الاختلاف في نوع العمل المستأجر عليه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا اختلف المستأجر مع الأجير في نوع العمل المستأجر عليه فقال المستأجر مثلًا: استأجرتك على أن تحمل المتاع إلى البلد الفلاني وقال الأجير: بل إلى البلد الآخر، فالمعروف أنّه إذا تنازعا قبل العمل فهو من
التحالف.
إذا اختلف المستأجر مع الأجير في نوع العمل المستأجر عليه فهو من
التحالف إمّا لكون الميزان بمصب الدعوى أو لأنّ كلّاً منهما يدّعي على الآخر ما يحتاج إلى إثبات، فالمستأجر يدّعي على الأجير استحقاق الحمل إلى البلد الفلاني والأجير ينكره و
الأجير يدّعي على المستأجر استحقاق الاجرة بالحمل إلى البلد الآخر والمستأجر ينكره، وهذا نظير
التنازع في العين المستأجرة، وأنّه آجره بغلًا أو حماراً، والذي تقدم أنّه من التحالف فيتحالفان وتنفسخ الإجارة، ظاهراً أو واقعاً على الخلاف فيه في محلّه أو يرجع إلى
القرعة .
وقد جعل بعضهم المقام من باب المدعي والمنكر؛ لأنّ الأجير لا يطالب بشيء؛ لأنّهما يعترفان باستحقاق الاجرة ولا ينكرها أحدهما. نعم يدعي الأجير استحقاق أخذ الاجرة والمطالبة لو عمل، وهذه الدعوى ليس فيها مطالبة بحق فعلي، وإنّما هي مطالبة بحق استقبالي، ومثل هذه الدعوى لا تسمع؛ لعدم استحقاق المطالبة بالحق المذكور إلّا في ظرف فعليته. نعم إذا مضت المدة التي يمكن فيها العمل وبذل الأجير نفسه للعمل استحق المطالبة بالاجرة لو كانت
الإجارة واقعة على العمل الذي يدّعيه، وحينئذٍ تصح له الدعوى فتكون مسموعة، ويكون مدعياً والمستأجر منكراً.
واجيب عليه: بأنّ الأجير أيضاً يدّعي استحقاقه تسلّم
الأجرة ومطالبتها في قبال العمل الذي يدّعيه لا العمل الذي يدّعيه المستأجر عليه، وهذا حق ثابت من أوّل
الأمر على المستأجر بدعوى الأجير فيكون من التداعي،
وأمّا إذا تنازعا بعد العمل فإن كان وقت العمل الذي يدعيه المستأجر باقياً بحيث يمكن التدارك كان من التحالف أيضاً؛ لأنّ المستأجر أيضاً يدعي على الأجير استحقاق ذلك العمل،
وأمّا إذا لم يكن وقت العمل باقياً أو كان محله فائتاً بحيث لا يمكن التدارك كخياطة الثوب قميصاً والمستأجر كان يريده قباءً فقد حكم بعضهم بتقديم قول المستأجر؛ لأنّ الأجير يدعي عليه استحقاق الاجرة بذلك العمل والمستأجر ينكره؛ وأمّا المستأجر فلا يدّعي على الأجير شيئاً لفوات محل العمل أو وقته بحسب الفرض.
وذكر بعضهم فيما إذا كان العمل الواقع خارجاً مستلزماً لضمان على الأجير- كما إذا طالبه المستأجر بردّ المتاع إلى بلده أو ضمان أرش قطع الثوب الذي خاطه مثلًا- أنّه من التداعي والتحالف؛ لأنّ كلًّا منهما يطالب الآخر بحق مسبوق بالعدم.
واجيب عليه بأنّ ترتّب هذا
الأثر ليس من لوازم دعوى المستأجرية بل من آثار نفي دعوى الأجير، و
الأصل النافي لها نظير ما إذا أكل طعام الغير مدعياً
الإذن منه فأنكر صاحب الطعام الإذن وطالب بالعوض فإنّه بالمطالبة بالعوض لا يكون مدعياً؛ لأنّه يدّعي أمراً تقتضيه الحجة وهي
أصالة عدم إذن المالك، فقوله مطابق للحجة والأصل وهو معنى المنكر.
إلّا أنّ جملة من
الأعلام جعلوا المقام من التحالف أيضاً لا من جهة المطالبة بأرش النقص أو ضمان الردّ إلى بلده، بل إمّا من جهة أنّ الميزان في التحالف بمصب الدعوى وكلّ منهما يدعي
استئجاراً غير ما يدعيه الآخر- وقد تقدم أنّه أحد المبنيين في تشخيص المدعي والمنكر- أو لأنّ المعيار وإن كان بالأثر المترتّب والغرض النهائي من الدعوى إلّا أنّه بلحاظه أيضاً يكون من التداعي؛ لأنّ المستأجر بدعواه وقوع الإجارة على العمل الآخر يبقى مالكاً لذلك العمل على الأجير حتى إذا كان محلّه أو وقته منقضياً، غاية الأمر أنّه يتخيّر بين الفسخ أو أخذ اجرة مثله، فإذا لم يفسخ وكانت الاجرة المسماة من غير النقود أو كانت أقل من اجرة المثل أيضاً كان من التحالف؛ لأنّ المستأجر يدّعي أيضاً شيئاً على الأجير فيكون من التداعي.
نعم إذا فسخ أو قيل بالانفساخ القهري بترك العمل حتى يفوت وقته أو محلّه كما هو المشهور كانت الدعوى من الأجير على المستأجر فحسب، فيقدّم قول المستأجر لكونه منكراً. والظاهر من كلمات
الفقهاء في هذا الفرع أنّه بعد عمل الأجير سواء قدّمنا قول المستأجر لكونه منكراً والأجير مدّعياً فحلف المستأجر، أو قلنا بالتحالف
لإمكان التدارك أو لأي سبب آخر، فبعد حلفهما معاً لا يستحق الأجير شيئاً بازاء عمله؛ لأنّه بعد عدم ثبوت تعلّق الإجارة به يكون من تفويت العامل لعمل نفسه، بل ويجب عليه
أرش النقص لو حصل في مال المستأجر بعمله أو ردّ المتاع إلى مكانه الأوّل إذا طلبه المستأجر؛ لأنّه مقتضى عدم إذن المستأجر بذلك.
بينما في التنازع في العين المستأجرة قلنا باستحقاق المالك للُاجرة، وأنّهما يتحالفان فتنفسخ الإجارة وترجع الاجرة، وإذا كان بعد
استيفاء احدى المنفعتين من قبل المستأجر فيستحق المالك اجرة المثل بعد
الانفساخ إذا قيل به وإلّا بالمسمّى كما تقدم، فالحاصل لا تذهب منفعة العين المستوفاة على مالكها هدراً في التنازع في العين المستأجرة، بينما تذهب منفعة العمل على الأجير هدراً في التنازع في العمل المستأجر.
وهذه التفرقة رغم أنّ قاعدة حرمة مال
المسلم لا تختص بالأعيان بل تجري في الأعمال أيضاً مبناها أنّ مجرّد صدور العمل من دون طلب الغير وأمره أو عقده لا يكون مضموناً حتى على المستفيد منه؛ لعدم كونه متلفاً له، وإنّما أتلفه العامل على نفسه. وهذا بخلاف استيفاء منفعة المال الخارجي، فإنّه يكون مضموناً على المستوفي؛ لأنّ
إتلافه من قبله.
قال في العروة: «إذا خاط ثوبه قباءً وادعى المستأجر أنّه أمره بأن يخيطه قميصاً فالأقوى تقديم قول المستأجر؛ لأصالة عدم الإذن في خياطته قباءً، وعلى هذا فيضمن له عوض النقص الحاصل من ذلك، ولا يجوز له نقصه إذا كان الخيط للمستأجر وإن كان له كان له، ويضمن النقص الحاصل من ذلك، ولا يجب عليه قبول عوضه لو طلبه المستأجر، كما ليس عليه قبول عوض الثوب لو طلبه المؤجر».
وهذا الذي أفاده إذا كان المقصود منه وقوع الإجارة على الخياطة بما يأمره فاختلفا فيما أمره به رجع إلى الفرع السابق موضوعاً وحكماً، غاية الأمر كان
الاختلاف هناك في العمل المتعلّق للإجارة
ابتداءً وهنا بتوسط الأمر والإذن من المستأجر، وهذا ليس فارقاً، فإن ما لم يأمره به من العمل لا يكون متعلّقاً للإجارة، وما أمره هو متعلّقها فيكون من الاختلاف في العمل المستحق بعقد الإجارة. وأمّا إذا كان المقصود الأمر بالعمل على وجه الضمان أو بنحو الجعالة فيتنازعان في كون الأمر أو
الجعالة بخياطته ثوباً أو قباءً، فهذا فرع آخر غير الإجارة، إلّا أنّه نظيره من حيث إنّه مع الاختلاف والتنازع بعد العمل يقدم قول الآمر؛ لأنّه منكر لاستحقاق العامل شيئاً عليه بعمله- كالجعل أو اجرة المثل- والعامل يدعي استحقاقه بذلك.
إلّا أنّه هنا لا يتصوّر التحالف حينئذٍ حتى إذا كان العمل الذي يدّعيه الآمر قابلًا للتدارك أو كان التنازع قبل العمل؛ لأنّ الأمر أو الجعالة لا يكون فيه
إلزام على العامل بشيء ولا يستحق الآمر عمله بمجرد ذلك كما في الإجارة،
وإنّما يستحق العامل على الآمر الاجرة أو الجعل بعد تحقق العمل منه، فلا يتصوّر التنازع إلّا بنحو دعوى استحقاق الجعل أو
أجرة المثل من قبل العامل على الآمر بعد العمل، فإذا أنكره الآمر كان على العامل
الإثبات وإلّا قدّم قوله مع يمينه، وهذا ظاهر.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۴۴۳- ۴۴۶.