حقوق الإنسان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
يتعلّق
بالإنسان تبعاً لكرامته حقوق أساسية وغيرها، لتحقّق حياته الإنسانية الكريمة وحياته المادية ويؤمّن ما لروحه وجسده ممّا يحتاج إليه و إنّ حقوقه على نوعين:أ-الحقوق الأساسية، ب-الحقوق غير الأساسية.
وهي عديدة، أهمّها:
الحياة أغلى ما يمتلكه
الإنسان في الوجود، وحقّ الحياة مكفول في
الشريعة لكلّ إنسان، حيث منعت من
إفناء النوع البشري، فكان
استمرار الحياة البشرية أحد اصول
الإسلام .
من هنا يرفض الإسلام كلّ أنواع
الأسلحة الفتّاكة المبيدة للنوع البشري- كالقنابل الذرّية أو النووية أو الجرثومية أو الكيمياوية أو المشعّة وغيرها من أسلحة الدمار الشامل- وما فيه تحديد للنسل الإنساني، والفتوى بجواز استخدامها يتعارض مع مباني
الفقة الإسلامي المبتنية على العدل و
الرحمة وتكريم نوع الإنسان و
تحريم الظلم والعدوان في حقّ من لم يرتكب جرماً.
وهذا الحقّ محوط بضمانات تحميه من أي عدوان، وهو حقّ يتمتّع به جميع الناس من دون تمييز أو تفرقة بينهم؛ لقوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ
الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ
الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ».
ولعلّه يمكن
الاستدلال على تحريم
استخدام مثل هذا النوع من الأسلحة بقوله تعالى: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ»،
فإنّ هذه الأسلحة من أبرز مصاديق
إهلاك الحرث والنسل والفساد.
والتفصيل في محلّه.
هذا، ولبيان نظرة الإسلام إلى حقّ الحياة والعيش بحرّية و
أمان ، نورد بعض النماذج على ذلك، وهي:
أوجب الإسلام- حفظاً لحقّ الحياة- تناول الطعام والشراب على كلّ أحد بقدر الضرورة وسد الجوع وبقاء الرمق؛
ولذا لو دار
الأمر بين شرب الماء والوضوء مع
انحصار الماء فيه والحاجة إليه، وجب عليه شرب الماء حفاظاً على نفسه، بل حفاظاً على غيره، ويتيمّم هو للصلاة،
بل يجب عليه
أكل الميتة؛ لوجوب حفظ نفسه.
وكذا يحرم عليه فعل ما يضرّ بنفسه
وتعريضها للهلاك؛
ولذا لم يجز للإنسان السفر في طريق يخاف فيه على نفسه؛
دفعاً للضرر المحتمل. ومن أجلى مصاديق
الإضرار بالنفس
الانتحار ؛ لأنّه
اعتداء على النفس البشرية كما صرّح بذلك في قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ»،
فإنّ قتل الإنسان نفسه ليس إلّانوع من قتل النفس التي حرّم اللَّه.
وقد روي أنّ فاعل ذلك متردٍّ في نار
جهنم خالداً فيها أبداً.
وكذا روي أنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في حقّ رجل من أصحابه: «إنّه من
أهل النار»، وكان قد اشتهر بحسن معاشرته ومعونته لإخوانه حتى قيل: إنّه حضر غزوة بدر، وبعد أن قاتل قتالًا شديداً فأثبتته الجراح، قال له المسلمون: أبشر يا قزمان فقد أبليت اليوم، فقال: بمَ تبشّرون؟ فواللَّه، ما قاتلت إلّاعن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت، فلمّا اشتدت عليه الجراحة جاء إلى كنانته فأخذ منها مشقصاً فقتل نفسه.
وكذا ما رواه ناحية عن
الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «إنّ المؤمن يبتلى بكلّ بلية ويموت بكلّ ميتة، إلّاأنّه لا يقتل نفسه».
لهذا كلّه اتّفق الفقهاء على أنّه يحرم في الإسلام الانتحار بأيّ شكل كان ولأيّ سبب من الأسباب.
وفي ضوء ذلك أيضاً يحرم على المريض الذي يصعب علاجه أن يطلب من الطبيب وغيره أن يقتله، ولو فعل ذلك أثم وارتكب جرماً بقتل النفس المحرّمة،
وإن اختلف الفقهاء في حكمه الوضعي من القصاص والدية، فذهب جماعة منهم إلى سقوطهما؛ لأنّه بنفسه أسقط حقّه
بالإذن والأمر بالقتل.
والتفصيل في محلّه.
الحقّ في الحياة حقّ لازم منحه اللَّه لكلّ إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحقّ، ولا يجوز لأحد حرمان غيره من الحياة تعسّفاً وظلماً إلّاإذا كان ذلك تنفيذاً لحكم شرعي أو قضائي صدر في حقّه
بالإعدام ؛ ولذا يحرم في الإسلام قتل النفس المحترمة إجماعاً؛
لقوله تعالى: «مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً».
وبه صرّح
أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى
مالك الأشتر ، قال: «وإيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها؛ فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة، ولا أعظم لتبعة، ولا أحرى بزوال نعمة و
انقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها...».
وتتمثّل ذروة التشديد في حماية هذا الحقّ في نوع العقوبة التي يجب أن تصدر في حقّ من يتطاول، فجعلت العقوبة هي القصاص، واعتبرت
الشريعة الإسلامية هذا الجزاء بمثابة ضمان لحياة الناس جميعاً، فقد ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى»،
وقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ»،
إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا التشديد في العقوبة يدلّ على مدى تكريم الشريعة الإسلامية للإنسان، فجعل القصاص- كما في الآية السابقة- هو العقوبة الدنيوية لمرتكب جريمة القتل، وهناك عقوبة اخروية أيضاً كما ورد في خبر جابر بن يزيد عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: أوّل ما يحكم اللَّه (عزّوجلّ) فيه
يوم القيامة الدماء، فيوقف ابنا
آدم فيفصل بينهما، ثمّ الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد، ثمّ الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله فيتشخّب في دمه وجهه، فيقول: هذا قتلني، فيقول: أنت قتلته؟ فلا يستطيع أن يكتم اللَّه حديثاً».
وقال
الإمام علي عليه السلام في ذلك: «واللَّه سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة».
وكذا روي في تشديد عقوبة القتل عن
حنان بن سدير عن
الإمام الصادق عليه السلام في قول اللَّه عزّوجلّ: «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً»
قال: «هو وادٍ في جهنّم لو قتل الناس جميعاً كان فيه، ولو قتل نفساً واحدة كان فيه».
إلى غير ذلك من النصوص المشتملة على المبالغة في أمر القتل وحرمته وشدّة العقوبة عليه.
وتمتدّ هذه الحماية عن حقّ الحياة إلى حماية الإسلام
الأبناء و
الجنين كما في قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ»،
فلا يجوز
إسقاط الجنين عمداً، سواء كان بعد ولوج الروح فيه أو قبل ذلك، برضا الزوجين أو بدونه، بالمباشرة أو بالتسبيب،
وعليه يجب تأخير
إجراء العقوبات كالرجم في حقّ الزانية لو كانت حاملًا؛ وليس ذلك إلّا حفاظاً على الولد في رحمها و
احترام حقّ حياته.
لا يجوز
إخضاع أيّ إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملة القاسية والمهينة أو ممارسة أيّ عمل يؤدّي إلى
الألم الشديد، جسدياً كان أو عقلياً؛ لحرمة
إيذاء الإنسان وحرمة الإضرار بالغير وعدم سلطة إنسان على إنسان آخر،
بل لا يجوز ذلك للدولة أيضاً إلّاما جوّزه
الشارع المقدّس ضمن العقوبات المقرّرة لمصالح خاصة، ولا يدخل في ذلك تعذيب المتّهم قبل ثبوت جريمته أو الشاهد لحمله على
الاعتراف بجريمة أو
الإدلاء بأقوال أو معلومات بشأن الجريمة، أو لغرض كتمان أمر أو
لإعطاء رأي معيّن بشأنها، وكلّ ذلك خارج عن القانون المقرّر شرعاً، كما لا يعتدّ بالأقارير التي تصدر عن
إكراه .
وكذا لا يجوز إخضاع أيّ إنسان لتجارب طبّية أو علمية دون رضاه، بل لا يجوز للإنسان تعريض نفسه لذلك أيضاً لو كان مضرّاً بجسده؛ لحرمة الإضرار بالنفس كما عليه عدّة من الفقهاء
وصرّح بذلك في مطاوي الفروعات المتعدّدة. والتفصيل في محلّه.
لم تكتف الشريعة الإسلامية بضمان حقّ الإنسان في الحياة، بل كفلت له أيضاً العيش بأمان، فلم تسمح له بأن يعتدي على أحد ولا لأحد أن يعتدي عليه، كما اشير إليه في غير واحدة من الآيات القرآنية الكريمة،
وذلك تمشّياً مع المبادئ التي أعلنها
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
عرفات في خطبته المشهورة في حجّة الوداع، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «... إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا... إلى يوم تلقونه...».
وكذا ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: «دم
المسلم وماله وعرضه على المسلم حرام»،
فإنّ ذلك يدلّ على أنّ الشريعة الإسلامية كفلت للإنسان العيش في المجتمع الإسلامي وهو آمن على نفسه وماله وعرضه،
ولابدّ أن يكون هذا الشعور
بالأمان متبادلًا بين الفرد والجماعة، ويوحّد الإسلام بين مصلحتهما من أجل ضمان هذا الحقّ، فإنّه وضع العقوبات المشدّدة لردع كلّ من تسوّل له نفسه بالاعتداء على
أمن المواطنين و
انتهاك حرماتهم.
وفي نطاق الأمان لابدّ للإنسان أن يعيش آمناً على نفسه ويحرم عليه التصرّف في مال غيره بغير إذنه، بل ذلك ممّا يوجب الضمان؛ لكونه غصباً،
كما حرّمت الشريعة الإسلامية السرقة وشدّدت على عقوبتها لما فيها من اعتداء على أمن الفرد، فجعلت عقوبته قطع اليد كما في قوله تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا»،
وبتنفيذ هذه العقوبة يضمن الشارع الأمن على أموال الناس، ومن التأمّل في المفاسد التي تترتّب على هذا العمل تنكشف المصلحة في تشديد العقوبة عليه.
ولكن قد يتوقّف تنفيذ هذه العقوبة أحياناً لو كان التصرّف في مال الغير والسرقة لأمر قد اضطرّ إليه كدفع غائلة الجوع عن نفسه أو عن عياله، جرياً على قاعدة لا حرج على المضطرّ؛ ولذا صرّح الفقهاء بعدم قطع يد السارق في عام المجاعة.
وأمّا بالنسبة إلى حقّه أن يعيش آمناً على عرضه فقد منع الإسلام من التعرّض لأعراض الناس وأوجب العقوبة لكلّ من دنّس عرض غيره كذباً وبهتاناً؛ ولذا صرّح فقهاؤنا بوجوب تعزير من قذف كافراً،
وقد دلّ على ذلك خبر
إسماعيل بن الفضل عن الإمام الصادق عليه السلام،
فإنّ ذلك مضافاً لما فيه من تدنيس الشرف وإهانته هو مثار للعداوة و
البغضاء و
إشاعة للفاحشة، قال تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً»،
وقال تعالى: «وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ».
ومن موارد حقّ الإنسان في العيش الآمن ضرورة رعاية حرمة داره ومحلّ سكناه، فلم يسمح الإسلام بدخول البيوت إلّا بعد
الإذن و
الاستيناس ، كما قال تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا».
وكذا لا يجوز التجسّس على أحوال الآخرين الشخصية،
والتتبع لعوراتهم والتدخّل في شؤونهم الخاصة بهم؛ ولهذا يحكم بحماية المراسلات البريدية والبرقيات والهواتف والشبكات العنكبوتية (الانترنت) فلا يجوز التجسّس أو التنصّت إلّا بعنوان ثانوي طارئ بموجب إذن من الحاكم الشرعي.
وأمّا في نطاق تحقيق الأمن في المجتمع فإنّ الإسلام حكم بعقوبة كلّ من يهدّد أمن المجتمع ويلقي الرعب في قلوب الناس، وعدّه محارباً للَّهورسوله، وعدّ فعله من مصاديق
الإفساد في
الأرض ، وعاقب على ذلك أشدّ العقاب للحدّ منها؛
استناداً إلى قوله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»،
فإنّ تشديد العقوبة دليل على ضرورة حماية أمن المجتمع المسلم من أجل تحقيق مجتمع مثالي آمن من الخوف والعدوان و
الإرهاب .
وممّا تقدّم يتّضح أنّ الشريعة الإسلامية كفلت لكلّ إنسان الحقّ في العيش بأمان دون أن يخشى على نفسه أو ماله أو عرضه أو حرمة مسكنه، وأنّ الإسلام جعل عقوبات رادعة لكلّ من يهتك هذا الحقّ أو يعبث بأمن الفرد والمجتمع.
حقّ الحرّية أكثر الحقوق التصاقاً بالحياة، ولذا يعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان، وهو حقّ من الحقوق الفردية والاجتماعية، فإنّ الإنسان بالحرّية يمتاز عن غيره من الكائنات الحيّة، وهذا الحقّ يمنح الإنسان السلطة في التصرّف والفعل عن إرادة دون أيّ
إجبار أو إكراه، وحقّ الحرّية عام وشامل، كما أنّ الحقوق المترتّبة عليه متعدّدة لها عناوين مختلفة، وهي كالتالي:
يولد الإنسان حرّاً ويجب أن يعيش حرّاً، فلا يجوز في الإسلام
استرقاق الأحرار أو استعبادهم لمنافاة ذلك لروح العدالة الإسلامية و
تكريم الإنسان المذكور في قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»،
فلا يجوز لقوم أو شعب
استعباد قوم أو شعب آخر؛ إذ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، وكذا لا فضل لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلّا بالتقوى، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»».
وقد حارب الإسلام القومية والشعوبية والعنصرية التي كانت بعض الامم المتحضّرة تؤمن بها وتعتقد أنّ العنصر
الأبيض أفضل من العنصر
الأسود جنساً ووصفاً وخلقة، وأنّ الأسود مخلوق لخدمة الأبيض، وأنكر الإسلام ذلك أشدّ
الإنكار ، فهو يرى أنّ الناس كلّهم متساوون في الإنسانية والتكريم، سواء كانوا عرباً أو عجماً، بيضاً أو سوداً، وجعل الملاك في
أفضلية بعضهم على الآخر إسلامهم وإيمانهم وتقواهم، وألغى نظام الرقّية الذي يعترف به العالم المتحضّر وحاربه لكنه تدرّج في ذلك ولم يلغه دفعة واحدة، وعليه كانت القاعدة الأولية في الإسلام هي الحرّية
كما نصّ على ذلك في رواية
عبد الله بن سنان ، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السلام يقول: «كان
علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: الناس كلّهم أحرار...».
نعم، استثنى الإسلام من الرقّ مورداً واحداً جوّز فيه الاستعباد، وهو فيما لو قامت الحرب بين المسلمين والكفّار فوقع الكفّار في الأسر، فإنّه لا يصحّ تخلية سبيلهم ليرجعوا إلى ما كانوا عليه من منابذة الإسلام من جديد، فإنّ فكّ أسرهم نقض للغرض، ولا يلتزم به أحد من العقلاء، ولا يصحّ قتلهم جميعاً، فينحصر الأمر في إبقائهم وتربيتهم وتعليمهم الإسلام، فإنّ ذلك خير لهم من القتل والحبس الذي هو الآخر له مضارّه وتكاليفه الخاصة على الدولة الإسلامية، فيفرّقهم الإسلام بين المسلمين ليتكفّل كلّ واحد منهم مهمة تعليم كلّ واحد من هؤلاء الأسرى لعلّهم يهتدون إلى
الصراط المستقيم ومعالم الشريعة فيكونوا صالحين ويستفيد منهم المجتمع بعدما كان يخشى الناس غائلتهم وفسادهم وإفسادهم.
على أنّ الإسلام يعامل هؤلاء العبيد معاملة العمّال لا كما يتعامل معهم غير المسلمين، حيث كانوا يستغلّون منافعهم ويفرضون عليهم ما لا يطيقون ممّا يعرّض حياتهم للمخاطر، بل يعبثون أحياناً بحياتهم لغرض التسلية، وهذا ما أدّى إلى التصوّر الخاطئ في حقّ الإسلام، وأنّه يعامل العبيد مثل هذه المعاملة، والإسلام بما يحمل روح العدل والإنصاف لا يرتضي لهؤلاء البقاء تحت نير العبودية، بل شجّع على العتق من جانب وضيّق من هذه الظاهرة من جانب آخر، حتى أنّ الفقهاء بحثوا ذلك في كتاب من الفقه تحت عنوان كتاب العتق، وأمّا الرقّ فلم يرد له عنوان فضلًا عن كتاب إلّافي
كتاب الجهاد حيث بحثوه في أسطر.
ونشير هنا إلى موارد العتق القهري في الإسلام- الذي جعل العتق سبيلًا للتكفير عن الذنوب والمعاصي في أكثر الموارد- وموارد العتق
الاختياري ، وهي كالتالي:
۱- قانون عتق الصدقة، وقد روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أعتق ألف رقبة من كدّ يده،
حتى روى
أبو البختري عن
جعفر ابن محمّد عن
أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام أعتق عبداً نصرانياً...».
۲- قانون عتق الكفّارة كما في كفّارة الظهار،
الإيلاء ،
الإفطار ، خلف النذر أو العهد أو اليمين، الجزع في المصاب، ضرب العبد، القتل.
۳- قانون
إقعاد العبد وعميه وجذامه.
۴- قانون
الاستيلاد .
۵- قانون التدبير.
۶- قانون الكتابة.
۷- قانون السراية (التسري).
۸- قانون المنع من تملّك أحد العمودين.
۹- قانون تملّك المملوك قبل إسلام مولاه.
۱۰- قانون تبعية
أشرف الأبوين . إلى غير ذلك من القوانين التي سنّها الإسلام لغرض تحرير العبيد وتحديد هذه الظاهرة السلبية.
وبعد تنفيذ هذه القوانين أخذت هذه الظاهرة بالزوال تدريجياً في الوقت الذي كانت في اوربا قد بلغت أوجها.
وقد يطرح في هذا المجال
احتمال أن يكون تبنّي الإسلام لقانون الرقّية من باب المعاملة بالمثل؛ لأنّ الكفّار كانوا يعاملون نساء المسلمين وذراريهم بهذه الطريقة وكان هذا الأمر عرفاً سائداً، فإذا زالت هذه الحال ارتفع الحكم؛ ولهذا لم يرد في القرآن الكريم في التعامل مع الأسرى سوى خياران هما: المنّ والفداء، دون
الاسترقاق .
والتفصيل في محلّه.
تعتبر حرّية الفكر والرأي إحدى أهم الحرّيات الأساسية التي ينبغي للإنسان أن يتمتّع بها، فإنّ لكلّ إنسان أن يفكّر ويعتقد بما شاء دون تدخّل أحد في ذلك ما دام ملتزماً بالحدود العامة التي أقرّتها الشريعة، ولذا نجد في الكثير من الآيات الكريمة الحثّ على التفكّر واستخدام العقل في جميع شؤون الحياة خصوصاً في مواجهة المدّ الفكري والعقائدي المضادّ لعقيدة الإسلام، كما أنّ الشريعة لا تسمح لأي إنسان أن يؤمن بشيء إلّابعد أن يخضعه للتفكير والتدبّر والتعقّل لكي يصل بفطرته السليمة إلى حقيقة
الإيمان .
ومن جملة الآيات التي تحثّ على التفكّر والتعقّل قوله تعالى: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ».
وقوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ».
وقوله تعالى: «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ».
وفي ضوء ضرورة التمسّك بالتفكّر والتعقّل يجب على الإنسان التحرّر من الأوهام والخرافات وتقاليد وعادات الجاهلية، وأن لا يكون مصداقاً لقوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ• وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَايَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَايَعْقِلُونَ».
وبالتفكير الصحيح تتحقّق أسمى غايات الفرد والجماعة في نطاق المنهج الإلهي الذي رسمه القرآن والسنة للبشرية جمعاء.
من إفرازات حرّية الرأي اختيار العقيدة والدين بإرادة تامّة وضمير يقظ مطمئن بصحّة ما عقد عليه قلبه واستقرّ على صحّته ضميره، ولذا فإنّ الإسلام لا يلزم غير المسلم على الدخول في الإسلام والإيمان باللَّه عن إكراه كما جاء في الذكر الحكيم: «لَاإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا
انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».
وقد روي أنّها نزلت في قوم من الأنصار أو في رجل منهم كان لهم أولاد قد هوّدوهم أو نصّروهم، فلمّا جاء اللَّه بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم اللَّه عن ذلك حتى يكونوا هم من يختار الدخول في الإسلام،
ونحوه قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
وقوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أجمَعِينَ».
وكذا قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَن آمَنَ وَمِنْهُم مَن كَفَرَ».
فهذه الآيات الكريمة تنفي الإكراه والإجبار في اختيار الدين الذي هو سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها امور عملية، ولما كان الإيمان والاعتقاد من الامور القلبية فلا سبيل للإكراه إليه، وإنّما الإكراه يكون في الأعمال الظاهرية والأفعال والحركات البدنية، وأمّا الاعتقاد القلبي فله أسباب اخرى قلبية هي من سنخ الاعتقاد و
الإدراك .
فقوله تعالى: «لَاإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ»
إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين- كما عليه السيّد الخوئي
- فالمراد منها بيان ما تكرّر ذكره في الآيات القرآنية كثيراً من أنّ الشريعة لا تبتني على الجبر لا في اصولها ولا في فروعها، وأنّ مقتضى الحكمة هو
إرسال الرسل وإنزال الكتب وبيان الأحكام؛ ليحيى من حيّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بينة.
أمّا إذا كان ذلك قضية إنشائية- كما عليه السيّد الطباطبائي،
ويشهد له تعقيبه بقوله تعالى: «قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ»
- كان نهياً عن الحمل على الاعتقاد والإيمان كرهاً؛ حيث إنّ الإكراه- كما تقدّم- إنّما يؤثّر في الأفعال البدنية دون الاعتقادات القلبية، فيكون تبيّن الرشد بمنزلة التعليل له، بمعنى أنّه يركن إلى الإكراه فيما لا سبيل فيه إلى بيان وجه الحقّ؛ لبساطة فهم المأمور أو لأسباب اخرى.
وأمّا الامور المهمّة التي ظهر وجه الخير والشر فيها وتبيّن فلا حاجة فيها إلى إكراه، بل للإنسان أن يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل والترك وعاقبتي الثواب والعقاب.
وبذلك ظهر أنّ هذه الآية هي إحدى الآيات الدالّة على أنّ الإسلام لم يبنَ على السيف والدم والإكراه، على خلاف ما زعمه بعض الباحثين من المنتحلين وغيرهم أنّ الإسلام دين السيف والجهاد، حيث قد يقال في الجواب عن ذلك: إنّ الجهاد والقتال الذي ندب إليه الإسلام ليس لغاية ربط الناس بالدين بالقوّة والإكراه، بل لإحياء الحقّ والدفاع عن النفس، وأمّا بعد
انبساط التوحيد بين الناس وركونهم للدين ولو بالتهوّد والتنصّر فلا نزاع لمسلم مع موحّد، ولذا روي أنّ صفوان طلب له من النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الأمان بعد فتح مكّة، فأمّنه صلى الله عليه وآله وسلم فدخل مكّة وأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف عنده وناداه في جماعة من الناس:
يا محمّد! إنّ هذا وهب بن عمير يزعم أنّك أمّنتني على أنّ لي مسير شهرين، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: «انزل ولك مسير أربعة أشهر»، فنزل وسار مع رسول اللَّه إلى حنين واستعار منه رسول اللَّه سلاحاً بعارية مضمونة وشهد حنيناً كافراً، وأسلم بعد ذلك وكان من المؤلّفة وحسن اسلامه.
ثمّ إنّ المراد من الجهاد ليس هو إجبار الغير على قبول الإسلام، بل المراد منه نشر الإسلام وتبليغه بعد
إتمام الحجّة، ولا يقتل أحد إلّاأن يكون من المعاندين والمانعين عن نشر دين الحقّ، وكان من
أهل الفتنة والفساد ومحاربة الإسلام، كما أشارت إلى ذلك بعض الآيات، كقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا».
وقوله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا».
وكذا قوله تعالى: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ».
كما أوصى أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك بالرأفة والعطف لهؤلاء، قال عليه السلام: «... ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم؛ فإنّهم صنفان: إمّا
أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق...»،
وفيه تأكيد على ضرورة الحياة لكلّ إنسان من حيث كونه من مخلوقات اللَّه تعالى.
وفي ضوء ذلك فإنّ الإسلام يحترم بيوت العبادة لليهود والنصارى
فيجوّز لهم عمارتها،
ويعامل أهلها معاملة إنسانية مبنية على الأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة ورعاية الجوار، كما قال تعالى: «لَايَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».
ومنع الإسلام من ظلمهم حتى مع خصومتهم للإسلام كما في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».
وقد ذهب بعض فقهاء المسلمين إلى أنّ غير المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم من الحقوق والواجبات كالخمس والزكاة وغيرهما، كما قرّر لغير المسلم الجزية،
وبذلك يعيش غير المسلم في كنف الحكومة الإسلامية وينعم بالأمن والعدل والحرّية الدينية كما ينعم المسلم بذلك. نعم، يبقى حكم
الارتداد ثابتاً حيث يستوجب العقاب الشديد في الدنيا والآخرة كما عليه الفريقان؛ لقوله تعالى: «وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الْدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»» الدال على العقاب الاخروي إلى جانب الروايات الصحيحة السند الدالّة على العقاب الدنيوي.
ولا يختصّ حكم الارتداد المذكور بالإسلام بل يعدّ عند اليهود والنصارى جرماً حيث يعاقبون المرتدّ عن دينهم بأشدّ العقوبات.
على أنّ المرتدّ لا يعاقب على ارتداده ما لم يعلن ذلك، وهو ظاهر بعض
وصريح آخرين،
حيث ذهبوا إلى عدم تحقّق الارتداد بمجرّد الاعتقاد الباطني بالكفر من دون إظهاره بفعل أو قول.
يضاف إلى ذلك حرمة التجسّس وتفتيش العقائد، فالعقوبة إنّما تجري عليه فيما إذا أظهر ذلك وأعلنه، فيبتني الحكم فيه حينئذٍ على المصلحة العامة وحفظ دين الناس الذين يتطرّق إلى أذهانهم مثل تلك الشبهات، فتكون العقوبة ضمان وصيانة للمجتمع من
انحراف عقائدهم ومقدّساتهم.
على أنّ عقوبة القتل لا تجري على كلّ من ارتدّ عن الإسلام، و
المرتد الملّي وهو من أسلم عن كفر ثمّ ارتدّ،
وكذا الحكم في المرأة فإنّها تستتاب
ابتداء .
وذهب جماعة إلى
اعتبار وصف الإسلام بعد البلوغ.
بل صرّح بعضهم
باستتابة من بلغ من ولد المسلمين ووصف الكفر، وأنّه لا يقتل ابتداءً؛
لعدم تحقّق الإسلام حقيقة منه، ومجرّد كونه محكوماً بالإسلام حال الولادة لا يجدي في صدق الارتداد.
ففي هذه الموارد يستتاب المرتد ويناقش في شبهته؛ لكي تتّضح له حقيقة الأمر بمجادلته بالتي هي أحسن حتى لا تبقى له حجّة وتزول شكوكه برجوعه إلى فطرته ويترك طريق العناد واللجاج، لكنّه إن بقي على ارتداده وأقرّ به فإنّه يعاقب على ذلك أشدّ العقاب؛ لخروجه على النظام العام وخيانة الامّة التي ترعاه والدولة التي تحميه.
لا شكّ أنّ العدل أقوى أساس،
وهو ميزان اللَّه الذي وضعه في خلقه،
وبه قوام الرعية
وجمال الولاة،
فهو أمر مطلوب للفرد والمجتمع، ولا يخفى أنّ المساواة بين الأفراد في كثير من الموارد مصداق للعدل؛ لتساويهم في الإنسانية وسائر الشرائط المقرّر له، ولكن في موارد متعدّدة لا يكون حال الأفراد متساوياً في المجتمع؛
لاختلاف الناس في الذكاء والفهم والعلم والقوّة ونحوها، ممّا هو مؤثّر في نجاحاته الفردية والاجتماعية، فمنهم من يصل برعايته إلى أعلى درجات التوفيق في الامور المادية والمعنوية، ومنهم من لا يصل إلى ذلك، هذا مضافاً إلى وجود قريحة الاستخدام في الإنسان، وقد يستغل القويّ الضعيف والغالب المغلوب، ولا حيلة للضعيف والمغلوب ما دام مغلوباً، ولكن يقابل ظالمه إذا قوي وتمكّن بأشدّ
الانتقام ، وعليه فعدم المساواة يؤدّي إلى فناء الحياة البشرية،
ولعلّه إلى ذلك يشير قوله تعالى: «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا».
ولا يستقيم الأمر إلّابالعدل والقسط والمساواة على حسب الشرائط والظروف.
كما أنّ ما نقرأه اليوم في تاريخ بعض الامم- من العنصرية والتفريق بين أبناء الإنسان، فيستغلّ الأبيض الأسود أينما وجده أو عثر عليه، ويكون ملكاً له وفق القانون- هو نوع من أنواع الظلم واللامساواة.
وأيضاً قسّم الناس في الهند إلى أربع طبقات وأنكروا المساواة بين الناس، وقد منحت طبقة البراهمة- وهم الكهنة ورجال الدين- حقوقاً ومزايا ألحقتهم بالآلهة، بينما عاملوا طبقة الشودر- وهم رجال الخدمة- معاملة البهائم والحيوانات، ووضعوا رجال الحرب في الطبقة الثانية، ورجال الزراعة والتجارة في الطبقة الثالثة.
وكان العرب في الجاهلية يتعاملون بنفس الطريقة مع الضعفاء والفقراء، فكان أثرياؤهم يأنفون من مصاهرة الضعفاء، وكانت دية أحدهم أضعاف دية الضعفاء، وكانت كلّ قبيلة تتفاخر على غيرها بأنسابها، وهكذا.
فجاء الإسلام وأبطل العصبية والشعوبية والعنصرية وجعل الإنسان مكرّماً، وجعل العدل والمساواة هما الأساس في الحقوق والواجبات، وألغى التمايز بالعرق والجنس و
الإقليم والشعب وكلّ ما لا دخل له في جوهر الإنسان وإنسانيته، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَ
الْأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً».
وبذلك يظهر أنّ الإسلام دين المساواة بين
الأسود والأبيض في جميع الحقوق والواجبات، وأنّه لا يختصّ بقوم دون قوم، وقد جسّد أمير المؤمنين عليه السلام العدالة والمساواة بين الناس في معاملته لهم وفي استحقاقهم من بيت المال فقال: «... واللَّه، لو كانت أموالهم ملكي لساويت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم؟!...»،
وروي أيضاً أنّ امرأة من العرب جاءت مع امرأة أعجمية إلى أمير المؤمنين عليه السلام وكانت العربية قد اعترضت على تساوي سهمها مع الأعجمية فأجاب أمير المؤمنين عليه السلام: «واللَّه لا أجد لبني
إسماعيل في هذا الفيء فضلًا على بني إسحاق».
والمراد منه المساواة مع رعاية حال كلّ واحد من كثرة العيال وقلّته وسائر ما له دخل في ذلك.
ثمّ إنّ الفرص التي أوجدها القانون يختلف الناس في
الاستفادة العملية منها بحسب
استعدادهم ، فيصل بعضهم إلى مقام رفيع في العلم والعمل، ولا يصل البعض الآخر إلى شيء من ذلك، ولا يرجع هذا الاختلاف إلى القوانين، وتستطيع الحكومات تضييق الفواصل الزمنية لهذه القوانين ودعمها إلّاأنّها لا تزول، وبالطبع فإنّ وجود هذا الاختلاف هو عين العدل خصوصاً بعد التساوي في القانون وإمكان الاستفادة المتساوية منها.
فلا يمكن التفكيك بين العدل والمساواة ويكون لهما معنى إذا كانا إلى جانب بعضهما الآخر، وفي نظر الإسلام فإنّ المساواة الصحيحة هي التي تكون قائمة على أساس العدل.
مضافاً إلى أنّ للعدالة قيمة مهمة في إنسانية الإنسان حيث لا يتم للإنسان معنى الإنسانية إلّاإذا اعتدلت قواه وكانت في مجراها المشروع، وملكة الاعتدال في كلّ واحدة من القوى هي ما نسمّيه بالخلق الفاضل والمحمود كالحكمة والشجاعة والعفّة وغيرها، ويجمع الجميع العدالة.
وسيأتي البحث عن المساواة أمام القانون في مبحث الحقوق القضائية.
تتشعّب من الحقوق الأساسية المتقدّمة حقوق يتعلّق بعضها بالامور السياسية وبعضها بالامور الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفيما يلي تفصيل ذلك:
يقع البحث في الحقوق السياسية عن بعض تطبيقات الحقوق الأساسية المرتبطة بالامور السياسية التي ينشعب أكثرها من حقّ الحرّية، وهي كالتالي:
للإنسان أن يفكّر ويعتقد ما شاء، وله أن يعبّر عن رأيه ومعتقده دون تدخّل أحد ما دام يلتزم الحدود العامة التي أقرّتها الشريعة، وحرّية الرأي هي قدرة الإنسان على التعبير عن وجهة نظره بمختلف وسائل التعبير ولكن في نطاق الجهر بالحقّ و
إسداء النصيحة في كلّ ما يمسّ الأخلاق والمصالح العامة.
وقد كفل الإسلام حرّية
إبداء الرأي منذ بدأت الدعوة الإسلامية، وهناك آيات دلّت على
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كقوله تعالى: «وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
وجعل في آية اخرى العمل بهما في مقابل تمكين
الأرض لهم فقال تعالى: «الَّذِينَ إِن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ»،
إلى غيرها من الآيات الدالّة على مطلوبية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل الحثّ عليه
وجعل
الابتلاء بالبلاء وحكومة الأشرار ممّا يترتّب على تركهما، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام: «... إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي سلّط اللَّه عليهم شرارهم...».
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى
الإفصاح عن آرائهم ويحثّ أصحابه على ممارسة حرّية الرأي، ويأخذ بما يبدوه من آراء ويستشيرهم؛
امتثالًا لقوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».
وحرّية الرأي والتعبير في الإسلام تنفتح على كلّ أشكال التعبير عن الأفكار السياسية والاجتماعية وغيرها شرط عدم
الإخلال بحرّيات الآخرين وحقوقهم وعدم خرق القوانين العامة لنظم الامور.
اتّضح ممّا تقدّم من حرّية الرأي والتفكير والتعبير ما يحكم علاقة
الدولة الإسلامية والشعب، حيث من الطبيعي أن يكون للناس حقّ الرأي والتعبير في تقرير مصيرهم الذي يختارونه بالنسبة إلى
استقلال الدولة عن الدول
الاستعمارية في مختلف شؤونها السياسية والاقتصادية والثقافية ونحوها.
فلا يحقّ التدخل في مصائر الشعوب وفرض
الإرادة عليها والهيمنة، بل يجب مقاومة ذلك بألوان الجهاد.
من حقّ كلّ إنسان أن يعلم بما يجري في حياته من شؤون تتعلّق بالمصلحة العامة للمجتمع، فذلك من الحقوق السياسية له، ويتجلّى ذلك في حقّ انتخاب النوّاب والوكلاء، وحقّ تولّي المناصب في الدولة مع شرائطها.
ولعلّ ما يرشد إلى ذلك أمر اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ»،
وقوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».
والثمرة المشهورة هي
استخراج آراء الناس والعلم بما عندهم، واختلف في فائدة مشاورته أصحابه مع
استغنائه بالوحي على أقوال، بأنّ ذلك على وجه التطييب لنفوسهم والتأليف لهم والرفع من أقدارهم وإجلالهم، ولتقتدي به امّته في المشاورة ولا يرونه نقيصة كما مدحوا بأنّ أمرهم شورى بينهم وليمتحنهم بالمشاورة ليتميّز الناصح من الغاش.
ويقول
الشهيد المطهري في أهداف
استشارته صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مقام النبوّة، وفي حين كان أصحابه يتفانون في سبيله حتى ليقولون له: إنّه لو أمرهم بأن يلقوا أنفسهم في البحر لفعلوا، فإنّه لا يريد أن ينفرد في اتّخاذ القرار؛ لأنّ أقل مضارّ ذلك هو أن لا يشعر أتباعه بأنّ لهم شخصيتهم وفكرهم المتميّز، فهو حين يتجاهلهم كأنّه يقول لهم: إنّهم لا يملكون الفكر والفهم والشعور الكافي، وإنّما هم مجرّد آلة تنفيذ لا أكثر، وهو يملك فقط حرّية
إصدار القرار والتفكير فيه دونهم، وطبيعي أن ينعكس ذلك على الأجيال بعده صلى الله عليه وآله وسلم، فكلّ حاكم يأتي سوف يستبدّ بالقرار وسيقهر الناس على
الانصياع لإرادته مهما كانت، وذلك بحجّة أنّ له في رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم اسوة حسنة، مع أنّه ليس من لوازم الحكم
الاستبداد بالرأي، فقد استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو معصوم أصحابه في بدر واحد».
فقد أمضى اللَّه تعالى سيرة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم في مشاورته أصحابه في أمر القتال ونحوه، وتشعر الآية بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّما يفعل ما يؤمر، واللَّه سبحانه راضٍ عن فعله.
ولذا وردت في كلمات الأئمّة عليهم السلام أحاديث كثيرة في تعظيم التشاور وبيان فوائده والحثّ عليها الشامل لجميع أنواعه.
كما قال الإمام علي عليه السلام: «من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها».
وكما لا يخفى فإنّ الآية المتقدّمة لا تدلّ على
إلزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، بل القرار النهائي له صلى الله عليه وآله وسلم ولربّه. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ»،
وليس في الآية إلزام برأيهم، وكذا الأمر بالنسبة إلى الفقيه العادل إذا تولّى امور المسلمين بعد الغيبة، فإنّه ربّما يستشير الآخرين ويشاركهم في امور الدولة كما هو مقتضى المصلحة غالباً، وهو الذي يمارس الخلافة والسياسة والامور الاجتماعية في الامّة بإجراء أحكام اللَّه لكن مع مشاركة الامّة ليكون الحكم مقبولًا ومؤيّداً بحضور الجماعة ومشاركتهم في الامور، ويتمّ ذلك بمشورة الناس كلّهم في تعيين وكلائهم للمجلس حسب الدستور ليشتركوا في
اتّخاذ القرار أوّلًا ثمّ ليتحمّلوا نتيجته وآثاره ثانياً.
نعم، ذهب بعض الفقهاء إلى إلزامية الشورى ليس انطلاقاً من آية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمشاورة غير الظاهرة في الإلزام، وإنّما من تقرير أنّ أمر المؤمنين شورى بينهم في الآية الثانية، فهي ظاهرة في تقرير شوروية الأمر، كما يقال: قرار المنزل للرجل.
ويتبيّن ممّا تقدّم أنّ ذلك كلّه إنّما هو بالنسبة إلى امور الدنيا وتنظيم معيشة الناس ونحو ذلك ممّا يرجع إلى أمر الناس كما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»،
لا ما يرجع إلى أمر الدين وأحكام الإسلام
كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ»،
وكذا قوله تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ».
والتفصيل في محلّه.
ينتج عن حرّية الفكر والرأي والتعبير في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية أنّه يجوز
إظهار ذلك وإعلانه بالتجمّع السلمي، سواء كان من جانب الأفراد أو من جانب النقابات والجمعيات السياسية والاجتماعية، ولا مانع من ذلك، بل قد يصدق عليه الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر،
إذا كان المقصود منها إرشاد الناس أو الحكومة إلى ذلك إلّاأنّه يلزم أن يكون ذلك تحت ضوابط الحكومة الإسلامية، كما نصّ عليه في الدساتير الدولية المختلفة أنّ للمواطنين حقّ التظاهر سلمياً في
إطار مبادئ الدستور وينظّم القانون ممارسة هذا الحقّ.
فحرّية التجمّع والتظاهر معترف بها وفق القوانين العامة للحكومة بمعنى أن لا ينتهي إلى
الإخلال بالنظام ولا يكون على خلاف المصالح العامة للمجتمع، فينطبق على تلك الاجتماعات والتظاهرات عناوين اخرى، المطلوب تركها والمنع منها كما يخرج عندئذٍ عن عنوان التجمّع السلمي أيضاً.
وهذا الحقّ محترم لجميع الأفراد والنقابات السياسية حتى لمن كان معارضاً سياسياً للحكومة، فلهم أيضاً إظهار معتقداتهم إلّامع
اختلال النظام، كما يشاهد ذلك في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام وكيفية مواجهته للخوارج عندما ظهروا وثاروا على النظام وأنكروا ضرورة وجود الدولة، وأرسل إليهم الإمام علي عليه السلام برسالة قال فيها: إنّ لهم الحق في أن يعيشوا أنّى شاؤوا بشرط ألّا يسفكوا الدم أو يعتدوا بأساليب وحشية.
وخاطبهم في رسالة اخرى بأنّهم ما داموا لا يخرجون ولا يفسدون النظام فإنّه لن يشنّ عليهم حرباً، فيستنتج منه أنّه يحقّ حتى لجماعة منظّمة مناوئة للحكم أن تمارس المعارضة السياسية ما دامت لا ترتكب أيّ إخلال بالنظام العام ولا تدعوا إلى تدمير الدولة بالعنف أو القوة.
من شؤون حرّية الإنسان الأساسية في المواطنة هو
الانتقال من بلد إلى بلد كما سيأتي في الحقوق الاجتماعية، ويتفرّع على ذلك حقّ اللجوء إلى بلد آخر، وهو الانتقال إلى بلد لا يحمل جنسيته، وذلك لأهداف سياسية ودينية غالباً.
ولا إشكال ولا خلاف
في وجوب الانتقال واللجوء إلى الإسلام عند
الاضطهاد وعدم
احترام حقوق الإنسان في بلاد الكفر بحيث لا يتمكّن من إظهار دينه ولا يأمن على نفسه من المقام بين الكفّار، فتجب عليه الهجرة؛
لقوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا»،
فدلّت الآية على وجوب الهجرة على المستضعف الذي لا يقدر على إظهار دينه، فالناس في الهجرة على ثلاثة أقسام
:
الأوّل: من تجب عليه، وهو من كان مستضعفاً من المسلمين بين الكفّار ولا يقدر على حفظ دينه كما تقدّم.
الثاني: من لا تجب عليه
الهجرة من الكفّار بل يستحبّ لهم، وهو من كان من المسلمين ذا عشيرة ورهط يحميه من المشركين، ويمكنه إظهار دينه والقيام بواجبه ويكون آمناً على نفسه، وإنّما استحبّت له المهاجرة لئلّا يكثر سواد المشركين.
الثالث: من تسقط عنه الهجرة لأجل عذر من مرض أو ضعف أو عدم نفقة لقوله تعالى: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَايَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً»؛
لأنّهم غير متمكنين وكانوا بمنزلة المكرهين فلا
إثم عليهم. نعم، لو تجدّدت له القدرة وجبت عليه الهجرة، فالهجرة باقية ما دام الشرك والكفر الذي يعجز معه عن إظهار
شعائر الإسلام باقياً.
ولما كانت الهجرة من الوطن شاقّة على النفوس وملازمة لفقد الأموال والأقارب لذلك رغّب الشارع بها بقوله تعالى: «وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً».
ويثبت للمهاجر هذا
الأجر والثواب العظيم وإن مات في الطريق؛ لقوله تعالى: «وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً».
ومن صور حقّ اللجوء
إلجاء غير المسلم إلى بلد الإسلام ليتعرّف على أحكام الإسلام، فيجب على المسلمين استضافته، فإن سمع الإسلام فهو المراد، وإن لم يسمع وأراد الرجوع إلى بلده ومأمنه اعين على ذلك وسُهّل له، كما في قوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»،
وإن أراد الإقامة في بلاد الإسلام عقد الإمام معه عقد الذمّة.
وعلى العكس لا يجوز للمسلم ترك بلد الإسلام ليقيم بدار الكفر ويرضى بالطعن والذلّ والمذلّة لنفسه. والتفصيل في محلّه.
وكما تثبت للإنسان في الشريعة الإسلامية حقوق سياسية، كذلك تثبت له بعض الحقوق الاجتماعية؛ فإنّ حقّ الحياة من نوع الحقوق الأساسية التي يتشعّب منها سلسلة من الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالمأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح وغير ذلك.
وأهمّ الحقوق الاجتماعية نوجزه- إجمالًا- كما يلي:
يستتبع عيش الإنسان واستمرار نوعه تكوينه لُاسرة يحيى حياته معها، وقد فرضت الشريعة الإسلامية بعض الحقوق في النطاق الاسري أهمّها:
۱- حقّ تكوين الاسرة:
لكلّ إنسان الحقّ في تكوين اسرته التي يريدها باختيار زوجة توافق معه على الحياة الزوجية القادمة أو اختيار زوج يوافق كذلك، وقد أعطت الشريعة كامل الحقّ للطرفين دون أن تفرض عليهما زواجاً خاصّاً.
نعم، الرأي المعروف بين الفقهاء هو لزوم أخذ
المرأة إذن والدها أو جدّها لأبيها عند
الزواج إذا لم تكن ثيّباً، وهذا تقييدٌ في حقّ تكوين الاسرة واختيار
أطراف العلاقة معها، لكن هذا التقييد قد يرجع لعنصر المصلحة، حيث رأت الشريعة أنّ في ذلك ترشيداً للفتاة وحيلولةً دون التباس الامور عليها نتيجة عدم تجربتها وغلبة الجانب العاطفي عليها.
۲- حقوق الزوجين الاسرية:
يتساوى الزوجان في جميع الحقوق والواجبات الاسرية لكن هناك بعض التفاصيل الشرعية المختلفة، فللزوج حقّ على زوجته بتمكينه من نفسها متى أراد ما لم يكن هناك مانع أو عذر عقلي أو شرعي، كما وذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّ من حقّه عليها أن لا تخرج من منزله إلّا بإذنه حتى لو لم يناف ذلك حقّه في
الاستمتاع ، فيما ذهب آخرون إلى تقييد هذا الحقّ بحالة منافاة حقّه في الاستمتاع، فيرجع إلى الحقّ الأوّل.
ومن نتائج حقّ الاستمتاع أن لا تقوم المرأة بأيّ أمر ينافي هذا الحقّ؛ لذا حكم الفقهاء عليها بلزوم رفع المنفرات وكلّ ما من شأنه تنفّر الرجل منها جنسياً.
في المقابل يثبت للمرأة الحقّ في المسكن و
النفقة اللائقة بشأنها- من المأكل والمشرب والملبس- على الزوج ما دامت في زوجيّته، حتى لو كانت موسرة فإنّه لا يلزمها الصرف من مالها حينئذٍ.
كما يثبت للزوجة- عند
المشهور - حقّ أن يقاربها زوجها مرّة كلّ أربعة أشهر على الأقلّ على تفصيلات لهذا الحكم تذكر في محلّها.
ولا تقف الحدود هنا، بل يثبت لهما على بعضهما حقّ المعاشرة بالمعروف، هذا وهناك حقوق تفصيلية كثيرة وموردية مثل القسم بين الزوجات تراجع في محلّها.
۳- حقوق الطفل:
للطفل في الشريعة الإسلامية حقوق كثيرة تشرع من تحسين تسميته وتربيته تربيةً صالحة، والإنفاق عليه ما دام فقيراً، وحمايته من المضارّ المادية والمعنوية.
وقد حثّت الشريعة الإسلامية على
تدريب الأطفال قبل سنّ البلوغ على
الإتيان بالعبادات الشرعية لتقوية إيمانهم وتهيئتهم للمرحلة القادمة من حياتهم.
۴- حقّ الامومة:
حفظت الشريعة الإسلامية للُامّ حقّها، ففرضت على الزوج أن يوفّر لها ما يمكّنها من
حضانة أطفالها ما دامت في علقة الزوجية، ولا يجوز سلبها هذا الحقّ الذي هو في الحقيقة حقّ للُامّ وللطفل معاً.
وقد كرّمت الشريعة
الامّ أعظم تكريم وجعلت حقّها فوق حقّ
الأب ، وألزمت الأولاد في
الأسرة باحترامها وتقديرها و
إعانتها فيما تحتاج إليه لبقائها، والنصوص في هذا المجال كثيرة جدّاً.
لا يمكن للفرد أو الاسرة أن تعيش بلا مسكن ولا مأوى، من هنا حمت الشريعة هذا الحقّ، وجعلت لكلّ إنسان الحقّ في السكن والمنزل الذي يمكنه تملّكه والعيش فيه، ولم تحظر على أحد من حيث المبدأ أن يتمتّع بسكن مناسب في أيّ بقعة من بقاع
الأرض ما لم يكن في ذلك معتدياً على حقّ من حقوق الآخرين الخاصّة أو العامة. وتأكيداً على موقفها هذا جعلت بعض مصارف الحقوق الشرعية والضرائب الإسلامية في توفير السكن للمحتاجين والفقراء.
تعدّ الوظائف الصحّية من الواجبات النظامية الكفائية التي فرضت الشريعة فيها على الناس القيام بكلّ ما من شأنه توفير الرعاية الصحّية والسلامة الصحّية للمجتمع.
في هذا السياق ألزمت الشريعة- بنحو
الوجوب الكفائي - بتشكيل مجموعة من الأطباء والمختصّين لتولّي الشؤون الصحّية للناس، كما ورد في النصوص العديد من التوجيهات المتصلة بمحاربة الأوبئة والأمراض وخواصّ بعض النباتات الصحيّة وغير ذلك، ممّا أعطى الكتاب والسنّة طابعاً توجيهياً لكي يحصل الإنسان من خلال هذه التوجيهات على السلامة الصحية اللازمة. ولم تقصر الشريعة حقّ الرعاية الصحية على شخص دون آخر بل ساوت بين الناس في كلّ ما يتّصل بحاجاتهم الصحية والطبية.
أمّا على الصعيد الاجتماعي فقد ساوت الشريعة بين أفراد البشر في أنّ من حقّهم أن ينالوا الرعاية الاجتماعية اللازمة، فاهتمّت بأمر كبار السنّ والعجزة ودعت إلى مساعدتهم، كما اهتمت بالشأن التربوي للأطفال والناشئة، ودعت إلى التواصل الاجتماعي ورفع التخاصم والتباغض، وجعلت وظيفة القضاء الشرعي خادمةً لرفع التوتّر الاجتماعي وراعية للقضايا الاجتماعية للناس.
يتساوى أبناء الوطن الإسلامي في الحقوق، فلكلّ واحدٍ منهم ما لغيره وعليه ما على غيره من حقوق المواطنة وواجباتها.
نعم، استثنت الشريعة الإسلامية بعض الموارد التي قد تعدّ عند بعضهم تقييداً في حقوق المواطنة، مثل: أن يكون قائد الدولة الإسلامية مسلماً، وهذا في الحقيقة راجعٌ إلى ضرورات حفظ هوية الوطن الإسلامي، وليس خرقاً لحقوق المواطنة، ففي فرنسا ما يزال
رئيس الجمهورية حتى الآن مشروطاً بأن يكون كاثوليكياً من حيث الديانة، رغم أنّ البلد علماني بامتياز.
وقد حكم الفقهاء بأنّ
أهل الذمّة في بلاد المسلمين تحفظ لهم جميع حقوقهم التي لا تضرّ بهوية المجتمع الإسلامي الذي يمثّل المسلمون الأكثرية فيه؛ لهذا يمنعون أحياناً تبعاً لما يراه الحاكم الشرعي من التبليغ لدينهم أو التظاهر بالمنكرات وإن كانت جائزة عندهم.
يثبت للإنسان في الشريعة الإسلامية حقّ التنقّل داخل الوطن الإسلامي بين الأقاليم والمحافظات، وكذلك خارجه، ولا يوجد حظر على عنوان التنقل من الناحية المبدئية، فلكلّ إنسان استخدام وسائل النقل ومراكز السياحة والأماكن العامة والحدائق والفنادق والأماكن الأثرية والتراثية.
نعم، قد تفرض بعض العقوبات الإسلامية سلباً لهذا الحقّ، مثل: من حكم عليه بالسجن أو النفي والتغريب، وكذلك قد يحدّ من حرّية التنقل لمصالح أمنية أو سياسية عليا ترجع للدولة الإسلامية، وهذا أمرٌ طبيعي في النظم القانونية الدينية والعقلائية.
أعطت الشريعة للإنسان حقّاً في أيّ عمل يختاره وجعلت الناس سواسية في حقّ اختيارهم لعملهم ولم تجبرهم على عملٍ بعينه، كما لم تحكم الشريعة باحتكار بعض الناس لبعض الوظائف بحيث لا يحقّ لغيرهم شغلها وتولّي مسؤوليتها.
نعم، تفرض الحالات التي تستدعيها الوظائف نفسها شروطاً في الإنسان نفسه، مثل الاستاذية في الجامعة والحوزة، فإنّ ذلك يفرض درجةً خاصّةً من العلم، وهكذا مناصب القضاء والسلطة السياسية العليا وفق بعض النظريات، وإلّا فأيّ إنسان بإمكانه تحصيل المقدمات اللازمة لهذا العمل أو ذاك لتحصيل هذه الوظيفة أو تلك، والمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية مسؤولان عن تأمين فرص العمل بالتساوي بين أفراد المجتمع.
يحقّ لكلّ إنسان تقديم أيّ دعوى أو قضية لدى الجهات القضائية المختصّة، ولا يؤثر دينه أو عرقه أو لغته أو منطقته في ذلك، والناس كلّهم سواسية أمام
القضاء .
وقد حثّ الإسلام على العدل والشهادة بالحقّ سواء كانت لصالح الشاهد شخصياً وعرقياً ودينياً أم لم تكن كذلك، قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً».
كما عهد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم و
أهل البيت عليهم السلام أنّهم كانوا يتعاملون في القضاء بعدل بين الناس، بحيث كان يمكن لأيّ مسلم أن يرفع دعوى قضائية حتى ضدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يجرّ ذلك إلى قمعه أو سلبه هذا الحقّ، بل كان الإمام علي عليه السلام يرفض أن يميّزه القاضي حتى في النظر والاحترام أثناء
المرافعة . وهذه الأحكام تشمل حتى الكافر، ويجب العدل معه، قال تعالى: «وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ».
ومن نتائج ذلك أنّ من حقّ كلّ الناس أن يتمّ التعامل معهم قضائياً بالعدل، فلا يجوز
الاعتقال أو مصادرة الأموال أو السجن أو التعذيب أو غير ذلك إلّاوفقاً للقواعد المسموح بها شرعاً بما تقتضيه المصلحة والضرورة. كما أنّ الأحكام القضائية لا تأخذ شكلًا فئوياً، بل تتعامل بموضوعية كاملة طبقاً للأدلّة والشواهد، سواء كان المدّعي أم المدّعى عليه من طبقة اجتماعية خاصة أم عامة، وسواء كان غنياً أم فقيراً لا فرق. وتقام الأحكام القضائية ويتم تنفيذها على الناس بالسوية؛ ولهذا ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لو سرقت
فاطمة بنت محمّد - وهي لا تسرق- لقطع الرسول يدها، في
إشارة واضحة إلى تساوي الناس أمام أحكام القضاء والعقوبات الجزائية والجنائية.
كما أعطت الشريعة الإسلامية للإنسان حقوقاً سياسية واجتماعية أعطته حقوقاً اقتصادية، نشير إلى أهمّها إجمالًا فيما يلي:
يختلف حقّ الملكية حسب اختلاف المذاهب الاقتصادية في العالم.
فالاقتصاد الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكيّة، أي بالملكيّة الخاصّة كقاعدة عامّة، فهو يسمح للأفراد بالملكيّة الخاصّة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعاً لنشاطاتهم وظروفهم، ولا يعترف بالملكيّة العامة (الملكيّة المشتركة)، إلّاحين تفرض الضرورة الاجتماعيّة وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق أو ذاك، فتكون هذه الضرورة حالة استثنائيّة يضطرّ
المجتمع الرأسمالي - على أساسها- إلى الخروج عن مبدأ الملكيّة الخاصّة و
استثناء مرفق أو ثروة معيّنة من مجالها، وعليه فالملكيّة الفرديّة هي
الأصل على أساس المجتمع الرأسمالي.
و
الاقتصاد الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك، فإنّ الملكيّة الاشتراكية فيه هي المبدأ العام الذي يطبّق على كلّ أنواع الثروة في البلاد، وليست الملكيّة الخاصّة (الملكيّة الفردية) لبعض الثروات في نظره إلّاشذوذاً واستثناءً قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعيّة قاهرة.
فالشيوعيّة- مثلًا- ترى أنّ العدالة لا تتحقّق إلّاإذا الغيت الملكيّة الفرديّة إلغاءً تامّاً وعوّضت بالملكية الجماعيّة، بينما يرى دعاة الحريّة الاقتصادية فسح المجال للفرد في أن يتملّك ما يشاء ويعمل مواهبه في إنماء ملكيّته دون تعرّض لتحكّم السلطات في شأنه، وكلّ يدّعي تحقيق العدل فيما تبنّاه من تشريعات.
وأمّا المجتمع الإسلامي القائم على
الفقه الإسلامي فلا تنطبق عليه الصفة الأساسيّة لكلّ من المجتمعين؛ لأنّ
المذهب الإسلامي لا يتّفق مع الرأسماليّة في القول بأنّ الملكيّة الخاصّة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكيّة في اعتبارها للملكية
الاشتراكية مبدأ عاماً، بل إنّه يقرّر الأشكال المختلفة للملكيّة في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكيّة المزدوجة، بدلًا عن مبدأ الشكل الواحد للملكيّة الذي أخذت به الرأسمالية والاشتراكية.
فهو يؤمن بالملكيّة الخاصّة والملكيّة العامّة وملكيّة الدولة ويخصّص لكلّ واحد من هذه الأشكال الثلاثة للملكية حقلًا خاصاً تعمل فيه ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً واستثناءً أو علاجاً مؤقّتاً اقتضته الظروف.
قال بعض الفقهاء المعاصرين: «لا تنحصر الملكيّة في التشريع الإسلامي بالملكيّة الفرديّة، بل المعروف أنّها على أنحاء ثلاثة:
۱- الملكيّة الفرديّة.
۲- الملكيّة للمسلمين جميعاً.
۳- ملك الحكومة الإسلامية».
من أركان الاقتصاد الإسلامي السماح للأفراد على الصعيد الاقتصادي بحرّية محدودة بحدود من القيم المعنوية والخلقية التي يؤمن بها الإسلام والتحديد الإسلامي للحريّة الاجتماعية في الحقل الاقتصادي على قسمين:
أحدهما: التحديد الذاتي الذي ينبع من أعماق النفس ويستمدّ قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية.
والآخر: التحديد الموضوعي الذي يعبّر عن قوّة خارجية تحدّد السلوك الاجتماعي وتضبطه.
وبعبارة اخرى: أوّلًا: كفلت الشريعة في مصادرها العامة النص على المنع عن مجموعة من النشاطات الاقتصادية والاجتماعيّة في نظر الإسلام، كالربا و
الاحتكار وغير ذلك.
وثانياً: وضعت الشريعة مبدأ
إشراف وليّ الأمر على النشاط العام وتدخّل الدولة لحماية المصالح العامّة وحراستها، بالتحديد من حرّيات الأفراد فيما يمارسون من أعمال.
وقد كان وضع الإسلام لهذا المبدأ ضرورياً لكي يضمن تحقيق مثله ومفاهيمه في العدالة الاجتماعية على مرّ الزمن، فإنّ متطلبات
العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام تختلف باختلاف الظروف الاقتصادية للمجتمع، ولذلك جعل فسح المجال لولي الأمر ليمارس وظيفته بصفته سلطة مراقبة وموجّهة ومحدّدة لحرّيات الأفراد فيما يفعلون أو يتركون من الامور المباحة في الشرع وفقاً للمثل الإسلامي في المجتمع.
والتفصيل في محلّه.
ضمنت الشريعة الإسلامية للإنسان حقّ ممارسة أيّ عمل لتحصيل المال أو المنفعة، من الزراعة والصناعة والتجارة والشؤون الخدمية وغيرها، وجعلت له الحقّ في تحصيل
الأجر والربح الماديين عليه بطريقة غير مجحفة.
ولم تحظر الشريعة حقّ العمل وتلغيه إلّا في حالات قليلة بل نادرة ترجع إلى طبيعة العمل نفسه من حيث كونه مضرّاً بالفرد أو من حيث ما يلحقه من أذى أو ضرر بالجماعة والآخرين، فحرم العمل في مجالات الخمور والمسكرات والربا ونشر الفساد الأخلاقي وممارسة الظلم على الناس، وإنّما سلبت من الإنسان هذا الحقّ رعاية لحقّ الجماعة و
إرشاداً له إلى ما فيه صلاحه.
أعطت الشريعة الإنسان حقوقه الفكرية والثقافية، فوهبته حقّ التعلّم والتعليم، بل رغّبته في ذلك ومنحته الأجر والثواب الاخروي عليه أيضاً، كما كان لكلّ إنسان الحقّ في الحصول على المعرفة ضمن أيّ علمٍ من العلوم، ولا تحتكر العلوم والمعارف لصالح فريق دون آخر أو طبقةٍ اجتماعية دون اخرى، فللفقراء هذا الحقّ كما للأغنياء.
وضمنت الشريعة أيضاً حقّ الإنسان في النشاط الثقافي كالعمل المسرحي والتأليف والحوار والأعمال السينمائية والتلفزيونية والفنّ والجمال والشعر و
الموسيقى و
الأدب وغير ذلك، ولم تحظر عليه إلّابعض الموارد الموجبة للفساد الأخلاقي المفضي إلى ضرر المجتمع كافة، مثل:
الغناء والموسيقى الهابطة، وكذلك الأعمال الفنية الخلاعية والإباحية الناشرة للفساد والمدمّرة لحرمة الاسرة، وهكذا.
ومن حقّ كلّ إنسان أن لا يمنع من نشر فكره وأعماله الفكرية والثقافية وفق الاصول التي أشرنا إليها سابقاً.
الموسوعة الفقهية، ج۱۸، ص۱۶۷-۱۹۹.