التزين للمحرم
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذكر بعض
الفقهاء حرمة مطلق التزيّن للمحرم، كلبس الحُلي للنساء، و
التختم للزينة، والاكتحال، و
استعمال الحنّاء؛ وذلك لأنّ ملاك
التحريم فيها واحد وهو التزيّن أو
الزينة ، على ما يستفاد من بعض النصوص الواردة في تلك الموارد، بينما لم يذكر جمع من الفقهاء- وربّما
الأكثر - عنواناً واحداً لها بل ذكروا كلّ واحد منها بعنوان محرم مستقل كالتالي.
مشهور الفقهاء
أنّه لا يجوز للمحرم أن يلبس
الخاتم للزينة، أمّا لبسه للسنّة أو لغيره من الأغراض فلا بأس به، بل هو مستحب إذا كان لغرض السنّة.
قال
الشيخ الطوسي : «لا يجوز أن يلبس الرجل الخاتم يتزيّن به، فإنّ لبسه للسنّة لم يكن به بأس».
وقال
المحقّق الحلّي : «يحرم لبس الخاتم للزينة، ويجوز للسنّة».
ويدلّ
على عدم جواز لبس الخاتم للزينة
التعليل بالزينة الوارد في الروايات الدالّة على تحريم
الاكتحال بالسواد
والنظر في
المرآة ؛
معلّلًا بأنّهما من الزينة.
وكذا تدلّ عليه الروايات الدالّة على تحريم لبس الحلي للزينة- كما ستأتي- فإنّ المستفاد منها حرمة لبس الخاتم للزينة أيضاً؛ لوجود العلّة، إلّا أنّه قد يقال أنّ ذلك متوقّف على أن يعدّ الخاتم في
العرف العام زينة، وإلّا فلا أثر لقصده الزينة إذا لم يكن زينة عرفاً.
ولكن خبر
مسمع عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام يدلّ على
تأثير القصد، قال: وسألته أ يلبس المحرم الخاتم؟ قال: «لا يلبسه للزينة».
وفي سنده
صالح بن السندي ، فإن قلنا بثبوت وثاقته نظراً إلى وقوعه في أسناد
كامل الزيارات أو انجبار ضعف السند بعمل المشهور
ثبت القول المشهور، وبذلك يقيّد
إطلاق التعليل الوارد في الكحل المقتضي حرمة كلّ زينة وإن لم تكن مقصودة،
وإلّا فلا دليل على التحريم إذا لم تصدق الزينة عرفاً.
وذهب المحقّق في
المختصر وابن سعيد
إلى كراهة لبس الخاتم للزينة وعدم حرمته؛ ولعلّه
للجمع بين ما ذكر من الأخبار وبين الأخبار الدالّة على جواز لبس الخاتم:
منها: قول أبي الحسن عليه السلام في خبر
نجيح : «لا بأس بلبس الخاتم للمحرم».
ومنها: صحيح
محمّد بن إسماعيل : قال: رأيت
العبد الصالح عليه السلام وهو يحرم وعليه خاتم، وهو يطوف
طواف الفريضة .
واورد على الخبر الأوّل بضعف السند، وعلى الثاني بأنّ مدلوله حكاية فعل،...... فلا إطلاق لها،
ولو فرض فهو مقيّد بالروايات المتقدّمة. وقد حاول المشهور حملهما على كون اللبس لغير الزينة الذي هو متيقّن في مورد الرواية الثانية، بل جعلت دليلًا على
الاستحباب للسنّة.
ثمّ إنّ الحكم يشمل
المرأة أيضاً؛
لعموم العلّة المستفادة من الروايات، وبذلك يقيّد إطلاق ما دلّ على جواز لبسها الخاتم مطلقاً، كما رواه عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «تلبس المرأة المحرمة الخاتم من ذهب».
صرّح غير واحد من الفقهاء- ولعلّه المشهور
- أنّه لا يجوز للمرأة لبس الحلي ولو المعتاد منه للزينة، بل في
المدارك نفي
الإشكال فيه.
ولعلّ المشهور أيضاً عدم جواز لبس غير المعتاد وإن كان بغير قصد الزينة،
وأمّا المعتاد فيجوز لبسه إذا لم تقصد المرأة الزينة به ولا تظهره لزوجها، وقد صرّح بعض المتأخرين بتعميم تحريم
الإظهار بالنسبة إلى مطلق الرجال ولو كانوا محارم.
ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يحرم عليها لبس غير المعتاد إذا لم تقصد به الزينة، قال
الشيخ الطوسي في
الاقتصاد - بعد أن ذكر عدم التزيّن بزينة-: «يكره لبس حلي لم تجر عادته بلبسه ولا للمرأة لبسه، ويكره استعمال الحلي والكحل»،
وكذا عدّ في
الجمل والعقود في ضمن التروك المكروهة لبس الحلي الذي لم تجر عادة المرأة بلبسه.
ولم يجزم المحقّق في
الشرائع بالحرمة حيث قال: «لبس المرأة الحلي للزينة وما لم يعتد لبسه منه على الأولى، ولا بأس بما كان معتاداً لها، لكن يحرم عليها إظهارها لزوجها».
بل قال في المختصر: «في الاكتحال بالسواد والنظر في المرآة ولبس الخاتم للزينة ولبس المرأة ما لم تعتده من الحلي... قولان: أشبههما الكراهية».
وكلام هؤلاء وإن كان مطلقاً إلّا أنّ المراد منه كراهة لبس غير المعتاد إذا لم تقصد الزينة به وإلّا فهو حرام عندهم كالمعتاد بقصد الزينة.
نعم، ذكر
ابن سعيد في ضمن التروك المكروهة لبس الحلي للمرأة من معتاد وغير معتاد للزينة وإظهاره لزوجها.
وذكر
المحقّق النجفي : أنّه لا بأس بالمعتاد إذا لم تقصد به الزينة ولا تظهره للرجال وأنّه لم يجد فيه خلافاً، وأمّا غير المعتاد فلعلّ التحقيق حرمته إذا كان زينة عرفاً وإن لم تقصدها، ثمّ قال: «الحاصل حرمة إحداث الزينة لها حال
الإحرام ، وحرمة إظهار ما كانت متزيّنة به قبل الإحرام للرجال في مركبها ومسيرها».
وأمّا الفقهاء المعاصرون فذهب أكثرهم إلى أنّه يحرم لبس الحلي للزينة، ويستثنى من ذلك ما كانت تعتاد لبسه قبل إحرامها لكنّه لا تظهره لزوجها أو غيره من الرجال.
ويستفاد من كلماتهم جواز لبس غير المعتاد مع عدم قصد الزينة.
وقال بعضهم:
الأحوط أن تترك لبسها إن كان زينة وإن لم تقصدها. نعم، يستثنى من ذلك الحلي المعتاد.
واختار بعض آخر أنّ لبس الحلي أو ما شاكله وإن كان زينة إلّا أنّه لا يحرم عليها إلّا إذا كان بغرض
الإشهار والإظهار للرجال، سواءً أ كانت معتادة في لبسها له قبل الإحرام أم لا. نعم، إذا كان الحلي حلياً مشهوراً للزينة حرم عليها أن تلبسه، ولا فرق في ذلك كله بين أقسام الحلي وأنواعه.
وفيما يلي نبحث التفاصيل:
واستدلّ لما ذهب إليه المشهور- من حرمة لبس الحلي للزينة ولو كان معتاداً- بما تقدّم من عموم حرمة التزين للمحرم المستفادة من النصوص الواردة في النهي عن الاكتحال بالسواد وعن النظر في المرآة، حيث علّل فيها بأنّ السواد أو النظر زينة، فيعلم من تلك الروايات أنّ الزينة ممنوعة وإنّما حرم الاكتحال بالسواد ونحوه لأنّه من صغريات الزينة، ومن مصاديق التزيّن لبس المرأة الحلي بقصد الزينة.
هذا مضافاً إلى أنّه قد وردت عدّة روايات تدلّ على النهي عن لبس الحلي بالخصوص، والروايات الواردة في المقام على عدّة طوائف:
منها: ما يدلّ على التحريم مطلقاً كصحيح الحلبي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث، قال: «المحرمة لا تلبس الحلي ولا المصبغات إلّا صبغاً لا يردع».
ومنها: ما يدلّ على عدم جواز
إحداث الحلي حال الإحرام، كصحيحة
حريز عن الصادق عليه السلام: «إذا كان للمرأة حلي لم تحدثه للإحرام لم تنزع حليّها».
ومنها: ما يدلّ على جواز لبس بعض أنواع الحلي، ففي
صحيحة يعقوب بن شعيب : أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن المرأة تلبس الحلي؟ قال: «تلبس المسك والخلخالين».
وفي خبر
مصدق بن صدقة عن عمّار بن موسى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «تلبس المحرمة الخاتم من ذهب».
ولعلّه للجمع بين مثل هذين الخبرين الأخيرين وبين سائر الأخبار ذهب بعض الفقهاء- كما تقدّم- إلى
كراهة المعتاد ولو للزينة، بل قال بعضهم بالجواز مع الإظهار،
ولكن قد يحاول حملهما على عدم قصد الزينة.
ومنها: ما يدلّ على تحريم الحلي المشهور للزينة أو تحريم الحلي في فرض الإظهار للرجال والإشهار، كصحيحة
عبد الرحمن بن الحجّاج : سألت أبا الحسن عليه السلام عن المرأة يكون عليها الحلي و
الخلخال و
المسكة و
القرطان من
الذهب و
الفضة تحرم فيه وهو عليها، وقد كانت تلبسه في بيتها قبل حجّها أ تنزعه إذا أحرمت أو تتركه على حاله؟ قال: «تحرم فيه وتلبسه من غير أن تظهره للرجال في مركبها ومسيرها».
وفي صحيحة
محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «تلبس الحلي كلّه إلّا حلياً مشهوراً للزينة».
وفي صحيحة أو
حسنة الكاهلي عنه عليه السلام: «تلبس المرأة الحلي كلّه إلّا القرط المشهور و
القلادة المشهورة».
و
الاستدلال بالأخيرتين مبني على أنّ الزينة لا تكون إلّا بالمشهور أي الظاهر، وإلّا أشكل الاستدلال بهما على تمام المقصود، بل الاولى منافية له؛ ضرورة
اقتضائها التقييد للمقيّد، فيكون الممنوع خصوص المشهور للزينة لا غير، إلّا أنّ الذي يسهّل الخطب- كما ادّعاه المحقّق النجفي- عدم قائل بذلك، فوجب حمله على ما لا ينافي ما دلّ على تحريمه مطلقاً للزينة.
ومن هنا قال
السيد العاملي إنّ التزين إنّما يتحقّق بالظاهر غالباً،
والحديث ورد مورد الغالب وإلّا فإذا فرض التزيّن ولو بالمستور فهو حرام بلا إشكال، وعلى هذا فلا بأس بالحلي المستور لغير الزينة عند إحرامها أو بعد إحرامها أيضاً؛ لأنّ مقتضى عموم المستثنى منه في صحيحة محمّد بن مسلم جواز ذلك، ولا يعارضه مفهوم صحيحة حريز؛ لعدم صلاحية معارضة
الإطلاق مع
العام الوضعي .
ثمّ إنّ النسبة بين صحيحة ابن مسلم وسائر الأدلّة المانعة هي
التقييد والإطلاق، بل يمكن رفع اليد بصحيحة ابن مسلم عن إطلاق صحيحة ابن الحجّاج الدالّة على جواز عدم نزع ما كانت معتادة للبسه من دون فرق بين صورتي قصد الزينة وعدمه.
وقد يبدو
التعارض هنا بين صحيح ابن مسلم وخبر الكاهلي في غير القرط والقلادة كالسوار والخلخال البارزين؛ لأنّ مقتضى عقد
الاستثناء في رواية ابن مسلم عدم جواز لبس الحلي المشهور للزينة على الإطلاق، بينما مقتضى عقد المستثنى منه في رواية الكاهلي جواز لبس الحلي كلّه إلّا القرط والقلادة، والمرجع بعد التعارض صحيح الحلبي الدالّ على حرمة لبس الحلي، فالنتيجة أنّ غير القرط والقلادة إذا كان من الزينة وكان بارزاً يحرم لبسه، هذا مضافاً إلى ما مرّ من دلالة الأخبار على حرمة مطلق التزيّن، بل صحيحة ابن الحجّاج الماضية ظاهرة في التعميم؛ فإنّ المستفاد منها أنّ حرمة لبس أنواع الحلي كان أمراً مفروغاً عنه، وكان ابن الحجّاج يعلم ذلك أيضاً، وإنّما سئل عن خصوصية اخرى، وهي: أنّ المرأة كانت معتادة للبس الحلي ولم تلبسه بعد الإحرام، بل كانت لابسة للحلي قبل الإحرام، فهل يجب عليها نزعه أم لا
؟
وقد يقال: إنّه لا تعارض في البين بعد الجمع بينهما بحمل الموارد المستثناة في خبر الكاهلي على المثال.
أمّا لبس
الحلي غير المعتاد فقد ذهب بعض الفقهاء إلى القول بجواز لبسها إذا لم يكن للزينة، واستدلّ له بإطلاق ما دلّ على جواز لبسها لكلّ حلي لا تقصد به الزينة كرواية محمّد بن مسلم المتقدّمة وهي صريحة في جواز ما لم تقصد به الزينة، بخلاف الأدلّة المانعة المذكورة فإنّها غير صريحة في المنع؛ إذ
دلالة رواية حريز إنّما تكون بالمفهوم. مضافاً إلى
انسباق قصد الزينة من مفهومه، ودلالة خبر الحلبي ضعيفة أيضاً؛ لأنّ
اشتماله على النهي عن المصبغات يمكن أن يكون قرينة على
إرادة الكراهة من النهي عن لبس الحلي أيضاً. وبالجملة فلا دليل على التحريم.
ولكن حيث إنّ
المشهور بين الفقهاء هو حرمة لبس غير المعتاد من الحلي مطلقاً فالأولى تركه أو كراهة لبسه حذراً من مخالفة المشهور.
واستدلّ المحقّق النجفي لما ذكره من حرمة غير المعتاد إذا كان زينة عرفاً بما مرّ من تعليل حرمة الكحل والنظر في المرآة بأنّهما زينة، ولا ينافيه قوله عليه السلام في خبر
النضر بن سويد : «... لا حلياً تتزيّن به لزوجها» بناءً على ظهوره في القصد؛ إذ هو بعد
تسليمه يكون أحد الأفراد، ولا مفهوم له معتد به يصلح للمعارضة.
ولكن يظهر منه في نهاية البحث
اختصاص الحرمة بإحداث الزينة حال الإحرام، وأنّها لا تعمّ ما إذا كانت لابسة للحلي قبل الإحرام من دون إظهارها للرجال. واستدلّ لذلك بصحيح حريز السابق؛ فإنّ الممنوع بمقتضاه إحداث الزينة في حال الإحرام، لا الإحرام حالها.
وكون الممنوع عامّاً في غير الحلي لا يقتضي كونه كذلك هنا بعد النصوص المزبورة التي لا ينافيها تعليل الكحل أيضاً الذي هو إحداث زينة أيضاً، بل ولا صحيح ابن مسلم و
حسن الكاهلي الذين يمكن فيهما إرادة
التزيّن بما تلبسه من الحلي لزوجها من الشهرة لا نفس لبس الحلي وإن لم تحصل به زينة.
وكذا ذهب بعض المعاصرين إلى اختصاص الحرمة بالإحداث، واستدلّ لذلك بوقوع
المعارضة بين منطوق صحيحة حريز وبين المستثنى في صحيحة محمّد بن مسلم بالعموم من وجه، ومورد
اجتماعهما إذا كان عليها ما كانت تلبس من الحلي المشهور للزينة قبل إحرامها، فإنّ مقتضى إطلاق المنطوق جوازه، ومقتضى إطلاق المستثنى عدم جوازه، ولكن يؤخذ بإطلاق المنطوق وترفع اليد فيه عن إطلاق المستثنى أو عمومه بشهادة صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج.
المشهور
بين الفقهاء حرمة الاكتحال بالسواد مطلقاً، وكذا الاكتحال بغير السواد إذا كان فيه طيب،
بل قد يدّعى عدم
الخلاف أو الإجماع
في الأخير.
ويستوي في هذا الحكم الرجال والنساء،
وهو ممّا لا خلاف فيه
بل ادّعي عليه
الإجماع ،
ويدلّ على هذا الإطلاق النصوص الآتية.
وأمّا كلمات الفقهاء في حرمة الاكتحال فنورد منها ما يلي:
قال
الشيخ الصدوق : «لا بأس أن يكتحل المحرم إذا كان رمداً بكحل ليس فيه طيب، ولا بأس أن يكتحل بصبر ليس فيه
زعفران ولا ورس، وروي أنّه لا بأس أن يكتحل بالكحل كلّه إلّا كحل
أسود لزينة».
وقال
الشيخ المفيد : «لا يكتحل المحرم بالسواد فإنّه زينة، ويكتحل بالصبر والحضض وما أشبهها إذا شاء»،
ولم يذكر الاكتحال بالمطيّب، ولعلّه
للاكتفاء .....بما ذكر من لزوم
الاجتناب عن الطيب كلّه.
وقال الشيخ الطوسي: «لا يجوز للرجل ولا للمرأة أن يكتحلا بالسواد إلّا عند الحاجة
الداعية إلى ذلك، ولا بأس أن يكتحلا بكحل ليس بأسود إلّا إذا كان فيه طيب، فإنّه لا يجوز له ذلك على كلّ حال».
ولكن عدّ في الاقتصاد
استعمال الكحل من المكروهات.
وقال في الخلاف: «الاكتحال بالإثمد مكروه... إذا لم يكن فيه طيب، فإذا كان فيه طيب فلا يجوز».
بل في الجمل
ذكر الاكتحال بما فيه طيب من جملة الامور المكروهة، وتبعه في ذلك
ابن البراج ؛
ولعلّه بناءً على القول باختصاص تحريم الطيب باستعماله في الظواهر.
وقال
ابن زهرة : «يكره الاكتحال و
الخضاب للزينة والنظر في المرآة بدليل الإجماع المشار إليه، ويحتجّ على المخالف بقوله عليه السلام: «الحاج أشعث أغبر» وذلك ينافي هذه الأشياء، فأمّا الاكتحال بما فيه طيب فمن أصحابنا من قال: إنّه مكروه، والظاهر أنّه محذور؛ لإجماع الامّة على أنّ المحرم لا يجوز له الطيب، ولم يفصّلوا بين أن يكون في كحل أو غيره، وما ورد من النهي عن الطيب عامّ في كلّ ذلك، وطريقة
الاحتياط تقتضيه».
والفقهاء المعاصرون ذهب بعضهم إلى أنّه لا فرق بين الكحل الأسود وغيره فيلزم الاجتناب عن مطلق الكحل إذا كان من الزينة.
وفصّل آخر بين الأسود وغيره، فيحرم الاكتحال بالأسود مطلقاً، أمّا غير الأسود فيجوز الاكتحال به إلّا إذا كان للزينة،
أو مع وجود الطيب فيه.
ومنشأ
اختلاف الأقوال في المسألة اختلاف ألسنة الروايات وكيفيّة الجمع بينها. فإنّها على طوائف:
منها: ما دلّ على عدم جواز الاكتحال مطلقاً إلّا لحاجة، كرواية
عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: سأله رجل ضرير وأنا حاضر فقال: أكتحل إذا أحرمت؟ قال: «لا، ولِمَ تكتحل؟» قال: إنّي ضرير البصر، إذا أنا اكتحلت نفعني، وإن لم أكتحل ضرّني، قال: «فاكتحل».
ومنها: ما دلّ على الجواز مطلقاً إلّا لمانع كوجود الطيب أو الزعفران فيه، وهو كرواية هارون بن حمزة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال: «لا يكحّل المحرم عينيه بكحل فيه زعفران، وليكحل بكحل
فارسي ».
ومنها: ما دلّ على عدم الجواز إذا كان الكحل أسود مطلقاً أو معلّلًا بأنّه للزينة.
كصحيحة
معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «لا يكتحل الرجل والمرأة المحرمان بالكحل الأسود إلّا من علّة».
وصحيحة
الحلبي أو حسنته عن
الإمام الصادق عليه السلام : قال: سألته عن الكحل للمحرم؟ قال: «أمّا بالسواد فلا، ولكن بالصبر والحضض».
وكصحيح حريز عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال: «لا تكتحل المرأة المحرمة بالسواد، إنّ السواد زينة».
ومنها: ما دلّ على عدم جواز الاكتحال بما فيه طيب، أو فيما إذا كان للزينة، كصحيحة معاوية بن عمّار الاخرى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال: «المحرم لا يكتحل إلّا من وجع»، وقال: «لا بأس بأن تكتحل وأنت محرم بما لم يكن فيه طيب يوجد ريحه، فأمّا الزينة فلا».
ومنها: ما دلّ على منع الاكتحال بالسواد مقيّداً بما إذا كان للزينة، وهو صحيح
زرارة عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: قال: «تكتحل المرأة بالكحل كلّه إلّا الكحل الأسود للزينة».
ولا إشكال في انّه يستفاد منها أنّ حرمة الاكتحال للمحرم ليست من ناحية نفس الاكتحال، بل من جهة محذور آخر قد يقترن به وهو الزينة أو الطيب، والمتيقن
استفادته من هذه الروايات حرمة الاكتحال بالأسود إذا كان للزينة كما يحرم الاكتحال بالطيب من جهة حرمة التطيّب على المحرم. ومن هنا فقد قيّده بعضهم
بما إذا كانت رائحته موجودة، كما تدلّ عليه صحيحة معاوية بن عمّار، وعليه فلا بأس بالاكتحال بما ذهبت رائحته؛ لمنع صدق الطيب مع ذهابها.
كما أنّه لا بدّ من تقييده بغير موارد الضرورة، وهذا ممّا لا خلاف
ولا إشكال
فيه على القاعدة، وتدلّ عليه رواية الكاهلي ورواية معاوية بن عمّار المتقدمتين.
وأمّا ما ورد في بعض الروايات من منع اكتحال المريض بما فيه مسك ونحوه كرواية أبي بصير التي ورد فيها: «لا بأس أن يكتحل بكحل ليس فيه مسك ولا
كافور إذا اشتكى عينيه...»،
فمحمول على اندفاع الضرورة بغير المطيّب.
وهل الميزان في حرمة الاكتحال بالأسود للزينة بقصد التزيّن أو كونها زينة واقعاً، ولو لم يقصد المكتحل التزيّن به أو قد يقال ظاهر صحيح زرارة الأخير
اشتراط مجموع القيدين أن يكون بالأسود وأن يكون للزينة.
إلّا أنّ الظاهر أنّ اللام في قوله عليه السلام: «للزينة» ليس بمعنى قصد التزيّن، بل واقعه في قبال ما إذا كان الاكتحال لغير آخر كالدواء والعلاج، فيكون المستفاد منها نفس ما يستفاد من مثل صحيح حريز أنّ السواد زينة.
وعندئذٍ يقال بأنّ المستفاد من الروايات- خصوصاً صحيح حريز وما فيه من الظهور في التعليل، وصحيح زرارة وما فيه من التقييد- أنّ المعيار بكونه زينة، فكلّ ما يكون زينة سواء كان أسود أو لا، يكون الاكتحال به محظوراً للمحرم.
وبذلك يقيّد أو يفسّر ما دلّ من الروايات السابقة على حرمة الاكتحال بالأسود مطلقاً، وهذا أحد الأقوال المتقدمة.
وبعضهم لم يستظهر التقييد والتعليل من الروايتين، فحكم بإطلاق ما دلّ على حرمة الاكتحال بالسواد مطلقاً، أي ولو لم يكن للزينة وحرمة الاكتحال للزينة ولو لم يكن بالأسود عملًا بما دلّ في تلك الروايات على النهي عن كلّ من العنوانين مطلقاً.
وبعضهم جعل الميزان بمجموع القيدين بجعل صحيح زرارة الأخير مقيّداً للإطلاقين المتقدمين، فيجوز الاكتحال بالأسود إذا لم يكن زينة، كما يجوز الاكتحال بغير الأسود حتى إذا كان زينة،
إلّا أنّ الحديث ليس ظاهراً في جعل المعيار مجموع القيدين، بل المتفاهم منه عرفاً أنّ المعيار بالزينة؛ لأنّ السواد هو الزينة عادة وعرفاً، فيكون الأقوى هو القول الأوّل.
اختلفت كلمات الفقهاء في جواز استعمال
الحنّاء للمحرم وعدمه على قولين:
المشهور
بين الفقهاء المتقدّمين
إلى زمن العلّامة الحلّي جواز استعمال الحنّاء، ولكن يكره ذلك إذا كان بقصد الزينة، وهو مختار العلّامة الحلّي في أكثر كتبه.
والذي يظهر من مراجعة كلماتهم أنّ محلّ البحث عندهم في عدّ الحنّاء من الطيب أو لا، كما يظهر من الشيخ الطوسي في الخلاف،
حيث أنكر كون الحنّاء من الطيب، خلافاً لبعض الجمهور، وكذا قال العلّامة في
التحرير .
ولعلّ نظرهم في ذلك إلى صحيحة
عبد الله بن سنان عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: سألته عن الحنّاء، فقال: «ليمسّه ويداوي به بعيره، وما هو بطيب، وما به بأس».
وتخصيصها بالتداوي- فلا يعمّ ما كان للزينة- غير جيّد؛ لأنّ قوله: (يداوي) عطف للخاص- بالواو- على العام، والمسّ أعمّ، فيشمل مورد النزاع.
كما أنّ الحكم بنفي البأس أيضاً مطلق، وعليه فيخرج بالإطلاقين عن مفهوم تعليل المنع عن الكحل بالسواد والنظر في المرآة، بأنّهما من الزينة، والمورد وإن كان من العموم من وجه إلّا أنّ الحكم بالجواز أرجح للشهرة، مضافاً إلى عدم عمل جملة منهم بعموم المفهوم في الخاتم والحلي وغيرهما ممّا تحصل به الزينة إن لم يقصدها.
وأمّا المرجوحية فلما يستفاد من التعليل المتقدّم، وكذا وجود الترفّه فيه وإن كانت مثل هذه التعليلات قاصرةً عن إثبات الحرمة إلّا أنّه يكفي
لإثبات الكراهة؛
مضافاً إلى رواية
الكناني عن أبي عبد اللَّه عليه السلام، قال: سألته عن امرأة خافت
الشقاق فأرادت أن تحرم، هل تخضب يدها بالحنّاء قبل ذلك؟ قال: «ما يعجبني أن تفعل».
وقد يستظهر من الرواية عدم
اعتبار قصد التزيّن في الحكم بالكراهة،
ورجّحه المحقّق النجفي
خلافاً للأكثر.
ثمّ إنّ مورد الرواية هو خضاب المرأة قبل الإحرام؛ ولعلّه لذا خصّ الشيخ الطوسي في الخلاف كراهة الخضاب بهذا المورد،
ولم يتعرّض للكراهة بعد الإحرام أصلًا، ولكن ذهب الشيخ في
النهاية و
المبسوط ،
وكذا الحلّي
والمحقّق الحلّي
والعلّامة الحلّي في بعض كتبه
إلى اختصاص كراهة الخضاب قبل الإحرام بالمرأة إذا قاربت الإحرام، مع قولهم بكراهة استعمال الحنّاء بعد الإحرام للزينة من غير تخصيص بالمرأة، بل الرجل هو المتيقّن من مورد كلامهم.
وذهب بعض الفقهاء إلى تعميم الكراهة، وعدم الفرق بين الرجل والمرأة في ذلك؛ لقاعدة
الاشتراك ، ولما يستفاد من تعليل الزينة وإن كان قاصراً عن إثبات الحرمة.
وأنّه لا فرق أيضاً بين ما قبل الإحرام وما بعده؛ إمّا للمساواة أو
الأولوية .
ثمّ إنّه بناءً على كراهة الاستعمال قبل الإحرام هل الحكم مختص بما إذا قرب زمان الإحرام، أو يشمل ما قبل ذلك أيضاً فيما إذا بقي
الأثر إلى ما بعد الإحرام؟
الظاهر من بعض الكلمات اختصاص الحكم بذلك، وقد يستفاد من رواية الكناني أنّ محلّ الكراهة استعماله عند
إرادة الإحرام، وعلى هذا فلا يكون استعماله قبل ذلك محرّماً ولا مكروهاً.
ولكن ذهب بعضهم إلى
التعميم إذا كان الأثر باقياً إلى ما بعد الإحرام،
ويعلم وجهه ممّا مر.
المحكي عن الشيخ المفيد، وكذا عن اقتصاد الشيخ الطوسي، حرمة استعمال الحنّاء،
لكنّهما لم يصرّحا بذلك، وإنّما تعرّضا لحرمة الزينة على المحرم،
وربّما يفهم منه الحرمة.
وكيف كان، فقد ذهب العلّامة الحلّي صريحاً في
المختلف إلى القول بحرمة استعمال الحنّاء للزينة، وصار القول بالتحريم بعده معروفاً بين كثيرٍ من المتأخّرين.
واستدلّ لذلك بعموم التعليل بالزينة في جملة من الروايات السابقة، وحينئذٍ فتحمل الأخبار المجوّزة على غير صورة الزينة أو على الضرورة.
ثمّ إنّه قد صرّح بعضهم بأنّه إذا استعمل الحنّاء للسنّة فلا بأس،
وعليه فيكون الفارق هو قصد المستعمل.
ولكن اورد عليه: بأنّ المستفاد من
التعليل أنّ
المعيار في الحرمة هو صدق الزينة، ولا يتوقّف ذلك على قصدها، بل لو قصد السنّة فإنّه لا يخرجه عن كونه زينة،
ومن هنا ذهب بعض المتأخّرين
وأكثر الفقهاء المعاصرين
إلى حرمة استعمال الحنّاء للمحرم إذا عدّ زينة خارجاً وإن لم يقصد به الزينة، كما إذا استعمل الحنّاء بطريقة خاصة في أنامل رجليه ويديه بنحو يعدّ في العرف العام زينة، أمّا إذا لم يعدّ كذلك أو لم يستعمل بشكل يجلب نظر الناس إليه على أنّه زينة، بل استعمل لغرض آخر من
علاج ونحوه ممّا لا يصدق عليه عنوان التزين فلا مانع منه كما يدلّ عليه صحيح ابن سنان.
ولا فرق في تحريم الحنّاء بين الرجل والمرأة، كما لا فرق بين استعمال الحنّاء بعد الإحرام أو قبله إذا كان أثره باقياً، كما صرّح به بعض المتأخّرين،
هذا إذا قلنا بأنّ المعيار في الحرمة كون المحرم متزيّناً، كما أنّ
الأمر في الطيب كون المحرم متطيّباً،
أمّا لو قلنا بأنّ
الملاك في المنع- مطلقاً أو في باب استعمال الحناء- هو إحداث الزينة والاستعمال حال الإحرام فلا وجه للتحريم قبله وإن بقي أثره حال الإحرام، ولعلّه لذلك فصّل الفقهاء المعاصرون بين استعمال الحنّاء قبل الإحرام وبعده، فيحرم الثاني دون الأوّل، غاية الأمر أنّه يكره ذلك إذا كان أثره ممّا يبقى إلى الإحرام،
كما يشهد له خبر
أبي الصباح الكناني .
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۶۰۵- ۶۲۱.