التعفير بالتراب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لقد ورد عنوان التعفير في كلمات الفقهاء، ولم يرد في شيء من الروايات، وإنّما الوارد في صحيح
البقباق هو الغسل بالتراب. وقد اختلف في ما هو المراد بذلك، وتبعاً لذلك اختلفت كلماتهم:
قال
ابن إدريس : «وكيفيّة ذلك: أن يجعل الماء فيه ويترك التراب أو يترك فيه التراب ويصبّ الماء عليه، بمجموع
الأمرين ، لا بانفراد أحدهما عن الآخر».
وقال
العلّامة في التذكرة: «الأقرب أنّ التراب لا يفتقر إلى الماء، خلافاً لابن إدريس»
ومضمونه ورد في القواعد
والتحرير.
وقال في
نهاية الإحكام : «وهل يفتقر إلى مزجه (التراب) بالماء أم يكفي ذرّه على المحلّ؟ إشكال ينشأ من
افتقاره إلى
إيصال التراب إلى جميع أجزاء المحلّ، ولافتقار صدق الغسل إليه، ومن
أصالة البراءة ؛ فإن قلنا بالأوّل لم يقتصر على غير الماء... وإن قلنا بالثاني وجب مسحه بالتراب ودلكه به بحيث تقلع الأجزاء اللعابية من الاناء».
وقال السيد اليزدي: «يجب في الأواني... إذا تنجّست بالولوغ التعفير بالتراب مرّة وبالماء بعده مرّتين. والأولى أن يطرح فيها التراب من غير ماء ويمسح به، ثمّ يجعل فيه شيء من الماء ويمسح به. وإن كان الأقوى كفاية الأوّل فقط، بل الثاني أيضاً».
والحاصل إنّ للفقهاء في ذلك أقوالًا رابعة:
اشتراط مزج التراب بالماء، وهو المحكي عن
الراوندي وصرّح به ابن إدريس
وقوّاه في المنتهى بعد ما تنظّر فيه،
وتبعه الاصبهاني في كشف اللثام
واختاره من المعاصرين كل من
السيد الحكيم والسيد الخوئي والشهيد الصدر.
والمستند لذلك هو
استظهار كون المراد من قوله: «اغسله بالتراب» الغسل بالماء
بالاستعانة بشيء آخر، وهو التراب، فالباء في قوله: «اغسله بالتراب» للاستعانة، كما هو الحال في قولهم: اغسله بالصابون أو
الاشنان أو الخطمي ونحوها؛ فإنّ معناه ليس هو مسح الثوب بالصابون، وإنّما هو بمعنى غسله بالماء ولكن لا بوحدته، بل بضمّ شيء آخر إليه. وعليه فمعنى الغسل بالتراب جعل مقدار من الماء في الاناء مع مقدار من التراب وغسله بالماء
بإعانة التراب، أعني مسح الاناء بالماء المخلوط به التراب- كما هو الحال في الغسل بالصابون ونحوه- ثمّ يزال أثر التراب بالماء؛ وبذلك يتحقق الغسل بالتراب عرفاً.
وهذا هو المتعارف في غسل الاناء وإزالة الأقذار العرفية، وعليه لا يعتبر في تطهير الاناء سوى غسله ثلاث مرات اولاهنّ بالتراب؛ وذلك لأنّ الغسل بالتراب أمر غير مغاير للغسل بالماء، بل هو هو بعينه
بإضافة أمر زائد وهو التراب؛ لأنّ الغسل معناه إزالة الوسخ بمطلق المائع، وإنّما خصّصناه بالماء؛
لانحصار الطهور به في الأخباث.
وقد ناقش بعضهم في ذلك.
اشتراط العدم ولزوم المسح بالتراب، وصرّح به العلّامة الحلي في التذكرة
والقواعد
والتحرير
واختاره
المحقق الكركي .
والمستند فيه هو استظهار كون المراد بالغسل في قوله: «اغسله بالتراب» مسح الاناء بالتراب، وإنّما استعمل فيه الغسل مجازاً بنكتة
إزالة الوسخ به؛ لأنّه كما يزول بالغسل بالماء كذلك يزول بالمسح بالتراب. وعلى ذلك فالغسل بالتراب معنى مغاير للغسل بالماء، وهذا هو مبنى القول الثاني.
واستبعد البعض هذا الاحتمال بأن مقتضى ذلك انّه يعتبر في تطهير الاناء حينئذٍ الغسل أربع مرّات إحداها الغسل بالمعنى المجازي؛ وذلك لأنّ موثقة عمّار دلّت على لزوم الغسل ثلاث مرّات، وصحيحة البقباق اشتملت على لزوم الغسل بالتراب، وقد فرضنا أنّه أمر مغاير للغسل حقيقة، ومقتضى هاتين الروايتين أنّ الاناء يعتبر في تطهيره الغسل أربع مرّات إحداها المسح بالتراب.
التخيير بين الأمرين وعدم اشتراط شيء منهما على الخصوص، كما ذهب إليه الشهيد الأوّل
والسيد اليزدي.
والمستند في ذلك هو التمسك باطلاق النص حيث لم يقيّد بكونه بالتراب الخالص فقط أو الممزوج، واشتراط تحصيل إحدى الحقيقتين- الغسل والتراب- يوجب ترك الأخرى، فلا ترجيح؛ فإنّ تحصيل حقيقة الغسل وهو
إجراء الماء أو المائع على المحل النجس يوجب خروج التراب عن كونه تراباً، وأيضاً تحصيل حقيقة التراب يستلزم عدم تحقق الغسل حقيقة، فإنّ المسح بالتراب لا يسمّى غسلًا حقيقة ولا مرجّح لإحداهما.
مع انّ إزالة اللعاب حاصلة بأيّ واحد منهما.
وقد أجيب على ذلك بتقديم أقرب المجازات،
مضافاً إلى أنّه قد اتضح
إمكان تحصيل حقيقة الغسل بالتراب؛ فإنّ المفهوم عرفاً هو المزج على نحو يكون التراب مائعاً بالعرض.
الجمع بين الأمرين، واختاره الوحيد البهبهاني
والسيد علي الطباطبائي.
وذلك لتوقّف يقين الطهارة من تلك النجاسة اليقينية على الجمع بينهما.
ويمكن الجواب بأنّه مع ظهور النصّ وعدم إجماله لا تصل النوبة إلى
الاحتياط .وبناء على القول باشتراط مزج التراب بالماء لا يشترط بقاء الماء على إطلاقه.قال في الجواهر: «لم أعرف أحداً اعتبر بقاء الماء على إطلاقه من القائلين بالمزج، بل صريح بعضهم- كما عرفت- اشتراط عدم خروج التراب عن اسمه بالمزج».
بل صرّح بعض القائلين بالمزج بأنّه لا بدّ من خروج الماء عن الاطلاق.
بل احتمل العلّامة
الاجتزاء بالمضاف، قال: «إن قلنا بمزج الماء والتراب، فهل يجزي لو صار مضافاً؟ إشكال. وعلى تقديره، هل يجوز عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ إشكال».
وقال السيد الحكيم: «من المحتمل جواز المزج بغير الماء من المائعات؛ لصدق الغسل بالتراب، فتأمّل».
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۴۳۷-۴۴۱.