نية الاعتكاف
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لمّا كان
الاعتكاف عِبادة ؛
فالنيّة لازمة فيه كما في غيره من العبادات.
لا يصحّ الاعتكاف من غير نيّةٍ، سواء أكان الاعتكاف
مستحبّاً أم
واجباً ،
فلابد وأن ينوي اللبث الخاص في
المسجد للعبادة.
وقد نفي الخلاف عن أصل لزوم النية في الاعتكاف، بل ادّعي عليه
الإجماع .
واستدلّ عليه- مضافاً إلى الإجماع وارتكاز المتشرّعة- بأنّه فعل يقع على وجوه مختلفة، فلا يختصّ بأحدها إلّا بواسطة النيّة التي تخلص بعض الأفعال أو الوجوه والاعتبارات عن بعض.
وهذا واضح.
وإنّما البحث عند
الفقهاء في كفاية نية اللبث في المسجد كعبادة مستقلة في الاعتكاف أو لابد من نية اللبث مقدمة لعبادة اخرى من ذكر وقراءة
قرآن أو
دعاء ؟ فيه قولان:
ذهب جمع من الفقهاء إلى الثاني، فلو قصد اللبث مجرّداً عن قصد العبادة أو العبادة مجرّداً عن اللبث لم يكن معتكفاً،
وكذلك لو قصد ما يكون عبادة بالعارض كالاكتساب الراجح
وعقد النكاح ونحو ذلك.
وصرّح جمع آخر بالأوّل.
قال
المحقق النجفي : «إنّ المراد من قوله (
المحقق الحلي ) : (اللبث للعبادة) كون اللبث على وجه التعبّد به نفسه، فلا يتوهّم شمول اللبث لعبادة خارجية كقراءة قرآن ونحوها، بل لا يتوهّم أنّ المعتبر في الاعتكاف قصد كون اللبث لعبادة خارجة عنه بحيث لا يجزي الاقتصار على قصد التعبّد به خاصة؛ ضرورة ظهور النصوص
والفتاوى في مشروعيته لنفسه، من غير اعتبار ضمّ قصد عبادة اخرى معه».
واستدلّ
له بظاهر قوله تعالى:
«وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».
ويستشعر ذلك أيضاً من بعض الأخبار، كرواية
داود بن سرحان ، قال: كنت بالمدينة في شهر
رمضان ، فقلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اريد أن أعتكف فماذا أقول؟
وماذا أفرض على نفسي؟ فقال: «لا تخرج من المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها، ولا تقعد تحت ظلال حتى تعود إلى مجلسك»،
فإنّ ظاهرها السؤال عن حقيقة الاعتكاف، فلم يجبه بأكثر من
العزم على اللبث.
وتظهر الثمرة فيما لو أراد الاعتكاف مقتصراً على أقلّ الواجب- أعني الفرائض اليوميّة- فإنّه يصحّ على الأوّل دون الثاني.
هل يشترط التلفّظ بالنيّة أم يكفي النيّة في القلب؟
صرّح بعض الفقهاء باستحباب التلفّظ بها.
بعد الفراغ عن لزوم نية القربة في صحّة الاعتكاف وقع الكلام في ضرورة إضافة نيّة الوجه من الوجوب أو
الندب إليها، وكان هنا قولان:
الأوّل: أنّه لا يعتبر فيه قصد الوجه كما في غيره من العبادات، بل يكفي نيّة القربة خاصّة،
وعلى هذا القول لا حاجة إلى تجديد نيّة الوجوب للدخول في اليوم الثالث، أو
لنذر الإتمام ، والالتزام به بأيّ نحو كان بعد الدخول فيه. الثاني: أنّه تشترط فيه نيّة الوجه من الوجوب أو الندب، والتقرّب إلى اللَّه سبحانه وتعالى؛
لأنّ الفعل صالح للوجوب والندب والتقرّب
واليمين أو منع النفس أو
الغضب ، فلا بدّ من التقرّب والوجه.
وعلى هذا القول يلزم تجديد نيّة الوجوب في اليوم الثالث، كما صرّح به جماعة من الفقهاء.
ثمّ إن أراد أن ينوي الوجه ففي الواجب منه ينوي الوجوب، وفي المندوب الندب،
ويجوز نيّة الندب للثلاث أجمع.
ولا يقدح في ذلك كون اليوم الثالث الذي هو جزء منه واجباً؛ لأنّه من أحكامه، فهو نظير
النافلة إذا قلنا بوجوبها بعد الشروع فيها. لكنّ الأولى ملاحظة ذلك حين الشروع فيه، بل تجديد نيّة الوجوب فى اليوم الثالث.
ولو نوى الوجوب في المندوب أو الندب في الواجب
اشتباهاً لم يضرّ؛ لأنّ
الخطأ في التطبيق لا يكون قادحاً في الصحّة.
يشترط
استمرار النيّة حكماً، فلو خرج لقضاء حاجة أو لغيره استأنف النيّة عند الرجوع على القول
ببطلان الاعتكاف بالخروج، وإلّا فلا.
ولا ينافي استمرار حكمها لو عارضه
النوم أو
الغفلة أو النسيان بعد انعقاد النيّة.
وأمّا لو نوى قطع الاعتكاف فإنّه يبطل، بناءً على ما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من أنّ مجرّد نيّة القطع يوجب بطلان العمل العبادي من جهة استلزامه ارتفاع نيّة العمل أو ارتفاع استمراريتها، وهي شرط في صحّة العبادات.
وهناك وجوه وأقوال اخرى، من قبيل التفصيل بين نيّة القطع من حينه وبين أن ينويه في زمان متأخّر، أو التفصيل بين العمل الموصول
كالصلاة والمفصول
كالوضوء والغسل .
العدول عن اعتكاف إلى آخر:
لا يجوز العدول بالنيّة عن اعتكاف إلى غيره مع اختلافهما في الوجوب والندب واتّحادهما. ولا عن نيابة
ميّت إلى غيره».
واستدلّ عليه بأنّ صحّة المعدول إليه خلاف الأصل؛ لاعتبار النيّة في العبادة حدوثاً وبقاءً.
وأمّا إذا نوى الوجوب في المندوب أو الندب في الواجب اشتباهاً- في الاعتكاف أو غيره من الامور العبادية- فقد ذهب بعض الفقهاء إلى التفصيل بين كون الاشتباه في التطبيق وكون الداعي هو الأمر الواقعي المتوجّه إليه إلّا أنّه تخيل وجوبه مع كونه ندبياً أو العكس فلا بأس ويصح منه، ومع كونه على وجه التقييد فلا يصح؛ لعدم
امتثال الأمر المتوجّه إليه واقعاً،
وإتيانه بداعي الأمر التخيّلي وهو لا يوجب
الإجزاء .
وذهب بعض آخر إلى الصحّة مطلقاً؛ إذ لا أثر للتقييد في المقام، فإنّ مورده ما إذا كان هناك كلّي ذو حصص ليقبل التضييق والتقييد بحصّة دون اخرى، كما لو صلّى بعنوان
الأداء ثمّ بان أنّه قد صلّاها فإنّها لا تحسب
قضاء ؛ لأنّه قيد الطبيعي بحصة خاصة، فلا يقع عن غيرها إلّا إذا كان ناوياً للأمر الفعلي، واعتقد أنّه الأداء، فإنّها تحسب حينئذٍ عن القضاء ويكون من باب الاشتباه في التطبيق، ونحوه في باب المعاملات فيما لو باع مقيّداً بصفةً ولم يتّصف.
وأمّا الجزئي الخارجي فلا توسعة فيه كي يقبل التضييق كما في المقام؛ فإنّ الاعتكاف الصادر منه جزئي خارجي قد تحقّق سواء أكان واجباً أم مندوباً، فلا معنى لإناطة وجوده بتقدير دون تقدير كي يقبل التقييد، فالتخلف فيه يكون دائماً من باب الاشتباه في التطبيق.
ذكر غير واحد أنّ وقت النيّة في ابتداء الاعتكاف أوّل
الفجر من اليوم الأوّل،
بمعنى عدم جواز
تأخيرها عنه، فإذا استيقظ عند طلوع الفجر ونواه فاقترنت النيّة بطلوع الفجر صحّ، أمّا لو عرضه النوم ولم يستيقظ إلّا بعد طلوع الفجر ففي الصحّة إشكال.
وقالوا أيضاً: يجوز أن يشرع فيه في أوّل الليل أو في أثنائه، فينويه حين الشروع،
وهو مبدأ الاعتكاف، فلا يضرّه النوم بعدئذٍ قطعاً كالنوم الحاصل خلال الثلاثة، وقد تحقّقت المقارنة حينئذٍ.
ولا شكّ في صحّة مثل هذا الاعتكاف؛ لأنّه لا يكون أقلّ من ثلاثة أيّام.
وقال
السيد الگلبايگاني : «بل
الأحوط إدخال الليلة الاولى أيضاً، والنيّة من أوّلها».
ولو ذهب إلى
المسجد ليلًا ونوى أن يبدأ الاعتكاف عند
طلوع الفجر وينام ويصبح معتكفاً، قال بعض
الفقهاء : إنّ في
الاكتفاء بهذا النحو من النيّة إشكالًا، ثمّ أضاف: «وبالجملة: فاللبث في المسجد حال النوم مع سبق النيّة مثل
الوقوف بعرفة حال النوم مع سبقها في صحّة
الإسناد والاجتزاء في مقام الامتثال، ومنه تعرف أنّ النصّ الوارد في
الصوم وأنّه لا يضرّه النوم مطابق لمقتضى القاعدة... نعم، لو نام في بيته ثمّ حمل إلى المسجد وبقي فيه نائماً إلى الفجر لم يكف وإن كان من نيّته الذهاب والمكث قبل أن ينام، بل إنّ هذا أوضح إشكالًا من الفرض الأوّل».
ونسب
الشهيد الثاني إلى
العلّامة الحلّي وجماعة أنّ مبدأ النيّة
الغروب ، ثمّ قال:
«وهو أولى، وأكمل منه أن يجمع بين النيّة عند الغروب وقبل الفجر».
وقال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء :
«ويكفي التبييت على الأقوى، ومن أراد تمام
الاحتياط حافظ على أن يكون عند الفجر داخل المسجد متيقّظاً؛ ليقارن الفجر بنيّته بعد أن يكون نوى مقارناً للغروب، ويكفي ظنّ الغروب وطلوع الفجر مع وجود علّة في السماء، وفيمن فرضه التقليد
كالأعمى ، ومن له مانع عن العلم، وفي غيرهما لابدّ من العلم أو ما يقوم مقامه».
وعلى كلّ حال، فالمسألة متفرّعة على الخلاف في مبدأ الاعتكاف وفي دخول الليلة الاولى فيه وخروجه، فعلى القول بخروجها فمبدأ نيّة الاعتكاف أوّل الفجر من اليوم الأوّل، وعلى القول بدخولها فمبدأ النيّة عند غروب الليلة الاولى.
لو شكّ في أصل النيّة بنى على الصحّة إن كان
كثير الشك ، وإلّا فلا. وكذا لو شكّ في شيء وقد دخل في غيره أو شكّ بعد
الفراغ ،
كما هو الحال في سائر العبادات.
لا يصحّ
التوكيل في الاعتكاف بحال.
لكن تصحّ
النيابة عن الغير في الجملة، وهو ما نبحثه وفق الترتيب التالي:
صرّح الفقهاء بجواز نيابة الاعتكاف عن الميّت، كما في غيره من
العبادات .
أمّا النيابة عن الحيّ، فقد اختلفوا في جوازها على قولين:
أحدهما: المنع.
واستدلّوا عليه بأنّ
الاستنابة في ذلك على خلاف مقتضى القواعد؛ فإنّ الخطابات المتعلّقة بالتكاليف الوجوبيّة أو الندبيّة متوجّهة نحو ذوات المكلّفين، فيلزمهم التصدّي لامتثالها بأنفسهم ماداموا أحياء.
ثانيهما: الجواز، وقوّاه جماعة من الفقهاء.
واستدلّ عليه بالنصوص الدالّة على مشروعيّة النيابة عن الحيّ:
منها: رواية
علي بن أبي حمزة البطائني ، قال: قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: أحجّ واصلّي وأتصدّق عن الأحياء والأموات من قرابتي وأصحابي؟ قال: «نعم، تصدّق عنه، وصلّ عنه، ولك أجر
بصلتك إيّاه».
ومنها: رواية
محمد بن مروان ، قال: قال
أبو عبد اللَّه عليه السلام: «ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيّين وميتين يصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما وله مثل ذلك، فيزيد اللَّه عزّوجلّ ببرّه وصلته خيراً كثيراً».
لكن نوقش في
الرواية الاولى بأنّها ضعيفة سنداً ب (عليّ بن أبي حمزة).
وفي الثانية بأنّها ضعيفة سنداً ودلالة، أمّا سنداً فب (محمد بن مروان)؛ لأنّه مردّد بين
الثقة والضعيف، وأمّا دلالةً فقد قال
السيد الخوئي : «فإنّها (الدلالة) تتوقّف على أن يكون مرجع ضمير التثنية (والديه) ليعمّ الحيّ والميّت، وهو غير ظاهر؛ لجواز الرجوع إلى الأقرب- أعني (ميّتين) - كما يساعده الاعتبار؛ فإنّ مصاديق البرّ بهما حيّين واضح، وإنّما الذي يحتاج إلى التنبيه لخفائه هو البرّ وهما ميّتان، فذكر عليه السلام: أنّه
الصلاة والصيام والتصدّق ونحوها، إذاً لا دلالة فيها على جواز النيابة عن الحي بوجه».
وعلى القول بجواز النيابة عن الحيّ فلا يضرّ اشتراط الصوم فيه؛ لأنّه تبعي، وإلّا فحقيقة الاعتكاف هي نفس اللبث، فلا مانع من الاستنابة فيه، فالصوم في الاعتكاف كالصلاة في الطواف الذي يجوز فيه النيابة عن الحيّ.
لكن ردّ بأنّ قياس صوم الاعتكاف
بصلاة الطواف لا يخلو من إشكال؛ لأنّ الصلاة لابدّ من
الإتيان بها بعنوان كونها مضافة إلى الطواف، وليس كذلك صوم الاعتكاف؛ إذ يكفي فيه الصوم ولو بعنوان كونه صوم شهر رمضان.
يظهر من بعض الفقهاء عدم جواز النيابة عن أكثر من واحد في اعتكاف واحد؛
استناداً إلى أنّ النيابة عن الغير أمر مخالف للقاعدة، والمتيقّن ممّا يستفاد من الأدلّة على مشروعيّة النيابة هي النيابة عن شخص واحد، أمّا الزائد عليه فيحتاج إلى قيام الدليل على قبول الفعل الواحد للاشتراك، وقد قام الدليل عليه في باب
الزيارات ، وفي
الحج المندوب، فيجوز النيابة فيهما عن شخص أو أشخاص ولم يثبت فيما عداهما، ومقتضى الأصل عدم المشروعيّة، فمجرّد عدم الدليل كافٍ في الحكم بالعدم؛ استناداً إلى الأصل.
نعم، يجوز ذلك بعنوان إهداء
الثواب ، فيصحّ
إهداؤه إلى متعدّدين أحياء أو أمواتاً أو مختلفين.
صرّح جماعة من الفقهاء بعدم جواز
التعليق في الاعتكاف، فلو علّقه بطل، إلّا إذا علّقه على شرط معلوم الحصول حين النيّة فإنّه في الحقيقة لا يكون من التعليق؛
وذلك لأنّ المنصرف من الروايات لزوم صدور الاعتكاف على سبيل
التنجيز ، وعمدتها صحيحة
داود بن سرحان قال: كنت بالمدينة في شهر
رمضان فقلت
لأبي عبد اللَّه عليه السلام: إنّي اريد أن أعتكف فماذا أقول وماذا أفرض على نفسي؟ فقال: «لا تخرج من
المسجد إلّا لحاجة لابدّ منها...».
حيث يستفاد منها أنّ المعتكف لابدّ وأن يفرض شيئاً على نفسه، ومن الواضح أنّ الذي يعلّق لم يفرض على نفسه شيئاً، بل التزم على تقدير دون تقدير، فلا يصدق أنّه فرض على نفسه، ولأجله يحكم
بالبطلان ؛ لعدم الدليل على صحّة مثل هذا الاعتكاف.
ويستدلّ له أيضاً بأنّ التعليق في الأفعال الخارجية الصادرة من
المكلّفين كالشرب والاقتداء والضرب ونحو ذلك أمر غير معقول؛ إذ لا معنى لأن يشرب هذا المائع معلّقاً على كونه ماءً، بداهة أنّ الشرب جزئي خارجي دائر أمره بين الوجود والعدم، فإمّا أن يشرب أو لا يشرب، ومع الشرب فقد تحقّق هذا المفهوم خارجاً سواء أكان المشروب ماءً أم غير ماء، فلا معنى لتعليق شربه الخارجي على تقدير دون تقدير.
وهذا بعينه يجري في المقام أيضاً؛ لمنافاته لحصول النيّة المعتبرة في العبادات، فإنّ الاعتكاف- أعني نفس اللبث- فعل خارجي لا يقبل التعليق.
لكن نوقش في ذلك بأنّ الامتثال الرجائي نوع من الامتثال كالامتثال الجزمي. وقياس المقام على العقود والإيقاعات التي يبطلها التعليق في غير محلّه؛ لأنّه مع الفارق، وهو
الإجماع المنعقد هناك، الذي لأجله قيل ببطلان
الإنشاء المعلّق إلّا في بعض الموارد، ولولاه كان القول بالصحة كلّيّاً صحيحاً لا غبار عليه».
يجوز للمعتكف بل يستحبّ له أن يشترط في اعتكافه
الرجوع متى أراده، فيشترط
الإحلال متى شاء، أو يشترط ذلك إذا حصل ضارّ أو مانع على خلاف الآتي،
وادّعي عليه الإجماع،
بل ادّعي اتّفاق كلمة الأصحاب على
استحبابه .
ولا فرق في جواز
الاشتراط بين الواجب وغيره؛ للإطلاق والأصل.
ويستدلّ
عليه- مضافاً إلى عموم «المؤمنون عند شروطهم»
- بالأخبار المتظافرة:
منها: ما ورد عن
عمر بن يزيد عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «إذا اعتكف العبد فليصم»، وقال: «لا يكون اعتكاف أقلّ من ثلاثة أيّام، واشترط على ربّك في اعتكافك كما تشترط في
إحرامك ، أنّ ذلك في اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علّة تنزل بك من أمر اللَّه».
ومنها: ما رواه
أبو بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في
حديثٍ - قال: «وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم».
لم يذكر الفقهاء صيغة خاصّة للاشتراط في الاعتكاف المندوب، أمّا الاشتراط في الاعتكاف المنذور فصيغته أن يقول: (للَّه عليَّ أن أعتكف بشرط أن يكون لي الرجوع عند عروض كذا أو مطلقاً)، كما صرّح به جمع من الفقهاء.
قال
الشيخ جعفر كاشف الغطاء :
«وصورة الاشتراط على الأفضل- بعد أن يقول: أعتكف في هذا المكان أو المسجد ثلاثة أيّام مع ما بينها من الليالي أو أربعة أو خمسة، وهكذا- وأشترط على ربّي أن يحلّني متى شئت، وإن قيّده بالعارض قال: أشترط على ربّي إن صدّني صادّ أو منعني مانع أن يحلّني حيث حبسني، ومن لم يحسن يتابع غيره بعد فهم المعنى».
ذهب المشهور
إلى جواز اشتراط الرجوع حتى في اليوم الثالث،
واستدلّ له بمفهوم صحيح
ابن مسلم ، عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيّام».
فإنّه يدلّ على جواز
الفسخ في ما إذا أقام يومين مع الاشترط.
لكن ذهب
الشيخ الطوسي في
المبسوط إلى منعه في اليوم الثالث؛
نظراً إلى وجوبه حينئذٍ وعدم جواز رفع اليد عنه، ومثله لا يقع مورداً للشرط.
ويستدلّ له بإطلاق ما دلّ على المنع عن الخروج بعد مضيّ يومين، فإنّه يشمل ما إذا كان مع الاشتراط، ففي صحيحة
أبي عبيدة الحذّاء عن الإمام الباقر عليه السلام قال:
«من اعتكف ثلاثة أيّام فهو يوم الرابع بالخيار إن شاء زاد ثلاثة أيّام اخر، وإن شاء خرج من المسجد، فإن أقام يومين بعد الثلاثة فلا يخرج من المسجد حتى يتمّ ثلاثة أيّام اخر».
ونوقش فيه بأنّ عمدة المستند في وجوب اليوم الثالث إنّما هي صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة، وهي في نفسها مقيّدة بعدم الاشتراط، قال عليه السلام: «وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ...».
فما ذكره الشيخ الطوسي من التخصيص بالأوّلين والمنع عن الثالث لم يعلم وجهه أبداً.
وأمّا اليومان الأوّلان فله الفسخ بدون الشرط إلّا أن يكون قد اشترط
الاستمرار كما اشير إليه في هذه الصحيحة.
اختلف الفقهاء في اختصاص اشتراط الرجوع بصورة وجود
العذر أو أنّ له ذلك متى شاء حتى بلا سبب عارض.
ظاهر جماعة منهم جواز الاشتراط مطلقاً من غير اختصاص بالعذر؛
استناداً إلى صحيحة محّمد بن مسلم المتقدّمة، حيث إنّ مفهومها جواز الرجوع مع الشرط، وهو مطلق من حيث العذر وعدمه.
وصحيحة
أبي ولّاد الحنّاط قال: سألت
أبا عبد اللَّه عليه السلام عن امرأة كان زوجها غائباً فقدم وهي معتكفة بإذن زوجها فخرجت حين بلغها قدومه من المسجد إلى بيتها فتهيّأت لزوجها حتى واقعها؟ فقال: «إن كانت خرجت من المسجد قبل أن تنقضي ثلاثة أيّام ولم تكن اشترطت في اعتكافها فإنّ عليها ما على المظاهر».
ومن المعلوم أنّ حضور الزوج
والشوق إلى المواقعة ليس ممّا يعدّ عذراً يسوغ به الخروج، بل الخروج بسببه خروج اختياري تبرّعي بلا سبب.
ونسب
إلى جماعة اختصاص اشتراط الرجوع بصورة وجود العذر،
وجوّزه في
المدارك .
ويستدلّ لذلك
بروايتين :
إحداهما: صحيحة
أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السلام- في حديث- قال: «وينبغي للمعتكف إذا اعتكف أن يشترط كما يشترط الذي يحرم».
ومعلوم أنّ المحرم يشترط الإحلال مع العذر، وأنّه يتحلّل عند ما حبسه اللَّه.
ثانيهما: موثقة
عمر بن يزيد عنه عليه السلام أيضاً- في
حديث - قال: «واشترط على ربّك في اعتكافك كما تشترط في
إحرامك أن يحلّك من اعتكافك عند عارض إن عرض لك من علّة تنزل بك من أمر اللَّه تعالى».
ونوقش فيه:
أوّلًا: أنّه مخالف لصحيح أبي ولّاد؛ فإنّ حضور الزوج ليس عذراً قطعاً، ولا سيّما مع
التصريح فيه بوجوب
الكفّارة للفسخ معه بلا شرط، وموجب لإلغاء فائدة الشرط، وهو خلاف ظاهر النصوص.
وثانياً: أنّه مخالف لإطلاق صحيح
ابن مسلم ، ولا مجال لحمل المطلق على المقيّد فى المقام؛ لعدم التنافي بينهما. بل لعلّ الصحيح المذكور كالنص فى غير العارض؛ للمقابلة فيه بين اليومين الأوّلين والثالث؛ إذ لو كان المراد منه خصوص صورة العذر لم يكن فرق بينهما، فالتقابل بينهما إنّما هو في جواز الفسخ في اليومين الأوّلين بلا عذر، وعدم جوازه في الثالث كذلك. ولأجل أنّ المفهوم تابع للمنطوق يختصّ مفهومه أيضاً بصورة عدم
العذر .
اختلف الفقهاء في المراد من (العارض) في أنّه هل هو خصوص العذر المجوّز لفسخ الاعتكاف كما في الإحرام مثل المرض ونحوه ممّا لا يكون
اختيارياً ، أو مطلق ما يعرض للإنسان وإن لم يكن مجوّزاً للفسخ؟
ظاهر بعضهم الأوّل،
لكن في الواجب لا المندوب؛ لأنّه يمكن تجويز الشرط فيه على الإطلاق.
وظاهر بعض آخر الثاني.
قال
السيد العاملي : «لكن ينبغي أن يراد بالعارض ما هو أعمّ من العذر، كما تدلّ عليه صحيحة أبي ولّاد (المتقدّمة) عن
الصادق عليه السلام: وقد سأله عن امرأة معتكفة بإذن زوجها وهو غائب، فلمّا بلغها قدومه خرجت من المسجد وتهيّأت له حتى واقعها؟ فقال: «إن كانت خرجت من المسجد قبل أن تمضي ثلاثة أيّام ولم تكن اشترطت فإنّ عليها ما على المظاهر»، دلّت الرواية بظاهرها على سقوط الكفّارة عن المرأة والحال هذه مع الاشتراط، مع أنّ حضور الزوج ليس من الأعذار المسوّغة للخروج من الاعتكاف. نعم، هو من جملة العوارض. ويدلّ عليه أيضاً قوله عليه السلام في صحيحة ابن مسلم (المتقدّمة) : «إذا اعتكف يوماً ولم يكن اشترط فله أن يخرج ويفسخ الاعتكاف، وإن أقام يومين ولم يكن اشترط فليس له أن يفسخ اعتكافه حتى يمضي ثلاثة أيّام»، فإنّه يدلّ بظاهره على أنّ للمعتكف فسخ الاعتكاف بعد اليومين مع الاشتراط لا بدونه، والفرق إنّما يظهر إذا لم يكن المقتضي للخروج أمراً ضروريّاً مسوّغاً للخروج بنفسه، وإلّا جاز مع الشرط وبدونه كما هو واضح».
لا فرق في جواز
الاشتراط بين الاعتكاف الواجب وغيره، لكن إذا كان الاعتكاف متبرّعاً به فمحلّه عند نيّة الاعتكاف والدخول فيه»، فلا اعتبار بالشرط قبل نيّة الاعتكاف أو بعد الشروع فيه وإن كان قبل الدخول في اليوم الثالث.
واستدلّ عليه بظاهر الأخبار.
وأمّا إذا كان منذوراً فقد صرّح جملة من الفقهاء بأنّ محلّه هو وقت
عقد النذر.
قال
الفاضل النراقي : «محلّه (الاشتراط) في الواجب وقت النذر وأخويه لا وقت الشروع... وإنّما خصّ المنذور بوقت النذر؛ لأنّ خلوّ النذر عن هذا الشرط يقتضي لزومه وعدم سقوطه، فلا يؤثّر الشرط الطارئ، سيّما مع تعيّن زمانه».
واستشكل بعضهم في كفاية ذكر الشرط في النذر؛ استناداً إلى عدم ورود نصّ فيه، والنصّ الوارد يختصّ بالشرط في الاعتكاف المندوب، فبناءً على ذلك قالوا:
لا يترك
الاحتياط بذكر ذلك الشرط حال الشروع في الاعتكاف أيضاً.
ولو شكّ في أصل الاشتراط أو العارض المشروط بعد الدخول بنى على أصل العدم.
فائدة هذا الشرط أنّه لو قلنا بجواز اشتراط الخروج من الاعتكاف مطلقاً ولم نقيّده بعروض العارض، فيجوز الخروج من الاعتكاف عند العارض أو متى شاء وإن مضى يومان أو كان واجباً بالنذر وشبهه أو مندوباً.
قال السيّد العاملي: «وفائدته جواز الرجوع عند العارض أو متى شاء- على ما هو ظاهر اختيار المصنّف- وإن مضى اليومان أو كان واجباً بالنذر وشبهه، ولو خصّصنا اشتراط الرجوع بالعارض وفسّرناه بالعذر الطارئ بغير اختياره
كالمرض والخوف انتفت هذه الفائدة؛ لجواز الرجوع والحال هذه مع الشرط وبدونه».
ولو خصّصنا اشتراط الرجوع بعروض عارض وقلنا: إنّه مطلق العارض فيجوز الخروج بعروض مطلق العارض، وإن كان اختياريّاً.
وإن قيّدناه بكونه عارضاً خارجاً عن الاختيار كالمرض والخوف ونحوهما من الأعذار الموجبة
لفسخ الاعتكاف، فلم تبق ثمرة للاشتراط؛ لأنّه يجوز الخروج بتلك الأعذار من الاعتكاف وإن لم يشترط ذلك عند الدخول فيه.
وتظهر الفائدة أيضاً في سقوط
القضاء إذا اشترط الرجوع في الاعتكاف المندوب والواجب المعيّن- وهو الاعتكاف المنذور إيقاعه في زمان معيّن- فلو خرج من الاعتكاف مع اشتراطه لم يجب عليه القضاء،
ولا يترتّب عليه أيضاً إثم ولا حنث.
وأمّا الواجب المطلق- وهو الاعتكاف المنذور من دون تعيين زمان لإيقاعه فيه- ففي وجوب
الاستئناف فيه وعدمه قولان:
الأوّل: الوجوب، كما ذهب إليه بعض الفقهاء،
ونسب إلى
الشهيد الأول .
الثاني: عدم الوجوب، كما قال به جمعٌ من الفقهاء.
والظاهر من كلام
ابن إدريس أنّه يبني على ما خرج منه فيتمّه ولا يستأنفه.
ولو لم يشترط وجب استئناف ما نذره إذا قطعه مع التعيّن، ومع عدمه يبني على ثلاثة ثلاثة.
هل الشرط في المقام من قبيل الحقوق القابلة
للإسقاط كما في باب
العقود والإيقاعات أو لا؟ فيه قولان:
الأوّل: عدم السقوط، اختاره بعض الفقهاء.
إلّا أنّ
السيد اليزدي بعد اختياره عدم السقوط قال: «وإن كان الأحوط ترتيب آثار السقوط من
الإتمام بعد
إكمال اليومين».
فعلى هذا القول لو شرط حين النيّة ثمّ أسقط شرطه لم يسقط شرطه.
ويستدلّ على عدم السقوط بأنّ المشروط هو اللزوم لا نفس العقد، فإنّ الذي شرع له من الأوّل إنّما هو هذا الاعتكاف الخاص- أعني ما فيه اختيار الفسخ والرجوع- فإرجاع هذا إلى اللزوم وقلبه إليه ثانياً يحتاج إلى الدليل.
القول الثاني: السقوط،
ويستدلّ عليه بأنّه
كالخيار المجعول بالشرط حقّ قابل للإسقاط؛ لأنّ أوّل ما يترتّب على الحقّ قابليته للإسقاط، فما لا يسقط بالإسقاط لا يكون حقّاً.
ذكر غير واحد أنّه لا يصحّ للمعتكف أن يشترط في اعتكافه أن يكون له
الرجوع في اعتكاف آخر له غير الذي ذكر الشرط فيه، أو فسخ اعتكاف شخص آخر من ولده أو
عبده أو أجنبي؛
استناداً إلى عدم الدليل على نفوذ الشرط الواقع في غير الاعتكاف الذي يراد الرجوع فيه، ومقتضى الأصل العدم، سواء أوقع الشرط في ضمن اعتكاف آخر أم في ضمن عقد آخر ونحوه، أو كان الشرط في اعتكافه فسخ اعتكاف الغير، فإنّه لا أثر للشرط في شيء من ذلك؛ لعدم الدليل.
نعم، ذهب
المحقق النجفي إلى احتمال نفوذه؛
عملًا بعموم «المؤمنون عند شروطهم».
لكن نوقش فيه بأنّ «العموم ناظر إلى نفوذ الشرط على المشروط عليه، وأنّ شرط
المؤمن نافذ على نفسه لغيره، وأنّه عند شرطه- أي ملازم معه ولا ينفكّ عنه- نظير قوله عليه السلام: «المؤمن عند عدته»، لا أنّ من اشترط شيئاً بالنسبة إلى شخص آخر يكون نافذاً في حقّه، كما لو باع داره لزيد واشترط أن يخيط له عمرو ثوباً، فإنّ مثل هذا الشرط غير نافذ في حقّ ذلك الغير قطعاً، والمقام من هذا القبيل؛ فإنّ الشرط في الاعتكاف شرط على اللَّه سبحانه، وهو تعالى أمضاه بالنسبة إلى نفس هذا الاعتكاف. وأمّا بالنسبة إلى غيره فلا دليل على نفوذه كي يرتفع حكمه بالشرط، والعموم المزبور لا يرتبط بما نحن فيه ممّا هو شرط عليه سبحانه وأجنبيّ عنه».
صرّح جمع من الفقهاء بأنّه لا يصحّ للمعتكف أن يشترط ما ينافي الاعتكاف
كالجماع ونحوه مع بقاء الاعتكاف على حاله،
وعلّلوا ذلك بعدم نفوذ مثل هذا الشرط بعد أن كان مقتضى الإطلاقات
حرمة المنافيات شرط أو لم يشترط، والنصوص الواردة مختصّة بشرط الرجوع، ولا تشمل هذا الشرط فيرجع فيه إلى
أصالة عدم نفوذ الشرط وعدم ترتّب أثره عليه.
نعم، لو فسد شرطه لم يفسد اعتكافه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۴، ص۴۲۱-۴۳۸.