الآنية المتنجسة بالخمر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اختلف الفقهاء في كيفية تطهير الآنية المتنجسة بالخمر على أقوال:
وجوب الغسل سبع مرّات، واختاره المفيد
والشيخ الطوسي في أكثر كتبه
وسلّار
وابن حمزة
وابن إدريس
والشهيد الأوّل
والمحقق الثاني
بل نسب إلى المشهور.
واستدلّ عليه بموثق
عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: في الاناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال: «تغسله سبع مرّات، وكذلك الكلب».
ونوقش: بأنّه معارض بموثق عمّار الآخر: أنّه سئل
الصادق عليه السلام عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ فقال: «يغسله ثلاثاً»، وسئل أ يجزيه أن يصبّ فيه الماء؟قال: «لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرّات».
فإنّ مقتضى الجمع بينهما هو الحكم بكفاية الغسل في
آنية الخمر ثلاث مرّات
واستحباب غسلها سبعاً كما صرّح به بعض.
وبالموثق يقيّد إطلاقات
الأمر بالغسل الظاهرة في كفاية المرّة الواردة في مطلق المتنجسات أو في خصوص آنية الخمر.ودعوى: كون ظهوره مستنداً إلى مفهوم العدد الممكن تقييده بموثق السبع. مندفعة بكونه مستنداً إلى منطوق التحديد كما ذكره الشيخ الأعظم قدس سره.
وجوب الغسل ثلاثاً، وقد اختاره
الشيخ الطوسي في بعض كتبه
وابن البرّاج
وأورده المحقق إيراداً
وتبعه العلّامة في بعض كتبه
واختاره الطباطبائي.
وقد اتّضح وجهه ممّا تقدّم آنفاً.
كفاية مطلق الغسل فيه كسائر النجاسات، وصرّح به المحقق في
المعتبر والعلّامة في بعض كتبه.
ويدلّ عليه الروايات المطلقة في مطلق المتنجّس أو في خصوص آنية الخمر، من قبيل: صدر موثّق عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال: إذا غسل فلا بأس.وعن الابريق وغيره يكون فيه خمر، أ يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال: إذا غسل فلا بأس».
وخبر
حفص الأعور : «قلت للصادق عليه السلام: إنّي آخذ الركوة فيقال: انّه إذا جعل فيها الخمر وغسلت، ثمّ جعل فيها البختج كان أطيب له، فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثمّ نصبّه ونجعل فيها البختج؟ قال: لا بأس».
فإنّ هذه النصوص دلّت على كفاية مطلق الغسل، وأمّا ما دلّ على الثلاث فقد حملوه على أنّه باعتبار أنّ الغالب في
الانقاء إنّما يحصل بالثلاث،
أو على
اختلاف أنواع الأواني، قال
المحدّث البحراني : «ويقرب عندي في وجه الجمع بين الخبرين المذكورين الحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة المذكورة منها، فمنه ما يحصل بالثلاث، ومنه ما يتوقّف على السبع، وهو وإن كان أيضاً لا يخلو من تأمّل إلّا أنّه في مقام الجمع لا بأس به».
ولكن لا شاهد لهذا الجمع، بل الصحيح هو ما تقدّم، من تقييد هذه المطلقات بالتعدّد، بل تقدّم ذلك أيضاً في
الآنية المتنجسة بمطلق النجاسات إذا غسلت بالماء القليل. ثمّ على القول بلزوم غسل آنية الخمر ثلاثاً هل يختص ذلك بالتطهير بالماء القليل أو يعمّ التطهير بالماء المعتصم أيضاً؟
فيه قولان:
القول الأوّل:
اختصاص الغسل ثلاثاً بالقليل، وهو المشهور، فيسقط العدد في العاصم مطلقاً.
وقد استدلّوا عليه بوجوه عديدة، منها:
۱- دعوى
انصراف ما دلّ على
اعتبار التعدّد إلى الغسل بالقليل، ومع عدم شموله الغسل بالماء الكثير ونحوه لا مناص من الرجوع فيه إلى المطلقات، وهي تقتضي كفاية الغسل مرّة واحدة.وفيه: انّ دعوى الانصراف لا منشأ لها غير غلبة الوجود؛ لغلبة الغسل بالماء القليل، فإنّ الأحواض المعمولة في زماننا لم تكن متداولة في تلك العصور، وإنّما كان تطهيرهم منحصراً بالمياه القليلة باستثناء سكنة السواحل وأطراف الشطوط. إلّا أنّ غلبة الوجود غير موجبة للانصراف ولا سيما إذا كان المقابل أيضاً كثير التحقق في نفسه، كما هو الحال في المقام؛ لأنّ الغسل بالماء الكثير أيضاً كثير كما في البراري والصحار سيما أيّام الشتاء لكثرة
اجتماع المياه- الناشئة من المطر وغيره- في الغدران، وعليه فدعوى الانصراف ساقطة.
۲- إطلاق أدلّة التطهير بالماء كالآيات والأخبار وإطلاق ما دلّ على أنّ المتنجّس يطهر بغسله من غير تقييده بمرتين أو أكثر.ويدفعه: انّ العبرة باطلاق دليل المقيّد، وهو ما دلّ على لزوم التعدّد في غسل الاناء المتنجس بالخمر أو بوقوع الجرذ أو بولوغ
الخنزير ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق في اعتبار التعدّد بين غسله بالماء القليل وغسله بالكثير.
۳- التمسّك بمرسلة
الكاهلي «كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر».
وما أرسله العلّامة في المختلف عن
أبي جعفر عليه السلام انّه ذكر بعض علماء
الشيعة انّه كان بالمدينة رجل يدخل على أبي جعفر محمّد بن علي عليهما السلام، وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيف، فكان يأمر الغلام يحمل كوزاً من ماء يغسل رجله إذا أصابه، فأبصره يوماً أبو جعفر عليه السلام، فقال: «إنّ هذا لا يصيب شيئاً إلّا طهّره، فلا تعد منه غسلًا».
وهاتان الروايتان ضعيفتان
بالإرسال ،
بالاضافة إلى ما اورد على الاستدلال بهما من مناقشات أخرى.
القول الثاني: اشتراط التعدد ثلاثاً مطلقاً حتى في الماء المعتصم، فإنّ ما دلّ على اعتبار التعدّد- وهو موثّق عمّار الوارد في الخمر- مطلق، ولا يختص بالقليل، فلا فرق في ذلك بين غسلها بالماء القليل أو بالماء العاصم.ولا موجب لدعوى اختصاصها أو انصرافها إلى الغسل بالماء القليل، فتكون مقيّدة لمطلقات الغسل بالقليل أو المعتصم؛ لأنّها بحكم الأخصّ منها جميعاً. بخلاف ما تقدّم عن عمّار في الآنية المتنجسة بمطلق القذارة؛ فانّه بقرينة الصبّ والتفريغ فيه كان خاصّاً بالتطهير بالماء القليل، فيبقى تطهير
الآنية بالمعتصم في غير الخمر تحت مطلقات كفاية مطلق الغسل بالماء.
نعم، أطلق
السيد الخوئي القول بسقوط التعدّد مطلقاً في التطهير بماء المطر، قال:«التطهير بماء المطر يحصل بمجرّد
استيلائه على المحلّ النجس، من غير حاجة إلى عصر ولا إلى تعدّد، إناء كان أم غيره»؛
وذلك تمسّكاً بصحيح
هشام بن سالم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام انّه سأل عن السطح يبال عليه فتصيبه السماء، فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال: «لا بأس به، ما أصابه من الماء أكثر منه»
حيث دلّت على كفاية مجرّد
إصابة المطر للمتنجّس في تطهيره معلّلًا بأنّ الماء أكثر؛ فإنّ السطح الذي يبال عليه يطهر إذا رسب فيه المطر، فيستفاد منها أنّ للمطر خصوصية من بين سائر المياه تقتضي كفاية إصابته وقاهريته في تطهيره المتنجسات بلا حاجة فيه إلى تعدّد أو عصر.
ويمكن المناقشة فيه: بأنّ غاية ما تدلّ عليه صحيحة هشام هو
اعتصام ماء المطر، ولا دلالة فيها على التطهير به، وأنّه هل يعتبر فيه التعدّد أو غيره أو لا يعتبر.وذلك فإنّ قوله عليه السلام: «ما أصابه من الماء أكثر» تعليل لقوله: «لا بأس به»، وحينئذٍ؛ فهنا احتمالان:
الاحتمال الأوّل: انّ مرجع الضمير المجرور في «لا بأس به» هو الماء النازل من سطح الواقع على الثوب.
الاحتمال الثاني: انّ مرجع هذا الضمير هو السطح.
فعلى
الاحتمال الأوّل تكون جملة «لا بأس به» بياناً لطهارة الماء النازل من السطح، ويكون التعليل تعليلًا لطهارة الماء النازل، لا لمطهّرية الماء للسطح؛ فكأنّ المقصود بالتعليل رفع
استبعاد أنّ ماء المطر لم ينفعل رغم وقوعه على أرض تكثر عليها النجاسات؛ وذلك ببيان أنّ الماء أكثر منها ولم يتغيّر بها، فلا ينفعل بها، فلا يكون التعليل تعليلًا للمطهرية مباشرة
ليستدلّ به على كفاية مجرّد الاصابة.
وعلى الاحتمال الثاني يكون التعليل تعليلًا لمطهّرية المطر للسطح؛ فكأنّه قال:إنّ السطح طهر؛ لأنّ ما أصابه من الماء أكثر، إلّا أنّ الحكم بطهارة السطح لم يعلّل باصابة ماء المطر له، بل بأنّ ما أصابه من ماء المطر أكثر من البول بنحو لم يتغيّر به.فتمام نظر التعليل إلى بيان أنّ الماء الذي وقع على السطح لم يتغيّر بالبول، ولهذا طهّره، وليس له نظر إلى أنّ الاصابة هل تكون مطهّرة مطلقاً أو مشروطة بالعصر أو العدد.
حكم سائر المسكرات:
لقد تضمّنت أكثر كلمات الفقهاء عنوان (الخمر)،
وفي بعضها تعميم الحكم للمسكر،
بل لم يستبعد بعضهم
إلحاق الفقّاع أيضاً.
وعنوان الخمر له إطلاقان بأحدهما يعمّ كلّ مسكر، لا خصوص المتخذ من العصير العنبي.
ويشهد بارادة الاطلاق الأوّل في المقام ورود عنوان (النبيذ) في موثق عمار الأوّل الدالّ على الغسل سبعاً، بينما اشتمل موثقه الآخر- الدالّ على كفاية الثلاث- على عنوان (الخمر). ولا يحتمل أن يكون ما عدا الخمر- بالمعنى الأخص- أشدّ حالًا منه في التطهير. ومن هنا كان هذا الحكم عاماً لتمام المسكرات.
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۴۱۴-۴۲۰.