفي السبيل أو قاعدة العلو ونفي سبيل الكافرين على
المسلمين .
ويقصد بهذه القاعدة نفي
تشريع أيّ حكم يستلزم علوّ
الكافر على
المؤمن ،
أو مساواته له.
والسبيل المنفيّ فيها هو الناشئ من تشريع اللَّه تعالى وجعله مباشرة، لا ما كان منشأه المكلّف
بإتلاف ونحوه.
ومعنى ذلك أنّ كلّ شيء يصدر من اللَّه تعالى بوصفه مشرعاً لا يوجد فيه منحُ سبيلٍ و
سلطنة للكافرين على المسلمين، فالشريعة خالية من ذلك، بصرف النظر عن الجانب التكويني الذي قد يمنح كافراً سلطةً وسيطرةً على مسلم.
والفرق بين هذه القاعدة وقاعدة
الإحسان أنّ قاعدة الإحسان عبارة عن عدم مؤاخذة المحسن على تبعات ما أحسن به على الآخرين الشاملة للسبيل الذي فتحه المحسن على نفسه كإتلاف مال الغير من دون قصد؛ لقوله تعالى: «مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ»،
بخلاف قاعدة نفي السبيل التي لا تشمل هذا النوع من السبيل كما يستفاد ذلك من أدلّتها.
يمكن أن تكون حكمة هذه القاعدة
إبراز مكانة المؤمنين وتفوّقهم على الكافرين، أو
إكرامهم وتقديرهم على
اتّصافهم بالإيمان ، أو تنبيههم على أنّ سلطة الكافرين لم تكن برضاً من اللَّه ومحبّة، فلا يسلّموا لها ولا يخضعوا أمامها، وعليهم التخلّص منها والمنع من تحقّقها.
وبهذا تكون هذه القاعدة من القواعد الكبرى في علاقة
المسلم بغير المسلم، وفي العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية أو
المجتمع الإسلامي ، وسائر الدول والمجتمعات، ممّا يعطيها بعداً قانونياً واجتماعياً وسياسياً ودولياً و
اقتصادياً ، كما سوف نلاحظ قريباً إن شاء اللَّه،
الأمر الذي ألفت النظر إليه
الإمام الخميني قدس سره.
ذكر الفقهاء عدة أدلّة لهذه القاعدة من
الكتاب والسنّة وغيرهما، وهي كالتالي:
الأوّل: قوله تعالى: «وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»،
فإنّ الظاهر منه عدم تشريع حكم موجب لفتح السبيل والسلطة للكافرين على المؤمنين،
فالجعل المنفيّ فيه جعل تشريعيّ.
وقد نوقش في
الاستدلال بهذه الآية بعدّة مناقشات:
أوّلًا: إنّ المراد من السبيل الحجّة
يوم القيامة ، بقرينة قوله تعالى قبل ذلك: «فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»،
أي لا حجّة للكافرين على المؤمنين يوم القيامة، بل الحجّة للمؤمنين فقط.
ويؤيّده
ما رواه
ابن وكيع ، قال: كنت عند
علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال رجل: يا
أمير المؤمنين أرأيت قول اللَّه: «وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»
وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له علي عليه السلام: «ادنه، ادنه»، ثمّ قال عليه السلام: ««فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»
يوم القيامة».
وقد فسّر السبيل في روايتي
عطاء الخراساني و
السدي بنفس هذا التفسير.
واجيب عن هذه المناقشة بأنّ تفسير الآية ببعض مصاديقها لا يمنع من تفسيرها بمصاديق اخرى؛ لأنّ المورد لا يخصّص الوارد،
خصوصاً وأنّ نفي الغلبة والسبيل على المؤمنين قابل
للانطباق على نفي تشريع ما يوجب غلبة الكافرين أيضاً؛
فإنّ للقرآن سبعة بطون، وتفسير الآية ببعض بطونها لا يمنع من تفسيرها ببطونها الاخرى.
وثانياً: إنّ الكافرين والمؤمنين لمّا كان ورودهما في الآية الشريفة بصيغة الجمع المحلّى باللام دلّا على أنّ اللَّه تعالى لم يجعل لكلّ فرد من أفراد الكافر على كلّ فرد من أفراد المؤمن سبيلًا، ففي الآية دلالة على سلب العموم لا عموم السلب، وهي لا تنافي وجود سبيل لكلّ فرد من أفراد الكافر على بعض أفراد المؤمن أو العكس، أو بعض أفراد الكافر على بعض أفراد المؤمن.
واجيب عنه بأنّ الظاهر من الآية بقرينة المقابلة والتعليق على الوصف
إرادة الجنس المفرد؛ فإنّه من معاني الجمع المحلّى باللام، فيكون المعنى: لن يجعل اللَّه سبيلًا للكافر على المؤمن.
هذا
بالإضافة إلى أنّ سلب العموم في الآية يدلّ على عموم السلب، بمعنى أنّ السبيل إذا لم يثبت لجميع الكافرين على جميع المؤمنين فهو لا يثبت أيضاً في الصورتين الاخريين؛ لقاعدة
الاشتراك ، وعدم القول بالفصل.
وثالثاً: إنّ الآية ليست في مقام بيان الحكم الشرعي، بل لبيان شرف
الإيمان ورفعة
الإسلام ، وذلك يعرف من ملاحظة ما قبلها وما بعدها.
واجيب عن هذا الكلام بأنّ ظهور الآية في ذلك لا يمنع من ظهورها في نفي السبيل التشريعي؛ إذ لا مانع من الجمع بين الظهورين.
وربما يكون المقصود من المناقشة الثالثة نفي مقام البيان، لا عدم
إمكان الجمع بين الظهورين على تقدير توفر مقام البيان.
الدليل الثاني: قول
الإمام الصادق عليه السلام : «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون»،
فإنّ المستفاد منه مراعاة تفوّق المسلم على الكافر في تشريع الأحكام،
خصوصاً وأنّ علماءنا قد استدلّوا بهذه الرواية لنفي السبيل التشريعي في موارد متعدّدة من
الفقه ممّا يعني
استظهارهم ذلك منها، وهو ينفع كثيراً في تفسير الرواية بالغلبة التشريعية.
وممّا يساعد عليه قوله عليه السلام في ذيل الرواية المذكورة: «الكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون» ممّا يعني تفسير الرواية بالقاعدة دون غيرها؛ لأنّها في مقام
الإنشاء والجعل دون
الإخبار .
ونظراً
لأهمية هذا الحديث في تأسيس قاعدة العلوّ ونفي السبيل، فقد وقع موقع البحث على المستويين: السندي والدلالي.
أمّا على المستوى السندي، فقد ذكروا أنّ الرواية مرسلة، لكن مع ذلك بذلت محاولتان لتصحيحها:
الاولى: جبر الضعف السندي بالشهرة العملية، حيث اعتمد عليها الفقهاء وعملوا بها. وهو مبنيّ على قبول كبرى جبر الخبر الضعيف بعمل الأصحاب وثبوت
استناد الأصحاب إلى هذا الحديث.
الثانية: حيث تعدّ هذه الرواية من مراسيل
الشيخ الصدوق ، فيلتزم بصحّتها، بناءً على الرأي القائل بحجّية مراسيل الصدوق المصدّرة بما يدلّ على نقل الحديث مباشرة عن المعصوم عليه السلام.
وأمّا على المستوى الدلالي والتفسيري، فقد طرحت في عرض التفسير المتقدّم لهذه الرواية احتمالات اخرى، وهي كما يلي:
الأوّل: أن يكون المراد من علوّ الإسلام علوّ الشرف والمرتبة.
واورد عليه بأنّه مخالف لظاهر الرواية.
ولعلّ وجه المخالفة هو ما ذكر في بيان الاستدلال بالرواية على قاعدة العلوّ.
الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من علوّ الإسلام علوّه على سائر الأديان بالحجج والبراهين،
فتكون نظير قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»،
أي ليجعله عالياً متفوّقاً على غيره من
الأديان حجّة وبرهاناً.
ومبرّر هذا الاحتمال أنّ حقيقة الإسلام مستندة إلى الحجج الواضحة والبراهين اللائحة التي يفهمها كلّ عاقل، بخلاف الأديان المنحرفة المبنية على تخيّلات واهية وتوهّمات
باطلة .
وعليه، يمكن أن يراد من الرواية الإنشاء بصيغة الإخبار، بأن يكون الغرض وجوب العمل على
إعلاء حجج الإسلام وبراهينه؛ لغلبتها على غيرها من الحجج والبراهين في سائر الأديان،
فتكون الرواية إنشائية لكن لحكم تكليفي خاص.
واورد على هذا
الاحتمال بأنّ إرادة الغلبة على الخصم في مقام
الاحتجاج خلاف الظاهر من الرواية؛
لعدم صدق التسلّط بالغلبة في الاحتجاج.
الاحتمال الثالث: أن يراد الإخبار بغلبة الإسلام و
انكسار سائر الأديان في مستقبل الزمان عند ظهور مولانا
الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف .
واستبعد بعضهم هذا الاحتمال؛ لأنّ الظاهر من نفي علوّ غيره في المستقبل النفي الدائمي، خصوصاً مع حذف المتعلّق والزمان، فيكون مدلول الخبر الإخبار عن عدم علوّ الكفر على الإسلام في وقت من الأوقات،
الأمر الذي يستلزم الكذب في الحديث؛ لأنّا نعلم بغلبة الكفّار ومقهوريّة المسلمين في بعض الأزمنة التي وقعت بعد صدور هذا الحديث، فلابدّ من حصر الحديث بالإنشاء دون الإخبار؛
لكي نتفادى مشكلة الكذب، ويدلّ على نقل الحديث من البُعد الخبري إلى البُعد الإنشائي قوله عليه السلام في ذيل الرواية: «الكفّار بمنزلة الموتى لا يحجبون ولا يرثون»،
وهو- كما تقدم- أنسب بالغلبة التشريعيّة دون غيرها.
الاحتمال الرابع: أن يراد من علوّ الإسلام بقاؤه شامخاً لا تناله يد النسخ والزوال كما نالت بقية الأديان.
وعلى أيّ حال فالاحتمالات في تفسير الرواية متعدّدة، حتى أنّ تعدّدها أوجب ذهاب
السيد اليزدي إلى
إجمالها وعدم وضوح المقصود منها.
الدليل الثالث:
الإجماع ، فقد استدلّ للقاعدة بالإجماع المحصّل، وكذا المنقول بالغاً في نقله حدّ
الاستفاضة ، بل التواتر المؤيّد بالشهرة العظيمة.
لكن نوقش بأنّه مدركي ناشئ من نفس أدلّة القاعدة، فيرجع اعتباره إلى
اعتبار أدلّتها نفياً أو
إثباتاً .
الدليل الرابع: ما ذكره بعض الفقهاء من أنّ شرف الإسلام وعزّته يقتضيان عدم جعل حكم يوجب ذلّ المسلم، فاللَّه تعالى يقول: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ»
ممّا يعني عدم وجود أحكام في الشريعة يعلو فيها الكافر على المؤمن، وهو عبارة اخرى عن قاعدة نفي السبيل.
فكيف يمكن أن تكون الشريعة مناديةً بهذه العزّة والشرف للمسلم ثمّ تشرّع أحكاماً تنتج مذلّةً في المؤمن أمام الكافر؟! إلّاأنّ هذا أشبه
بالاستحسان .
الدليل الخامس: تنقيح المناط و إلغاء الخصوصية، عبر جمع بعض الموارد التي رأينا أنّ الشارع لا يرضى فيها بتسلّط الكافر على المسلم، ومن أمثلة ذلك
اشتراط الإسلام في الولي، الكاشف عن عدم رضا الشارع بتسلّط الكافر على المسلم في سائر الأحكام والمقامات،
ممّا يعني تشريع قاعدة نفي السبيل.
وكذلك من أمثلته ما ذكره بعضهم من أنّ الشارع إذا كان لا يرضى بإهانة الشعائر- التي منها حرمة الإيمان- فكيف يرضى بتسليط الكافر عليه؟! مع أنّ فيه من
الإهانة ما لا يخفى.
فيستفاد بفحوى
الأولويّة من أدلّة تلك الأحكام نفي السبيل على المسلم.
إلّاأنّ هذا الوجه لو سلّم وتمّ فليس فيه
إطلاق يمكن الرجوع إليه في كلّ مورد شكّ فيه؛ لكونه دليلًا لبّياً يقتصر فيه على مقدار القطع واليقين بالحكم كما هو واضح ما لم يحصل للفقيه قطع أو
اطمئنان بالمناط الشرعي.
لا إشكال في أنّ موضوع القاعدة هو المسلم، والمراد بالمؤمن فيها أيضاً هو ذلك، خصوصاً إذا كان المستند فيها قوله تعالى: «وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا».
وهل يشمل الكافر من يحكم بكفرهم ممن ينتحل الإسلام كالغلاة والنواصب فلا يكون لهم سبيل على المسلمين أم لا؟
ذهب
الشيخ الأنصاري إلى خروجهم عن ربقة الإيمان ودخولهم في زمرة الكفّار؛ لأنّ الكافر
باعتقاده من حكم بنجاسته حتى لو كان منتحلًا الإسلام، ولمّا كان هؤلاء محكومين بالنجاسة فهم كفّار، فلا تجري في حقهم قاعدة نفي السبيل.
بينما ذهب آخرون إلى أنّ
النواصب و
الغلاة كسائر المسلمين، وأنّ كلّ من ينتحل الإسلام حكمه حكم المسلمين، بخلاف المرتدّين الذين رجعوا عن إسلامهم وارتدّوا على أعقابهم.
وبعبارة اخرى: إنّ بين عنواني النجاسة والكفر عموماً وخصوصاً من وجه، فقد يكون الشخص نجساً رغم كونه مسلماً كالناصبي،(أمّا المغالي فليست نجاسته مسلّمة. )
وقد يكون كافراً مع كونه طاهراً كالكتابي بناءً على القول بطهارته، وقد يكون نجساً وكافراً معاً كالمرتدّ، فلا ينبغي الخلط في ذلك والحكم على الجميع بحكم واحد.
وهذا معناه أنّ الناصبي والمغالي لا تشملهما قاعدة نفي السبيل، بخلاف
المرتدّ الذي تشمله هذه القاعدة.
•
موارد جريان قاعدة نفي السبيل ، بلغت قاعدة نفي السبيل درجة من العموم والشمول حتى قيل: إنّها تجري في جميع الأحكام، وقد وقع بحث بين الفقهاء في بعض موارد جريانها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۳، ص۶۶-۸۴.