أهل الكتاب (طهارتهم)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
أهل الكتاب (توضيح) .
لا خلاف في
نجاسة ثلاث طوائف من الكفّار، وهم
المشركون و
الملحدون و
النواصب ،
وإنّما الخلاف في نجاسة أهل الكتاب، حيث ذهب
المشهور إلى نجاستهم، بل ادّعي عليها
الإجماع ،
بل ألحق بعضهم المسألة
بالبديهيات التي يكون
التكلّم فيها
تضييعاً للعمر.
وخالف في ذلك جماعة من
الفقهاء فاختاروا طهارتهم،
ومال إليه جمع من الفقهاء وإن لم يفتوا به،
وهو المنسوب إلى جملة من المتقدّمين
كابن أبي عقيل و
ابن الجنيد و
الشيخين المفيد في أحد قوليه
و
الطوسي في
النهاية ،
وإن كان في النسبة إلى بعضهم كلام؛ لأنّ
تصريح ابن أبي عقيل بعدم نجاسة سؤر أهل الكتاب إنّما هو
لاعتقاده بعدم
انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة، لا
لطهارة أهل الكتاب.
وأمّا ما قاله ابن الجنيد: «لو تجنّب من أكل ما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي
آنيتهم ، وكذلك ما صنع في
أواني مستحلّ الميتة ومآكيلهم ما لم يتيقّن طهارة أوانيهم وأيديهم كان
أحوط »،
فهو- مع عدم صراحته في طهارتهم ولا ظهوره فيها- لا يعتمد على قوله؛ لأنّه كان يعمل
بالقياس .
لكن الحقّ دلالته، و
تهمة القياس الموجّهة إليه وقع نقاش فيها، فلا يصحّ تجاهل قوله لأجل
شبهة غير مؤكّدة تاريخياً بشكل قطعي. على أنّه لم يظهر وجه القياس هنا.
وما ينقل عن الشيخ المفيد من
الكراهة في خصوص
اليهود و
النصارى فلعلّه يريد بها
الحرمة ، ويؤيّده
اختياره لها في أكثر كتبه مع نقل
الإجماع عليها من تلامذته. إلّاأنّ الأصحّ العمل بظاهر كلامه، وذهابه في سائر كتبه إلى غير ذلك لا يشكّل قرينة على
مراده في كتاب آخر؛ إذ لعلّه عدل عنه، ونقل تلامذته الإجماع لا يضرّ
باطّلاعهم على مخالفته، إذ للعلم بنسبه وشخصه مع ذهاب كثيرين إلى حجّية الإجماع آنذاك على مسلك الدخول أو اللطف، لم يروا في مخالفته ضرراً فلم يذكروه.
وأمّا الشيخ الطوسي فهو وإن قال في نهايته بأنّه: «يكره أن يدعو
الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثمّ يأكل معه إن شاء»،
إلّاأنّه
محمول على المؤاكلة
باليابس أو على الضرورة؛
لتصريحه في غير موضع من النهاية بنجاسة الكفّار على
اختلاف مللهم.
وعلى أيّ حال، فهناك محاولات
للتأكيد على أنّ نجاسة الكتابي إجماعية، وهي
دعوى قام
الشهيد الصدر بدراستها و
مناقشتها بصورة مفصّلة، حيث قال ما حاصله: إنّ حجّية هذا الإجماع- كأيّ إجماع- تستند إلى كونه سبباً لليقين أو
الاطمئنان بثبوت معقده شرعاً من خلال تجميع القرائن
الاحتمالية التي يحصل من تراكمها الاطمئنان بالحكم المجمع عليه؛ ولذا لابدّ من ملاحظة مجموع القرائن التي لها دخل في إيجاد هذا الاطمئنان
إثباتاً ونفياً؛ إذ قد يتّفق كون
أمارة مقتضية لليقين في نفسها، ولكنّها لا تؤدّي إلى ذلك عند
مزاحمتها ببعض القرائن المنافية، وليس الإجماع أو نقل الإجماع بعنوانه موضوعاً للحجّية شرعاً.
وهناك عدّة نقاط يمكن
إثارتها حول
الاستدلال بهذا الإجماع:
التشكيك في وقوعه
بإبراز القرائن على وجود الخلاف، ومن هذه القرائن: كلام
المحقّق الحلّي قدس سره؛ إذ قسّم الكفّار إلى قسمين:
المشرك ، وأهل الكتاب، وادّعى الإجماع على
نجاسة المشرك، ولم يدّعِ مثل ذلك في أهل الكتاب، وإنّما استعرض
أسماء عدد من العلماء القائلين بنجاستهم، فلو كان المحقّق قد أحرز الإجماع على النجاسة في كلا القسمين لما ساق
التعبير بهذا النحو.
ومنها: دعوى
ابن زهرة في
الغنية الإجماع المركب ؛ إذ قال: «
التفرقة بين
الأمرين (نجاسة المشرك وغيره) خلاف الإجماع»،
فإنّه لو كان يرى
انعقاد الإجماع على نجاسة الكافر مطلقاً لما عدل إلى الاستدلال بالإجماع المركّب على نجاسة غير المشرك.
ومنها: ما نقل عن الشيخ المفيد في أجوبة بعض مسائله من الحكم بكراهة
سؤر اليهود والنصارى، وهو لا يناسب القول بالنجاسة؛ لظهور الكراهة في كلام المفيد وأمثاله في المعنى المصطلح المقابل للحرمة. ويبقى
استغراب أن يكون المفيد قائلًا بالطهارة ولا يؤثر ذلك عنه، بل يدّعي تلامذته-
كالمرتضى والشيخ الطوسي- الإجماع على النجاسة، وهم أكثر الناس اطّلاعاً على رأي
استاذهم . وقد يدفع هذا الاستغراب بإمكان
افتراض عدول المفيد قدس سره عن
الفتوى بالطهارة؛ إذ لا نعرف تاريخ صدور الحكم بالكراهة منه، فلعلّه كان في بداية أمره، وفي مرحلة تأثّره باستاذه ابن الجنيد وابن أبي عقيل اللذين ينسب إليهما القول بالطهارة.
أنّنا إذا رجعنا إلى عصر أقدم من عصور
الفقه الإمامي- أي عصر الرواة- نجد أنّ قضية نجاسة الكفّار لم تكن مركوزة في أذهانهم إلى زمان
الغيبة ؛ ولهذا كثر
السؤال عن ذلك بين حين وحين، وفرض في بعض تلك الأسئلة أنّهم يأكلون الميتة ولا يغتسلون من
الجنابة كما في رواية
الحميري الذي هو من فقهاء
الإمامية في عصر الغيبة الصغرى؛ إذ كتب إلى
صاحب الزمان عليه السلام : عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ولا يغتسلون من الجنابة وينسجون لنا ثياباً، فهل تجوز
الصلاة فيها من قبل أن تغسل. .. ؟
وحمل جميع الأسئلة على أنّها بملاك علمي بحت بعيد جدّاً. وحيث إنّ الإجماع إنّما يكون حجّة
باعتبار كشفه عن التلقّي
الارتكازي من عصر الرواة، فيكون ما ذكرناه نقطة ضعف في
كاشفية هذا الإجماع.
أنّ
ابتلاء المسلمين
بالتعايش مع أصناف من الكفّار في
المدينة وغيرها على عهد
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان على
نطاق واسع، و
اختلاطهم مع المشركين كان شديداً جدّاً، خصوصاً بعد
صلح الحديبية ، ووجود
العلائق الرحمية وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقرّرة في عصر النبوّة لانعكس ذلك وانتشر وأصبح من الواضحات، ولسمعت من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم توضيحات كثيرة بهذا الشأن، كما هو الحال في كلّ مسألة تدخل في محلّ الابتلاء إلى هذه الدرجة.
ولا توجد في مثل هذه المسألة دواعي
الإخفاء ، وأيّ داعٍ إلى ذلك مع ظهور
الإسلام ، وعدم
منافاة هذا الحكم مع أغراض
أولياء الأمر بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؟! وحتى لو افترضنا أنّ الحكم بالنجاسة كان في ظرف نزول
سورة التوبة التي نزلت بعد الفتح، فإنّ
طبيعة الأشياء كانت تقتضي شيوعه و
انتشاره أيضاً، فعدم وجدان شيء من هذه اللوازم العادية عند
ملاحظة التاريخ العام يشكّل عامل
تشكيك في مسألتنا.
أنّ
اشتهار الاستدلال على نجاسة الكافر بالآية الكريمة بين الأصحاب، ووجود وجوه
اجتهادية لتقديم روايات النجاسة على روايات الطهارة على ما يأتي، يوجب- على الأقل-
احتمال استناد عدد كبير من المجمعين إلى مدرك اجتهادي في
الفتوى بالنجاسة، فلا يكون كاشفاً
مستقلّاً عن المقصود ما دام إجماعاً مدركياً. ودعوى أنّ الإجماع على نجاسة أهل الكتاب يجب أن يكون مستنداً إلى جهة فوق الاجتهاد؛ لأنّ وضوح وجود الجمع العرفي بين روايات الطهارة وروايات النجاسة بحمل الأخيرة على
التنزّه يكشف عن استناد المجمعين إلى جهة فوق ذلك في طرح أخبار الطهارة. مدفوعة: بأنّ
صناعة الجمع العرفي، وكونه متقدّماً على سائر أنحاء التصرّف الاخرى بما فيها الحمل على
التقية ، لم تكن بدرجة من الوضوح في فقه جملة من فقهائنا المتقدّمين على النحو الذي لا يصحّ معه افتراض تطبيقهم للصناعة على وجه آخر.
وفي كلماتهم شواهد عديدة على ذلك، فمن هذه الشواهد في كلام الشيخ الطوسي قدس سره ما ذكره في مسألة نجاسة
الخمر و
المسكر الذي وردت فيه أخبار صريحة في الطهارة، وأخبار تأمر بالغسل منه؛ إذ حمل أخبار الطهارة على التقيّة، مع أنّ العامة لا يقولون بالطهارة، قال في كتاب
التهذيب : «والذي يدلّ على أنّ هذه الأخبار محمولة على التقيّة ما تقدّم ذكره من الآية، وأنّ اللَّه تعالى أطلق
اسم الرجاسة على الخمر، ولا يجوز أن يرد من جهتهم عليهم السلام ما يضادّ
القرآن وينافيه، وأيضاً قد أوردنا من الأخبار ما يعارض هذه، ولا يمكن الجمع بينهما إلّابأن نحمل هذه على التقيّة؛ لأنّا لو عملنا بهذه الأخبار كنّا دافعين لأحكام تلك جملة، ولم نكن آخذين بها على وجه، وإذا عملنا على تلك الأخبار كنّا عاملين بما يلائم ظاهر القرآن، فحملنا هذه على التقيّة؛ لأنّ التقيّة أحد الوجوه التي يصحّ ورود الأخبار لأجلها من جهتهم، فنكون عاملين بجميعها على وجه لا
تناقض فيه».
فنراه قدس سره يفضّل الجمع بالحمل على التقيّة على الجمع العرفي الذي يقتضي تقديم روايات الطهارة، ويرى أنّ العمل بهذه الروايات
إسقاط للمعارض رأساً، بخلاف الحمل على التقيّة، ومعه فأيّ
استبعاد يبقى في أن يكون الشيخ وأمثاله في فتواهم بالنجاسة وتقديم رواياتها مستندين إلى وجوه اجتهادية من هذا القبيل؟! من قبيل دعوى الجمع بين الطائفتين بحمل أخبار الطهارة على التقيّة، أو ترجيح أخبار النجاسة بالموافقة للكتاب أو بالأكثرية، أو
بالموافقة للأصل لو بني على
أصالة الاحتياط في
الشبهة الحكمية ، أو بكونها قطعية الصدور
إجمالًا لتظافرها بخلاف أخبار الطهارة، أو
إيقاع التعارض بين الطائفتين و
اختيار أخبار النجاسة ولو لنكتة الظن الشخصي على طبقها إذا بني على التخيير، أو افتراض
التساقط بين الطائفتين في الكتابي والرجوع إلى الآية كعام فوقاني. فهذه وجوه سبعة يمكن افتراض كلّ واحد منها في بعض المجمعين، بعد أن لاحظنا
إمكانية استبعادهم للجمع العرفي بالحمل على التنزّه.
أنّ الروايات الدالّة على الطهارة تارة تلحظ بما هي حجّة تعبدّاً على نفي النجاسة، وهذا
استدلال بالسنّة، وسوف يأتي الكلام عنه. واخرى تلحظ بما هي قرينة ظنية بقطع النظر عن دليل الحجّية وما يقتضيه على نحو يمكن
استخدامها كعامل مزاحم لتأثير الإجماع في حصول العلم بالنجاسة، وهذا هو
المقصود في المقام؛ لأنّ حجّية الإجماع ليست إلّابسبب
إفادته للعلم بحساب الاحتمالات، فيكون كلّ كاشف ظني على خلافه مؤثّراً بدرجة ما في المنع عن تكوّن العلم على أساسه. وموافقة روايات الطهارة للعامة لا يفقدها
الكشف الظني عن عدم صحّة الإجماع؛ لأنّنا إذا لاحظنا أنّ بعض ألسنة تلك الروايات وخصوصيّاتها لا يناسب التقيّة، من قبيل ما دلّ على النهي عن الوضوء بسؤر الكتابي مع
استثناء صورة
الاضطرار ، ومن قبيل كون الراوي لبعض الروايات مثل
عليّ بن جعفر ، خصوصاً مع كثرة روايات الطهارة وصراحتها وعدم وجود شيء من
التذبذب و
التزلزل في
البيان في أكثرها.
وبهذه النقاط الخمس يتّضح
سقوط دعوى الإجماع على نجاسة الكتابي عن الحجّية.
•
أهل الكتاب (الاستدلال على نجاستهم)، ومهما يكن من أمر، فقد استدلّ المشهور على نجاسة أهل الكتاب بالكتاب والسنّة.
•
أهل الكتاب (الاستدلال على طهارتهم)، وأمّا القائلون بالطهارة فقد استدلّوا-
مضافاً إلى
الأصل بالكتاب والسنّة.
إلّاأنّ أكثر الفقهاء رفض هذه الطريقة من الجمع لسببين:
الأوّل: مخالفة الروايات الدالّة على الطهارة لكتاب اللَّه؛ لقوله تعالى: «إِنَّمَا المُشرِكُونَ نَجَسٌ»،
مع موافقة أخبار النجاسة للكتاب؛ ولما ذهب إليه الفقهاء إلّا ما شذّ منهم.
الثاني: موافقة أخبار الطهارة لمذهب الجمهور؛ لأنّ جلّهم- إن لم نقل كلّهم- يعتقدون بطهارة الكتابي، وكانوا يخاصمون من يقول بنجاستهم ويعادونه،
بل جعل
السيّد المرتضى القول بالنجاسة ممّا انفردت به الإماميّة،
وقد ورد في روايات
أئمّتنا عليهم السلام الأمر بالأخذ بما خالفهم عند
التعارض ، فلابدّ من حمل أخبار الطهارة على التقيّة؛ لموافقتها لهم،
وفي بعض الأخبار
إشعار بورودها تقيّة، كما في
حسنة الكاهلي ، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السلام عن
قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي، أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال: «أمّا أنا فلا اواكل المجوسي، وأكره أن احرّم عليكم شيئاً تصنعونه في بلادكم»،
وهو يعني: أنّ ما تصنعونه في بلادكم مضطرّون إليه.
واورد على الأوّل بأنّ القول بالطهارة لا
مخالفة فيه لكتاب اللَّه؛ لمنع
دلالة الآية المذكورة على نجاسة المشركين فضلًا عن أهل الكتاب، كما تقدّم.
وعلى الثاني بأنّ
الأخذ بما خالف
الجمهور إنّما يصحّ في صورة تعارض النصّين، وأمّا مع عدم التعارض بحمل
الظاهر منهما على النصّ في الروايات، فلا معنى للأخذ بما خالف الجمهور منهما،
مع أنّ من
المستبعد حمل جميع هذه
الأخبار مع كثرتها و
صراحتها على التقيّة،
خصوصاً وأنّ في بعضها
اهتماماً من
الإمام عليه السلام بالمقصود من
السؤال ، كما في رواية
زكريّا بن إبراهيم المتقدّمة، الذي سأل الإمام عليه السلام عن طهارة
أهله الذين كانوا من أهل الكتاب، فسأله الإمام هل أنّهم يأكلون
الخنزير ؟ فردّ زكريّا بالنفي، فقال له الإمام عليه السلام: «كلْ معهم، واشرب»،
مع أنّ
الجواب لو كان تقيّة لكان
بإمكان الإمام عليه السلام أن يجيبه بما يناسب التقيّة من دون
الدخول في التفاصيل.
ورغم
تأكيد البعض على إمكان حمل الأخبار الناهية على
الكراهة والمنع من حملها على التقيّة إلّاأنّ
السيّد الخوئي احتاط في نجاسة أهل الكتاب
احتياطاً وجوبيّاً؛ لذهاب معظم الفقهاء إليها، فقد قال: «ومن هنا يشكل
الإفتاء على طبق أخبار النجاسة، إلّاأنّ الحكم على طبق روايات الطهارة أشكل؛ لأنّ معظم الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين على نجاسة أهل الكتاب،
فالاحتياط اللزومي ممّا لا
مناص عنه في المقام».
غير أنّ
الشهيد الصدر نفى أن يكون هناك مبرّر لعدم الإفتاء بالطهارة بعد
تمامية رواياتها سنداً ودلالة، فقال ما هذا حاصله: إنّ
إعراض الفقهاء عن روايات الطهارة ودعوى
إطباقهم على نجاسة أهل الكتاب لا عبرة فيه؛ إذ لا يصحّ
إرجاعه إلى
اطّلاعهم على خلل في نقل الروايات موجب لسلب
الوثوق عنها وخروجها عن
الاعتبار ؛ لعدم وجود ما يدلّ على ذلك، بل الدليل على خلافه، فهذا
الشيخ الطوسي لا يرمي ما يدلّ على الطهارة بالخلل أو نحو من الشذوذ، الذي رمى به ما دلّ على جواز
الوضوء بماء الورد ونحوه.
ونلاحظ أنّ جملة من روايات الطهارة قد أفتى
الأصحاب بمضمونها وإن لم يستفيدوا منها الطهارة، فالشيخ الطوسي يذكر: أنّه «يكره أن يدعو
الإنسان أحداً من الكفّار إلى طعامه فيأكل معه، فإن دعاه فليأمره بغسل يديه، ثمّ يأكل معه إن شاء».
وقد ذكر
المحقّق الحلي : أنّ هذه
الفتوى مبنية على رواية
العيص ، وهذا يعني: أنّ الشيخ عمل بها وإن لم يستفد منها الطهارة؛ لحملها- مثلًا- على فرض عدم
الرطوبة . كما أنّ الشيخ قد تمسّك ببعض روايات الطهارة
لإثبات النجاسة، فقد استدلّ على
النجاسة برواية عليّ بن جعفر
في ماء
الحمّام ، مع ذيلها الذي تقدّم
الاستدلال به على الطهارة، ومعنى ذلك عدم صحّة
افتراض الخلل في
النقل في تلك الروايات، وإلّا لما صحّ الاستدلال بها على شيء. وممّا يؤكّد عدم الخلل في النقل تعدّد روايات الطهارة وكثرتها بنحو يضعف
احتمال الخلل في النقل فيها جميعاً.
مضافاً إلى أنّ جملة منها قد أخذها أصحاب المجاميع من كتب
الاصول رأساً، كرواية علي بن جعفر التي نقلها الطوسي من كتابه،
ورواية العيص التي نقلها
الصدوق من كتابه.
كما لا يصح إرجاعه إلى وجود
ارتكاز واضح للنجاسة يكشف عن عدم مطابقة المنقول للواقع؛ لاحتمال أن يكون موقفهم السلبي من روايات الطهارة مستنداً- ولو في الجملة- إلى عوامل اجتهادية، ومعه لا يبقى مانع عن المصير إلى
حجّية أخبار الطهارة في نفسها، والجمع بينها وبين أخبار النجاسة، بحمل تلك على التنزّه، خصوصاً مع
اشتمال المقام على روايات صريحة في
النهي التنزيهي ، تعتبر شاهداً على هذا الجمع.
وقد تقدّم أنّهم غفلوا أو أعرضوا عن
الجمع العرفي المذكور بدون افتراض ارتكاز قاهر يقتضي النجاسة، كما يوجد احتمال حصول
الاطمئنان الشخصي بالنجاسة لجملة من الفقهاء
استناداً إلى روايات النجاسة، ويكون هذا هو
العامل المؤثّر في طرح أخبار الطهارة. وهذا احتمال معقول في نفسه بالنسبة إلى جملة من الفقهاء على الأقل إذا لاحظنا أنّ ما تمّت دلالته على النجاسة عندهم أكثر عدداً ممّا تمّت دلالته عندنا، كما يظهر بمراجعة الروايات التي استدلّ بها الشيخ الطوسي على النجاسة، وأنّ ما كان ملحوظاً من أخبار الطهارة لعلّه أقل ممّا تجمّع متأخّراً بعد توفّر مجاميع
الحديث والنظرة المجموعية إليها.
ونحن نلاحظ أنّ الشيخ في كتاب الطهارة من
التهذيب ذكر في بيان عدم جواز الوضوء من سؤر الكفّار الاستدلالَ بالآية الكريمة
وجملة من الروايات،
واقتصر في مقام نقل
المعارض على رواية واحدة، وهي رواية
عمّار الساباطي ، ثمّ أوّلها.
وذكر في باب تطهير الثياب وغيرها الاستدلالَ على غسل الملاقي للكافر بالآية
وجملة من الروايات،
ولم يذكر معارضاً أصلًا، بينما ذكر جملة من الروايات الدالّة على الطهارة في
مكاسب التهذيب. وبذلك تتّضح كيفية حصول
الاطمئنان الشخصي لجملة من الفقهاء بالنجاسة استناداً إلى روايات النجاسة نفسها.
وافتراض هذا الاطمئنان بالبيان المذكور يصلح
تفسيراً لموقف جملة من الفقهاء، و
إبرازاً للعامل الخارجي الذي دعا إلى عدم العمل بقواعد الجمع العرفي، وإن لم نكن نشارك في هذا الاطمئنان؛ لأنّ ما تمّت عندنا دلالته على النجاسة أقلّ عدداً، وما تجمّع لدينا من روايات الطهارة فيه من الصراحة وعدم
التذبذب في
البيان و
التظافر والمخالفة للتقيّة في بعض الخصوصيّات، ما لا يسمح بحصول الاطمئنان أو
الظن الشخصي
ببطلان دلالته على الطهارة. وعلى أيّ حال، لو كنّا لا نحتمل
غفلة المتقدّمين عن صحّة الجمع العرفي بالحمل على التنزّه، فيمكن أن نفسّر إعراضهم عنه في المقام بأحد الأمرين: إمّا
الارتكاز ولكن بمرتبة لا تتنافى مع القرائن على عدم وجود ارتكاز حاسم على النجاسة في أذهان فقهاء الرواة، وإمّا الاطمئنان الشخصي الناشئ من مجموعة امور لا نسلّمها، ولكنّنا لا نستبعد افتراض
تسليمها عند جملة منهم.
وإذا كنّا نحتمل الغفلة في شأن بعضهم عن ضرورة
تقديم الجمع العرفي- كما تبرّره بعض القرائن كتصريح الشيخ الطوسي بتقديم الجمع بالحمل على التقيّة على الجمع العرفي- في نصّ أشرنا إليه سابقاً عند مناقشة
الإجماع - فيمكن أن نفسّر عملهم بأخبار النجاسة على
أساس اجتهادي يلائم مع
الاعتراف بحجّية أخبار الطهارة في نفسها، وذلك من قبيل
ترجيح أخبار النجاسة بالأكثرية، أو بمخالفة العامة، أو بموافقة الكتاب، أو جعل العام الكتابي مرجعاً بعد التساقط، إلى غير ذلك من الوجوه الاجتهادية. وعليه فلا موجب لسقوط أخبار الطهارة عن الحجّية في نفسها.
هذا كلّه إذا لم تجعل النصوص الكاشفة عن وجود ارتكاز متشرّعي على الطهارة ممّا أسلفنا بيان بعضه سابقاً دليلًا مورثاً للاطمئنان؛ لعدم وجود مبرّر
التقية فيها، بل أنّ بعض الوجوه قد تفيد تحصيل الوثوق بالطهارة ممّا يسقط أخبار النجاسة عن الحجّية، كالذي ذكرناه سابقاً من أنّه لو حكم بالنجاسة لانتشر هذا الأمر في
مجتمع المدينة و
الحجاز عصر
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثر السؤال عنه، بل على القول بجواز نكاح نساء أهل الكتاب وكذلك
الإماء من اليهوديات والنصرانيات سوف تكون هذه القضية عامة البلوى جدّاً في البيوت والاسر وفي
حياة المتشرّعة، بحيث لو كان الحكم هو النجاسة لكان واضحاً جدّاً ولما تضاربت فيه الروايات، وصحّ فيه عدد قليل منها سنداً ودلالةً.
وتفاصيل أحكام طهارتهم ونجاستهم تراجع في محلّها.
الموسوعة الفقهية، ج۱۹، ص۱۰۸-۱۲۷.