لزوم تعدد غسل الآنية من ولوغ الكلب
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لقد ذهب أكثر العامّة إلى وجوب التعدّد في غسل الإناء من
ولوغ الكلب عدا مالك فاستحبّه. نعم وقع البحث بينهم في كون التعدّد تعبّداً أو لنجاسة الكلب أو لقذارته.
وأمّا عند فقهائنا فلا خلاف في
اشتراط التعدّد في الجملة، إلّا أنّه اختلفوا في عدد الغسلات على أقوال: قولٌ بالسبع، وقول بالمرّة بعد التعفير، وقول بالثلاث مطلقاً، وقول بالتفصيل بين الغسل بالقليل فثلاث والغسل بالكثير فيكفي المرّة، وقول رابع
بالتخيير .
اشتراط غسل الإناء من الولوغ سبعاً إحداهنّ بالتراب، واختاره
الاسكافي ،
وقوّاه الكاشاني.
واستدلّ عليه بما يلي:
۱-
النبوي المعروف: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهنّ بالتراب».
وفيه- مضافاً إلى انّه نبوي ضعيف السند- أنّه معارض بما في النبويين الآخرين، وهما: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله ثلاث مرّات».
وعن
الأعرج عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «في الكلب يلغ في الاناء انّه يغسله ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً».
وبما أنّ التخيير في تطهير المتنجّس بين الأقلّ والأكثر ممّا لا معنى له، فالرواية تدلّنا على أنّ المعتبر في تطهير الاناء هو الغسل ثلاث مرّات، والزيادة تكون مستحبة لا محالة،
فلا يتم
الاستدلال به على السبع.ولعلّه من هنا ذهب بعض إلى
استحباب الخمس.
۲- موثقة عمار انّه سأل
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن الاناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال: «تغسله سبع مرّات وكذلك الكلب».
ونوقش هذا الاستدلال بأنّ المذكور في الموثقة
ابتداء هو النبيذ، وقد حكم بوجوب غسل الاناء منه سبع مرات ثمّ شبّه به الكلب، وسيأتي لاحقاً أنّ الاناء إنّما يغسل من النبيذ ثلاث مرات، ولا يجب فيه السبع، ومعه لا بدّ من حمل الزائد على الاستحباب، وإذا كان هذا هو الحال في المشبّه به فلا محالة تكون الحال في المشبّه أيضاً كذلك، فلا يمكن الاستدلال بها على وجوب غسل الاناء من الولوغ سبع مرّات.
ولهذا ذهب غير واحد من القائلين بكفاية الثلاث إلى استحباب السبع.
۳- انّه أنجس من الجرذ، ويغسل الاناء له سبع مرّات.
ويردّ بما تقدّم من أنّه لا قطع بالأولوية، على أنّ فيه التعفير، بخلاف الجرذ.
اشتراط غسل الاناء من الولوغ ثلاثاً إحداهنّ بالتراب عند أكثر الأصحاب،
وهو المشهور،
بل ادّعي عليه
الإجماع ،
ولا خلاف فيه بين القدماء إلّا من الاسكافي.قال
السيد المرتضى : «وممّا انفردت به الامامية:
إيجابهم غسل الاناء من سؤر الكلب ثلاث مرّات إحداهنّ بالتراب.لأنّ أبا حنيفة لا يعتبر حدّاً في ذلك ولا عدداً، ويجري عنده مجرى إزالة سائر النجاسات.
والشافعي يوجب سبع غسلات إحداهنّ بالتراب.
ومالك لا يوجب غسل الاناء من سؤر الكلب، ويقول: إنّه مستحب؛ فإن فعله فليكن سبعاً، وهو مذهب داود.
وذهب الحسن بن حيّ وابن حنبل إلى أنّه يغسل سبع مرّات والثامنة بالتراب.
وقد تكلّمنا على هذه المسألة في مسائل الخلاف بما استوفيناه».
وقال
الشيخ الطوسي : «إذا ولغ الكلب في إناء وجب غسله ثلاث مرات إحداهنّ بالتراب، وهي من جملة الثلاث.وقال الشافعي: سبع مرات من جملتها الغسل بالتراب، وبه قال الأوزاعي،
وقال الحسن وأحمد: يجب غسل الاناء سبعاً بالماء وواحداً بالتراب، فيكون ثماني مرات».
واستدلّ له- مضافاً إلى الاجماع
- بما يلي:
۱- صحيح أبي العباس البقباق-
الفضل بن عبد الملك - قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن فضل الهرّة والشاة... حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: «رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماءيظهر من
مستند الشيعة : أنّ الصحيحة بحسب نقل المعتبر لا تشتمل على جملة «وأصبب ذلك الماء» مع أنّها موجودة في النسخ الرائجة اليوم، وفي كتب الأحاديث أيضا.،
واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء مرّتين» وقد رواها الشيخ في التهذيب والاستبصارمن دون كلمة «مرتين».
وفيه: «لا يتوضّأ».
بناء على ما نقله المحقق في المعتبر وقال
المحقق السبزواري في الذخيرة : «إلّا أنّ ذكره مرسلا يرفع الوثوق بالنسبة إلينا، فالتعويل عليه مشكل، إلّا أن يستعان فيه
بالاشتهار ».
بل نقله الشيخ أيضاً في موضع من الخلاف.
إلّا أنّ الرواية منقولة في كتب الحديث من دون لفظة «مرّتين»، فالزيادة محمولة على سهو القلم، قال السيد محمّد العاملي:«كذا وجدته فيما وقفت عليه من كتب الأحاديث، ونقله كذلك الشيخ رحمه الله في مواضع من الخلاف والعلّامة في المختلف،
إلّا أنّ المصنف رحمه الله في المعتبر نقله بزيادة لفظ «مرّتين» بعد قوله «ثمّ بالماء»، وقلّده في ذلك من تأخّر عنه. ولا يبعد أن تكون الزيادة وقعت سهواً من قلم الناسخ».
۲- انّه مقتضى الجمع بين صحيحة البقباق وموثّقة عمّار المتقدّمة في اشتراط الغسل ثلاثاً لتطهير الكوز والإناء القذر؛ لأنّ كلًاّ منهما تقيّد الأخرى من جهة.فصحيحة البقباق تقيّد الموثّقة في خصوص الكلب بلزوم التعفير أوّلًا بالتراب، والموثّقة تقيّد
الأمر بالغسل بالماء- الوارد في ذيل الصحيحة- بثلاث مرّات.وقد أنتج الجمع بين صحيحة البقباق وموثّقة عمّار بتقييد بعضها ببعض: أنّ الاناء المتنجّس بالولوغ لا بدّ من غسله ثلاث مرّات اولاهنّ بالتراب.
ثمّ إنّه بناءً على ما تقدّم من
اختصاص الموثّقة بالماء القليل بقرينة الصبّ من الإناء والتفريغ منه فلا محالة يكون تقييد الصحيحة بقدر ذلك لا أكثر، فلا يجب التعدّد بعد التعفير إلّا في الغسل بالماء القليل، لا المعتصم. وهذا مبنى القول بالتفصيل هذا، وقد احتاط بعضهم، قال السيد
الإمام الخميني : «ولا يترك
الاحتياط بالتعدّد أيضاً في غير المطر، وأمّا فيه فلا يحتاج إليه».
ويمكن أن يناقش في ذلك:
أوّلًا- بأنّ هذا يقتضي اشتراط الغسل بالماء ثلاثاً بعد الغسل بالتراب، لا مرّتين كما هو ظاهر، وقد صرّح بذلك بعضهم.
وثانياً- بأنّ الصحيحة حيث إنّها واردة في خصوص الكلب، والموثّقة في مطلق الإناء الذي فيه القذر، فالنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق من حيث الموضوع وإن كان مع لحاظ اطلاق الحكم وهو الأمر بالغسل مع الموضوع النسبة بينهما عموم من وجه، والميزان في الجمع العرفي بالتخصيص ملاحظة النسبة بين موضوع الدليلين لا من جميع الجهات، ومن هنا لا يحمل دليل الأمر باكرام النحوي على الاستحباب بقرينة الدليل العام الدالّ على عدم وجوب
إكرام كلّ عالم وإن كانت دلالة الأمر من باب
الإطلاق وبمقدمات الحكمة.
وثالثاً- لو سلّمنا لزوم ملاحظة النسبة بين الدليلين من مجموع الموضوع والحكم فمع ذلك قلنا بوقوع
التعارض بين الحديثين والتساقط والرجوع في مورد التعارض- وهو الغسل بالماء بعد التعفير بالتراب- إلى المطلقات الفوقانية، وهي أوامر الغسل الواردة في مطلق النجاسات أو في خصوص
آنية الولوغ، كصحيحة محمّد بن مسلم: «سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء» وهي تقتضي كفاية الغسل مرّة واحدة.
ودعوى: أنّ ثبوت الغسل ثلاثاً في مطلق النجاسة يستلزم بطريق أولى ثبوته في الكلب الذي هو نجس أيضاً.مدفوعة: بأنّ هذا إنّما يتم لو لا لزوم
التعفير في الولوغ، وأمّا معه فلعلّه يكفي عن تعدّد الغسل بالماء، فلا يحتاج إليه.فإن تمّ أحد هذين الوجهين، ظهر مبنى القول الآتي بكفاية الغسل بالماء بعد التعفير مرّة واحدة بلا فرق بين القليل والمعتصم.
الاكتفاء بالمرّة بعد التعفير بلا فرق بين الماء القليل والمعتصم، ومال إليه في المدارك
- متأثّراً بما أثاره استاذه الأردبيلي
- وتبعه تلميذه السبزواري،
وكذلك الشهيد الصدر في تعليقته فاحتاط فيما زاد على المرّة،
وإن تبع المشهور في رسالته من لزوم الثلاث.
قال
السيد العاملي - بعد أن لم يستبعد كون ورود لفظ «مرّتين» في الرواية سهواً من قلم الناسخ-: «ومقتضى إطلاق الأمر بالغسل:الاكتفاء بالمرّة الواحدة بعد التعفير، إلّا أنّ ظاهر المنتهى وصريح الذكرى انعقاد الإجماع على تعدد الغسل بالماء، فإن تمّ فهو الحجة، وإلّا أمكن
الاجتزاء بالمرّة؛ لحصول
الامتثال بها».
وقال المحقق السبزواري: «... فلم يبق إلّا الإجماع فإن تمّ كان هو الحجة، وإلّا لم يتم الحكم بوجوب الثلاث».
وقال الشهيد الصدر: «عدم كفاية الغسلة الواحدة بالماء مبنيّ على الاحتياط».
لكنه قال في رسالته العملية: «الوعاء الذي يستعمل في الطعام والشراب إذا ولغ فيه الكلب أو شرب منه أو لطع فيطهر إذا غسل بالتراب الطاهر الممزوج بشيء من الماء ثمّ غسل بالماء القليل مرّتين».
ودليل ذلك هو التمسّك بصحيح
البقباق المتقدّم؛ فإنّ مقتضى إطلاق الأمر بالغسل فيها الاكتفاء بالمرّة الواحدة بعد التعفير، لحصول الامتثال بها، بناء على عدم ورود لفظ «مرّتين» في الرواية، كما في التهذيب والاستبصار.
ونوقش:
أوّلًا- وجود لفظ «مرّتين» بناء على نقل المحقق والعلّامة
والشيخ في الخلاف، ولعلّهم عثروا عليه فيما عندهم من الأصول، وخصوصاً بالنسبة للمحقق؛ إذ هو غالباً يروي عن أصول ليس عندنا منها إلّا أسماؤها.فدغدغة وتشكيك البعض كصاحب المدارك تبعاً لُاستاذه بالنسبة إلى ذلك من حيث خلوّ الصحيح عنه في الأصول في غير محلّها قطعاً، وخصوصاً بعد تأييد ذلك الصحيح أيضاً بما في الرضوي- كما عن رسالة
الصدوق ومقنع
ولده وفقيهه
-: «إن ولغ الكلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء وغسل الاناء ثلاث مرّات: مرّة بالتراب، ومرّتين بالماء، ثمّ يجفّف»،
وفيه: «وإن وقع كلب». وبالعاميين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويلاحظ عليه: أنّ نقل المحقق- وغيره- للحديث في كتابه الفقهي لا يجدي نفعاً؛ فإنّه من المطمأنّ به أنّه ينقله عن كتب الحديث الأربعة المعروفة، وليس فيها كلمة «مرّتين».ولو فرض احتمال نقله عن اصول عنده ليس عندنا منها إلّا أسماؤها فلا نعرف طريقهم إليها، ومعه يكون مرسلًا.
وأمّا
الاستشهاد بما في الرضوي وبما عند العامّة فهو كما ترى لا يصحّح سند الحديث.على أنّه لو فرض وجود طريق معتبر أو نسخة معتبرة للمحقق إلى الحديث بالنحو الذي ينقله في كتابه الفقهي وقع التعارض بينه وبين ما هو في كتب الحديث المعتبرة، وفي موارد الدوران بين الزيادة والنقيصة وإن قيل بتعيّن الأخذ بالزيادة لأنّ الغفلة عن النقيصة أكثر من الغفلة عن الزيادة إلّا أنّه في خصوص المقام حيث إنّ الحكم الفقهي المشهور- بل المدّعى عليه الإجماع- لزوم الغسل مرّتين يكون احتمال السهو والغفلة وزيادة كلمة «مرّتين» خصوصاً في الكتاب الفقهي أكثر.
وثانياً- نوقش في الاستدلال بما تقدّم من القول السابق من أنّ الصحيحة مقيّدة بموثّق عمّار الوارد في نجاسة الإناء بمطلق القذارة. فيجمع بينهما بما ينتج القول الثاني. وتقدّم هذا البيان مع الملاحظة عليه.
وثالثاً- تقييد الصحيحة بالإجماع المدّعى من قبل البعض على لزوم التعدّد مرّتين بعد التعفير، حتى أنّ الشيخ حكى الاجماع على وجوبهما، بل لم يفتِ أحد بالاكتفاء بالمرّة، بل لعل ذلك مخالف لشعار
الشيعة .وهذا الاجماع لو جزمنا به ولم نحتمل مدركيته- وأنّ مبنى المجمعين هو الجمع بين الروايات والأدلّة المتقدّمة- كان هو العمدة في القول بوجوب الغسل بالماء مرّتين بعد التعفير، وإلّا كان مقتضى اطلاق الصحيحة بل وسائر مطلقات الغسل كفاية الغسل مرّة واحدة بعد التعفير.
التخيير، وقد مال إليه في
جامع المدارك ؛ للجمع بين الروايات، حيث قال: «فالأولى أن يجمع بين الطرفين بالتخيير، فإن اختار التعفير يكتفي بالغسل مرّة أو مرّتين، وإلّا فلا بدّ من الغسل سبع مرّات».
ويلاحظ عليه:- مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ دليل الغسل سبع مرّات محمول على
الاستحباب في نفسه؛ لوروده في
آنية الخمر - أنّ الصحيحة صريحة في لزوم التعفير بالتراب مرّة قبل الغسل بالماء سواءً كان اللازم غسله مرّة أو مرّات، فتكون مقيدة لها، خصوصاً في مثل هذا الأمر الارشادي، فلا مجال في المقام للحمل على التخيير كما في موارد الأوامر التكليفية.
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۴۲۸-۴۳۵.