لزوم الإبراء
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولتفصيل أكثر انظر
الإبراء (توضيح)
وهو لزوم
الإبراء وعدم جريان الخيار فيه.
الإبراء عند فقهائنا لازم لا رجوع فيه ولا خيار- حتى خيار الشرط- وقد صرّح بذلك جمع منهم.
أمّا اللزوم فيمكن الاستدلال عليه بوجوه:
أنّ الجواز إمّا حقّي ينشأ من جعل الخيار ونحوه، وإمّا حكمي ينشأ من حكم الشارع بذلك، وكلاهما مفقود في الإبراء، أمّا الأوّل فلما سيأتي، وأمّا الثاني فلعدم دلالة دليل على ذلك، فنبقى نحن ومقتضى أدلّة صحة ونفوذ الإبراء الذي يقتضي سقوط الحق بذلك، فيحتاج رجوعه من جديد إلى دليل، والأصل اللفظي المتمثّل في
إطلاق أدلّة
الإبراء والأصل العملي المتمثّل في
الاستصحاب يقتضيان اللزوم وعدم رجوع الحق، وهذا هو معنى: أنّ مقتضى الأصل اللزوم في المقام.
أنّ حقيقة الإبراء- على ما تقدم- هو
الإسقاط ورفع
اليد عن الحق على ذمّة الغير، والإسقاط يعني رفع موضوع الحق وإلغاء العلقة الوضعية التي كانت لصاحب الحق، فاذا كان هذا نافذاً وصحيحاً كان مقتضاه اللزوم لا محالة؛ لأنّه بذلك يكون قد ارتفع الحق وزالت تلك العلقة الوضعية، فرجوع الحق بعد ذلك يكون حقاً جديداً، وهو بحاجة إلى سبب جديد لا محالة، فالابراء والإسقاط ونحوهما من الإيقاعات تستبطن اللزوم ذاتاً بحيث يكون الجواز مغايراً لمضمونه ومناقضاً معه.
السيرة والارتكاز العقلائي الممضى شرعاً، فانّه لا إشكال في لزوم الإبراء عند العرف والعقلاء، وقد أمضاه الشرع المقدّس حيث لم يردع عنه ولا دلّ دليل شرعي على خلافه.
الاجماع المدّعى في كلمات الفقهاء، وستأتي الاشارة إليه في كلماتهم.
وأمّا عدم صحة جعل الخيار فيه، فلأنّ مرجع جعل الخيار إلى اشتراط حق الفسخ والرجوع، وقد تقدم أنّ هذا
خلاف مقتضى الإبراء ومناقض معه، فيكون باطلًا، بل مبطلًا للإبراء.
هذا، مضافاً إلى الإجماع المدّعى في الإيقاعات، وإلى أنّ شرط الخيار إنّما يتعقل في العقود القائمة بين طرفين، ولا يعقل في الإيقاعات التي لا تكون بين اثنين، فلا يعقل فيه خيار الشرط، بل قد يقال بعدم جريان الشروط في الإيقاعات مطلقاً؛ لأنّها لا تكون إلّا بين اثنين.
وهناك وجوه اخرى أيضاً اشير اليها في كلمات الفقهاء
لاثبات عدم جريان خيار الشرط في الإيقاعات يراجع فيها بحث (خيار) و (إيقاع).
قال
المحقّق النجفي ما مضمونه: إنّ خيار الشرط لا يثبت في
الإبراء والطلاق والعتق للاجماع المحكي أوّلًا، ولأنّ هذه إيقاعات لا عقود، وهذا ينافي الخيار؛ لابتناء الإيقاع على النفوذ بمجرد الصيغة، فلا يدخله الخيار، والمفهوم من الشرط ما كان بين اثنين.. فلا يتأتّى في الإيقاع المتقوّم بواحد.
وفي
منهاج الصالحين : «لا يجوز اشتراط الخيار في الإيقاعات كالطلاق والعتق».
وأمّا العقد المتضمن للايقاع أو المفيد فائدته
كالصلح المفيد للإبراء فقد
اختلف فقهاؤنا فيه:
فبعض ذهب إلى عدم الخيار فيه
كالشيخ الطوسي والقاضي ابن البراج
والعلّامة الحلّي في أحد قوليه
والمحقق الكركي والشيخ الأنصاري .
وبعض ذهب إلى ثبوته في كل عقد لازم غير ما استثني فيشمل مثل الصلح المتضمن أو المفيد فائدة الإبراء
كالمحقق الحلّي والمحقّق النجفي .
وبعض فصّل بين العقد المتضمن والمشتمل على الإيقاع وبين العقد المفيد فائدة الإيقاع كالسيّد
الإمام الخميني حيث قال: «العقد المتضمن للإيقاع كعقد الصلح إذا كان التصالح على الإبراء كأن يقول:
صالحتك على إبراء ذمتك في مقابل كذا، وكالصلح المتضمن للإسقاط كقوله:
صالحتك على إسقاط دعواي في مقابل كذا ممّا يكون التصالح على نفس
الإبراء والإسقاط... (فهذا لا يصح شرط الخيار فيه). أمّا العقد المفيد فائدة الإبراء أو الإسقاط كالصلح على ما في الذمّة حيث يكون موجباً لإبرائها بعد تحقق الصلح فالظاهر جواز الاشتراط فيه؛ لأنّه كسائر العقود وكغيره من موارد الصلح وكبيع الدين على من عليه ذلك».
إذا اختلّ أحد أركان الإبراء المتقدّمة بسبب فقدان شرط من الشروط التي تمّ عرضها في البحوث السابقة، كما إذا لم يكن المبرئ أهلًا للابراء، أو لم يكن على المبرأ دين أو حق، أو وقع الإبراء عن العين، أو غير ذلك من الأمثلة، كان الإبراء باطلًا، بمعنى أنّه لا يترتب عليه أيّ أثر، بل يبقى كل شيء على حاله كما كان قبل الإبراء، وهذا واضح.
وإذا كان الإبراء فاسداً، وكان في نفس الوقت يتضمّن إسقاط حق ثابت للمبرئ، فهل إنّه يُفسد أيضاً ما يتضمّنه من إسقاط فيبقى الحق ثابتاً للمبرئ أم لا يُفسده بل يكون الإسقاط صحيحاً فيسقط حق المبرئ؟ فيه وجهان، بل قال الشيخ أنّ فيه قولين.
ومثاله: ما إذا كان العبد قد رهنه مولاه عند الدائن وثيقة لدينه ثمّ جنى شخص على العبد المرهون بجناية توجب الأرش، فإنّ الأرش حينئذٍ يصبح كالعبد نفسه ملكاً للراهن أي المولى ولكن حق الرهانة الثابت للمرتهن متعلق به، فإذا أبرأ المرتهنُ الجانيَ من الأرش كان هذا الإبراء فاسداً لا يترتب عليه الأثر، وهو فراغ ذمّة الجاني من الأرش؛ إذ لم يكن الأرش للمرتهن كي يُسقطه عن الجاني، لكن هذا الإبراء في نفس الوقت كان يتضمّن إسقاط حق الرهانة أيضاً الثابت للمبرئ المرتهن.
قال الشيخ الطوسي: «وإذا بطل إبراؤه فهل يسقط حق المرتهن من الوثيقة؟ من الناس من قال: يسقط حقّه؛ لأنّ إبراءه من المال يتضمّن إسقاط حقّه للوثيقة، ومنهم من قال: لا يسقط حقّه؛ لأنّ إبراءه وعفوه عن الأرش باطل فوجوده وعدمه سواء، فوجب أن يكون الأرش باقياً على صفته».
وقال
العلّامة الحلّي : «ولو أبرأ المرتهن لم يصحّ، والأقرب بقاء حقّه، فإنّ الإبراء الفاسد يفسد ما يتضمّنه، كما لو وهب الرهن من غيره».
وقال ولده
فخر المحققين بصدد توضيح كلام والده ما مضمونه: أنّ الوجه في بقاء حق الرهانة للمرتهن في الأرش هو أنّ ثبوت الحكم- وهو سقوط حقّه- إمّا أن يكون بالنصّ عليه والتصريح به، أو باثبات علّته، أو باثبات ملزومه، والكلّ منتفٍ:
أمّا الأوّل فلأنّه لم يصرّح بإسقاط حقّه.
وأمّا الثاني فلأنّ إبراءه الجاني عن الأرش غير نافذ؛ لأنّه تصرّف في ملك الغير، فلم تثبت العلّة كي يسقط حقّه.
وأمّا الثالث فواضح؛ لأنّه لا ملزوم هنا.
ثمّ قال ما مضمونه: إنّ هناك احتمالًا آخر في المسألة، وهو سقوط حقّ الرهانة استناداً إلى أنّ إبراءه الجاني من الأرش أبلغ في إسقاط هذا الحق من التصريح بالاسقاط؛ لأنّ هذا الإبراء- يعني الحكم بانتفاء علّة تعلّق حقّ الرهانة بالأرش، وهي عبارة عن ثبوت الأرش في ذمّة الجاني- والحكم بانتفاء العلّة أبلغ في نفي المعلول من الحكم بانتفاء المعلول خاصّة؛ لأنّه لمّي.
وقال
المحقق الكركي في توضيح كلام العلّامة الحلّي المتقدم: «إنّ الإبراء يتضمن سقوط حقه (حق الرهانة)؛ لامتناع بقاء هذا الحق مع صحّة الإبراء، فحيث إنّ المتضمِّن- بالكسر- فاسد، فالمتضمَّن- بالفتح- أيضاً كذلك؛ إذ لا يثبت التابع من حيث هو تابع مع انتفاء متبوعه».
ثمّ قال: «ويحتمل ضعيفاً السقوط (لحق الرهانة)؛ لأنّ الإبراء قد اقتضى أمرين (سقوط الأرش، وسقوط حق الرهانة)، وامتنع صحّة أحدهما لمانع- وهو عدم كون المبرِئ مالكاً للأرش- يصح الآخر، وذلك اقتصاراً بالبطلان على موضعه».
وإذا كان الإبراء قد اشتُرِط في ضمن عقد كالبيع وبعد وقوع الإبراء ظهر فساد العقد، كما إذا كان لشخص على آخر دين فاشترط المدين على الدائن- في ضمن بيع وقع بينهما- أن يُبرِئه من الدين فأبرأه ثمّ ظهر أنّ البيع كان باطلًا لسبب من الأسباب، فالذي يبدو من كلام
المحقّق النجفي هو أنّ الإبراء صحيح استناداً إلى أنّ تخيل صحّة البيع إنّما كان من الدواعي الباعثة على الإبراء، وتخلّف الداعي لا يوجب البطلان، فالابراء الصادر يشمله
إطلاق ما دلّ على الصحّة.
وهذا البيان قابل للمناقشة أمّا إذا كان الشرط براءة ذمّة المدين ضمن البيع بنحو شرط النتيجة فواضح، حيث إنّ فساد البيع يوجب فساد شروط النتيجة فيه، فإنّ دليل نفوذها وصحتها إنّما هو دليل صحة البيع ووجوب الوفاء به أو دليل «المسلمون عند شروطهم» لا أدلّة الإبراء، والمفروض عدم شمول دليل الوفاء لهذا البيع، فلا يكون الشرط فيه إلّا ابتدائياً.
وأمّا إذا كان الشرط إبراء المدين بنحو شرط الفعل وقد أبرأه بعد البيع بتخيل صحته فهنا أيضاً يمكن القول ببطلان الإبراء؛ لعدم رضى
المبرئ بذلك إلّا على فرض صحّة البيع، نظير إبراء الدين بظن أنّه قليل فبان كثيراً.
وقد يطلّق
الزوج زوجته وتبرئ الزوجة ذمّة زوجها عن المهر بظنّها أنّ الطلاق الواقع صحيح ثمّ يظهر فساده لسبب من الأسباب، فالذي يبدو من كلام
المحقّق النجفي هو أنّ الإبراء صحيح هنا أيضاً؛ لنفس الدليل، فإنّ تخيل صحّة الطلاق كان داعياً باعثاً على الإبراء، وتخلّف الداعي لا يوجب بطلان الإبراء، فيشمله
إطلاق ما دلّ على الصحّة.
وفي قبال ذلك: احتمال بطلان
الإبراء في هذا الفرع أيضاً؛ بدعوى أنّ صحّة المعاملة عرفاً قيد في الإبراء في أمثال هذه الموارد، وليس مجرّد داعٍ، فالزوجة إنّما تبرئ ذمته بعد الطلاق، لا مطلقاً.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۳۷۲-۳۷۷.