الأعمى
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو بمعنى الذي فاقد
الإدراك البصري تماما.
الأعمى:
الكفيف ، وهو فاقد البصر تماماً من
العينين كلتيهما.
ويرادفه
الضرير فيما يقابله
المبصر .
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغوي.
وهو فاقد بصر إحدى العينين، يقال: عورت العين عوراً، إذا نقصت أو غارت، فالرجل
أعور والانثى عوراء.
فالأعمى: فاقد البصر تماماً، والأعور: فاقد بصر إحدى العينين.
من
العمش ، وهو
ضعف الرؤية مع سيلان
الدمع في أكثر أوقاتها، فالرجل أعمش والانثى عمشاء.
والفرق واضح فإنّ الأعمش يرى مع ضعف، أمّا الأعمى فلا يرى مطلقاً.
من العَشَى وهو ضعف البصر، والأعشى من لا يبصر بالليل ولكنّه في النهار بصير.
ففرقه عن الأعمى واضح في أنّه يبصر نهاراً لا ليلًا، أمّا الأعمى فلا يبصر أصلًا لا أنّه ضعيف البصر.
لا خلاف بين
الفقهاء في أنّ العمى لا يزيل
الأهليّة عن
التكليف ، فالأعمى كالبصير في الأحكام إلّا في بعض الامور التي اقتضتها
الضرورة ، فلا تسقط عنه التكاليف
الشرعية - بدنيّة كانت أم
ماليّة - إلّا ما اسقط
لعذر أو لضرورة.
وقد تعرّض الفقهاء للأحكام المرتبطة بالأعمى- غير المشتركة بينه وبين البصير- في أبواب مختلفة من
الفقه ، نشير إجمالًا إليها هنا وإلى ما يحتمل أن يكون فيه خصوصية فيه، وذلك كما يلي:
يلزم أن يجتهد الأعمى- كالبصير- في تعيين
أوقات الصلاة عند
اشتباه الوقت؛ لأنّه يشارك البصير في العلامات
وأمارات الظنّ التي يستدلّ بها كالورد من الأرس والصفقة وشبههما، وإنّما يجتهد في وقت الصلاة إذا لم يخبره ثقة بدخول الوقت عن مشاهدة، وإلّا وجب العمل بخبره ولا يجب
الفحص .
فإن لم يجتهد أو عمل بقول غيره وانكشف له بعد ذلك أنّه كان قبل الوقت أعاد
الصلاة .
ولو لم يتمكّن من
الاجتهاد نظراً لعماه يقلّد غيره.
لكن قال
الإمام الخميني : «وأمّا ذو العذر الخاص- كالأعمى
والمحبوس - فلا يترك
الاحتياط بالتأخير إلى أن يحصل له
العلم بدخوله».
يجب على الأعمى أن يجتهد في تعيين
القبلة - كالبصير- ويقطع بعدم خروجه عنها لأمارة شرعية،
كمحراب المسجد وعلامة
القبر ، وحيث لا يتمكّن من الاجتهاد أو العلم أو ما يقوم مقامه فعليه أن يعوّل على غيره في بيان الأمارات، أو في تعيين القبلة،
هذا هو
المشهور بين الفقهاء.
واختار
الشيخ الطوسي في كتاب
الخلاف أنّه يصلّي إلى أربع جهات، حيث قال: «الأعمى ومن لا يعرف أمارات القبلة يجب عليهما أن يصلّيا إلى أربع جهات مع
الاختيار ، ومع الضرورة كانا مخيّرين في الصلاة إلى أيّ جهة شاءا».
ثمّ إنّه لا فرق في المخبر بين الرجل والمرأة،
والحرّ والعبد ،
والبالغ والصبي .
ولو عوّل على رأيه مع وجود المبصر؛ لأمارة ظنية حصلت له أقوى من قول المبصر، وصلّى برأيه صحّت صلاته؛
ضرورة ابتناء ذلك على كون المدار على ظنّه، وقد فرض حصول أمارة له أقوى من قول المبصر أو مساوية له.
نعم، قيّده جماعة بعدم ظهور
الخطأ الموجب للتدارك.
واستدلّوا عليه بالأخبار، كصحيح
عبد الرحمن بن أبي عبد اللَّه حيث سأل
الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أعمى صلّى على غير القبلة، فقال: «إن كان في وقت فليعد، وإن كان قد مضى الوقت فلا يعد».
وأمّا لو عوّل على رأيه لا لأمارة مع وجود المبصر فيرى جماعة أنّ عليه
الإعادة وإن صادفت القبلة؛ لعدم إتيانه بالمأمور به على الوجه المأمور به.
وقال
الشيخ الطوسي : إن «صلّى برأي نفسه وأصاب القبلة كانت صلاته ماضية، وإن أخطأ القبلة أعاد
الصلاة ؛ لأنّ فرضه أن يصلّي إلى أربع جهات مع الاختيار، وإن كان في حال الضرورة كانت صلاته ماضية».
وقطع
المحقق النجفي ببطلان الصلاة
ووجوب الإعادة في صورة انكشاف الخطأ، بل وإن أصاب إذا فرض بحال لم يكن جازماً بموافقة الأمر، أمّا إذا كان بحال تتصوّر فيه
نيّة القربة فاحتمل الصحّة.
ولو صلّى الأعمى مقلداً ثمّ أبصر في الأثناء، فإن كان عاميّاً فرضه
التقليد أيضاً استمرّ، وإن كان ممّن يتمكّن من
الاجتهاد في أثناء الصلاة بحيث لا تبطل به اجتهد وجوباً على الظاهر، لتغيّر موضوعه وشرطية القبلة للكلّ والبعض، فإن وافق فلا بحث، وكذا لو ظهر له أنّه منحرف يسيراً فإنّه يستقيم وتصحّ صلاته، وأمّا إن كان منحرفاً إلى اليمين واليسار استأنف الصلاة، وأولى منه إذا كان مستدبراً.
ولو افتقر في اجتهاده إلى زمان كثير لا يتسامح في الصلاة بمثله فالأقرب البناء وسقوط الاجتهاد؛
لأنّه في معنى العامي؛ لتحريم قطع الصلاة.
واحتاط
الشيخ الطوسي في
المبسوط والمحقّق الحلّي في
المعتبر بالاستئناف وتبعهما المحقّق النجفي مع افتقاره إلى تأمّل كثير.
ولو صلّى بصيراً فكفّ في الأثناء بنى، فإن انحرف قصداً بطلت إن خرج عن السمت، وإن كان اتّفاقاً وأمكنه علم
الاستقامة استقام ما لم يكن قد خرج إلى حدّ
الإبطال بالخروج عن الجهة، وإن لم يمكنه، فإن اتّفق مسدّد عوّل عليه، بل ينتظره إذا لم يخرج عن كونه مصلّياً، بل وإن خرج لعدم تمكّنه من
إتمام الصلاة على الوجه المأمور به.
نعم، لو ضاق الزمان عن التوقّع كأن بقي مقدار أربع جهات صلّى إليها، وكذا يصلّي إلى الأربع مع السعة وعدم توقّع المسدّد.
وقال
الشهيد الأول : «وهل يحتسب بتلك الصلاة منها؟ نظر، من حيث وقوعها في جهتين فلا تكون صحيحة، ومن صحّة ما سبق منها قطعاً
وجواز ابتدائها الآن إلى هذه الجهة بأجمعها فالبعض أولى، وحينئذٍ هل له
الانحراف إلى جهة اخرى غير ما هو قائم إليها؟ يحتمل ذلك؛ تنزيلًا للإتمام منزلة الابتداء، والأقرب المنع؛ تقليلًا للاختلاف والاضطراب في الصلاة...».
يكره أن يكون
المؤذن أعمى إذا لم يكن معه بصير يعلّمه دخول الوقت ويسدّده؛ لأنّه لا يتمكّن غالباً من معرفة الوقت؛
لأنّه ربّما يغلط في الوقت، أو يفوّت على الناس فضيلة أوّل الوقت
باشتغاله بالسؤال عنه، والتحرّي فيه.
وليس ذلك شرطاً؛ للأصل والإطلاقات، فلو أذّن الأعمى جاز، ولقد كان
ابن ام مكتوم مؤذّناً
لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعمى، إلّا أنّه كان لا ينادي إلّا أن يقال له: أصبحت أصبحت.
وروي في كتاب
دعائم الإسلام عن
جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه قال: «لا بأس بأذان الأعمى إذا سدّد، وقد كان ابن امّ مكتوم أعمى يؤذّن لرسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم».
لا
إشكال ولا خلاف بين
الفقهاء في جواز
إمامة الأعمى في الجماعة إذا كان من ورائه من يسدّده ويوجّهه إلى القبلة.
وتدلّ عليه الأخبار:
منها: صحيح
الحلبي ، قال الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس بأن يصلّي الأعمى بالقوم وإن كانوا هم الذين يوجّهونه».
ومنها: حسن
زرارة أو صحيحه عن
أبي جعفر عليه السلام- في
حديث - قال: قلت: اصلّي خلف الأعمى؟ قال: «نعم، إذا كان له من يسدّده وكان أفضلهم»،
إلى غير ذلك.
نعم، تكره إمامة الأعمى بغيره ممّن لا يتّصف بصفته؛
للنهي عنه المحمول على الكراهة؛ جمعاً بينه وبين
الأخبار المجوّزة.
وفي هذا السياق إمامة الأعمى
للجمعة ، فالمشهور
عدم اعتبار البصر في إمام الجمعة، فيجوز أن يكون أعمى؛
للأصل المقتضي للجواز، وأنّ
الاعتماد على
الإيمان والعدالة .
وخالف في ذلك عدّة، منهم:
العلّامة الحلّي في
النهاية ، بل ادّعى في التذكرة أنّ أكثر علمائنا قائلون باشتراط سلامة الإمام من العمى؛ لأنّه لا يتمكّن من
الاحتراز عن
النجاسات غالباً؛ ولأنّه ناقص فلا يصلح لهذا المنصب الجليل.
وقد يقال بالكراهة كما عن
النفلية والفوائد الملية .
تسقط
صلاة الجمعة عن الأعمى؛ لأنّ
المشقّة تلحقه
بتكليفه فتسقط كما تسقط عن
المريض والمسافر .
ويدلّ على ذلك خبر
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّما فرض اللَّه عزّوجلّ على الناس من
الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها: صلاة واحدة فرضها اللَّه عزّوجلّ في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن
الصغير ،
والكبير ،
والمجنون ، والمسافر،
والعبد ، والمرأة،
والمريض ، والأعمى...».
يتوجّه فرض
الحجّ إلى الأعمى إذا كان له من يقوده ويهديه، ووجد الزاد والراحلة لنفسه ولمن يقوده؛
لقوله سبحانه وتعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».
وهذا مستطيع، فإخراجه عن العموم يحتاج إلى دليل.
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يمنعه من الحجّ حاجة ظاهرة، ولا مرض حابس، ولا
سلطان جائر فمات ولم يحجّ فليمت إن شاء
يهودياً أو
نصرانياً ».
ذكروا أنّه لا يجزي
عتق الأعمى في
الكفّارة ؛
لأنّه خرج عن
الملك بهذه
الآفة ، والعتق لا يكون إلّا في ملك.
يشترط
البصر في من يجب عليه
الجهاد ، فلا يجب على الأعمى وإن وجد قائداً ومطية؛
لقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ».
نعم، يجوز له أن يحكّم في الجهاد؛ لأنّه لا يحتاج في ذلك إلى
رؤية .
هذا في جهاد
المشركين ابتداءً لدعائهم إلى
الإسلام .
وأمّا
الجهاد الدفاعي الذي يمنع به
الكافر عن
الاستيلاء على البلاد والعباد والمال وما أشبه، فلا يشترط فيه البصر، بل يجب
الدفع على القادر، سواء الذكر والانثى، والسليم والأعمى والمريض،
والحرّ والعبد، وغيرهم.
ذكر بعض الفقهاء أنّه لا يقتل الأعمى في
الحرب إذا لم يكن ذا رأي فيه ولم يقاتل ولم تدع
الضرورة إلى
قتله ، كما إذا تترّسوا به ونحو ذلك.
اختلف الفقهاء في سقوط
الجزية عن الأعمى كما اختلفوا في
الهم - أي الشيخ الفاني- فقال
الإسكافي بالسقوط.
وصرّح جماعة بعدم السقوط عنه؛ لعموم الأدلّة.
وفصّل بعضهم بأنّه إن كان ذا رأي وقتال اخذت منه، وإلّا فلا.
يجوز
بيع الأعمى
وشراؤه ، سواء ولد أعمى أم عمي بعد صحّته، إذا كان عالماً بالمبيع أو المشترى، إمّا باللمس إن عرفه به، أو
بالذوق إن علمه به، أو يوصف له وصفاً يرفع
الجهالة ، أو يوكّل غيره في
النيابة عنه عند الرؤية.
ويدلّ عليه قوله تعالى: «وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ»» ولم يخصّ، وقوله: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ»
ولم يفرّق، فتتناول الأدلّة الأعمى كما تتناول البصير.
واستدلّوا عليه أيضاً بأنّ جماعة من الفقهاء كفّوا ولم يقل أحد أنّهم منعوا من البيع، ولو منعوا لنقل ذلك.
وقد ذكر بعض الفقهاء أنّه لا يجوز
استئجار ما يتعذّر
استيفاء منفعته ، كما لو استأجر الأعمى
لقراءة القرآن ولا يمكنه ذلك مع توقفه على وجود البصر.
ومقتضى عمومات الأدلّة ومطلقاتها أنّ جميع
المعاملات تقع من الأعمى كما تقع من غيره، ما لم يشكل العمى خللًا في الموضوع، كما في مثال
الإجارة المتقدّم أو يكون مأخوذاً عدمه شرطاً أو قيداً في موردٍ هنا أو هناك.
تصحّ
الوصيّة إلى الأعمى؛ لأنّ الفرض أنّه صحيح
التصرّف ، فيجوز أن يكون وصيّاً،
كما يجوز أن يكون الأعمى أميناً، لأنّ
شهادة الأعمى تقبل والعمى لا يمنع من
الأمانة .
قد يستفاد من بعض
الروايات أنّ على المرأة
الاحتجاب عن الرجل الأعمى،
كرواية امّ سلمة قالت: كنت عند
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وعنده
ميمونة ، فأقبل
ابن امّ مكتوم وذلك بعد أن أمر
بالحجاب ، فقال: «احتجبا»، فقلنا: يا رسول اللَّه، أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: «أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟».
نعم، أشكل بعض الفقهاء على الرواية
بالضعف والإرسال .
وتفصيل الكلام في محلّه.
وقد ذكر بعض الفقهاء أنّه لا يجوز للمرأة
النظر إلى الأعمى
نصّاً وفتوى وسيرة ؛ لأنّه يساوي المبصر في تناول
النهي المستفاد من الأدلّة، كعموم قوله تعالى: «وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ»
الشامل لرؤية الأعمى والمبصر.
نعم، يستثنى منه
الوجه والكفّان كما يستثنى من المبصر.
يجوز أن يكون الأعمى
وليّاً في
النكاح ، سواء كان العمى خلقة أو متجدّداً، ولا يسلب المتجدّد
ولاية الولي عند
الفقهاء ؛ لأنّه من أهل النظر والبحث
والاجتهاد واستعلام الأصلح من الرجال، ولأنّ
شعيباً عليه السلام زوّج ابنته من
موسى عليه السلام وكان أعمى.
لا يصحّ
اللعان من الأعمى
بالقذف لاشتراطه دعوى
المشاهدة . نعم، يثبت في حقّه
نفي الولد ، ويلزمه
الحدّ بالقذف إلّا أن يقيم
البيّنة أو تقرّ هي بذلك.
لا
إشكال في
حلّية ذبيحة الأعمى عند الفقهاء، ويدلّ عليه ما رواه
عمر بن اذينة ، عن غير واحد، رواه عنهما عليهما السلام: «أنّ ذبيحة المرأة إذا أجادت
الذبح وسمّت فلا بأس
بأكله ... وكذلك الأعمى إذا سدّد».
وأمّا
صيد الأعمى فاستشكل فيه
العلّامة الحلّي وعلّق ابنه
والشهيد الثاني الجواز على تصوّر وتحقّق القصد، وقوّى
الفاضل الأصفهاني الجواز .
وعلى الجواز يجب مشاهدة البصير لقتل ما يرسله الأعمى من
الكلب أو
السهم ؛ إذ لابدّ من العلم
بالتذكية .
اختلف الفقهاء في اشتراط البصر وعدم العمى في
القاضي على قولين:
أحدهما: اشتراطه، وهو المنسوب إلى الأكثر، بل هو المشهور البالغ حدّ
الإجماع ، فإن كان أعمى لم ينعقد له القضاء؛ لأنّه يحتاج أن يعرف المقرّ من
المنكر ،
والمدّعي من المدّعى عليه، وما يكتبه كاتبه بين يديه، وإذا كان
ضريراً لم يعرف شيئاً من ذلك، وإذا لم يعرف لم ينعقد له القضاء.
وثانيهما: عدم الاشتراط، وهو مختار
المحقق السبزواري في
الكفاية ، حيث صرّح فيها بأنّ الأقرب انعقاد قضاء الأعمى؛ لعموم الأدلّة.
ومال إليه
المحقق الأردبيلي في
مجمع الفائدة قائلًا: «وكذا (ما نجد له دليلًا واضحاً في) اشتراط البصر فيما لا يحتاج فيه إلى البصر».
ثمّ إنّه إذا انحصر الجامع لشرائط القضاء عدا البصر في الأعمى، فهل يصحّ قضاؤه حينئذٍ أو لا؟ قال في
المناهل : «فيه إشكال، ولكن الاحتمال الأوّل في غاية القوّة».
إنّ مستند علم
الشاهد إمّا أن يفتقر إلى
السماع والمشاهدة معاً، وذلك في الأقوال
كالعقود ، مثل:
النكاح والبيع والشراء والصلح والإجارة وغيرها من عقد أو
إيقاع .
وإمّا أن يفتقر إلى المشاهدة فقط، وذلك في الأفعال،
كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنا واللواط .
وإمّا أن يفتقر إلى السماع خاصّة، وذلك فيما يثبت
بالاستفاضة ، وهو النسب
والموت والملك المطلق
والوقف والنكاح
والعتق وولاية القاضي.
أمّا الأوّل فإنّ حاسّة السمع تكفي في فهم اللفظ ويحتاج إلى البصر لمعرفة اللافظ، وحينئذٍ فمن اجتمعت فيه الحاسّتان لا بأس في شهادته، أمّا الأعمى فتصحّ شهادته في العقد؛ لتحقّق الآلة الكافية في فهمه، فإن انضمّ إلى شهادته معرّفان جاز له الشهادة على العاقد أيضاً مستنداً إلى تعريفهما، كما يشهد المبصر على تعريف غيره؛
لإطلاق
خبر محمد ابن قيس عن
أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن شهادة الأعمى، فقال: «نعم إذا أثبت»،
بناءً على أنّ المراد من إثباته ما يشمل شهادة
العدلين .
وحيثما استندت شهادته إلى شهادة العدلين فهل يذكر الشهادة مطلقة- كالبصير- أو لا، بل يقول: أشهد على فلان بتعريف فلان وفلان؟
ذهب الأكثر
إلى الأوّل، وهو ظاهر عبارة
المحقّق الحلّي في
المختصر النافع .
ونسب الثاني إلى جماعة من الفقهاء.
وتظهر الثمرة في كونه شاهد أصل أو فرعاً، فمقتضى الأوّل كونه شاهد أصل، ومحصّله كفاية العلم
الشرعي في الشهادة، فيكون المقام من موارد
الاستثناء من الضابط فيها، وهو (العلم) من جهة ظهوره في معناه الحقيقي لغة
وعرفاً .
وأمّا ما يتحمّل الشهادة عليه بالمشاهدة فقط وهي الأفعال
كالغصب وغيره، فإنّ الأعمى لا يتحمّل الشهادة عليها؛ لأنّها تتحمّل بالمشاهدة ولا مشاهدة للأعمى.
هذا في عمى الأصل. وأمّا إذا تحمّل الشهادة على الأفعال أو العقود وهو صحيح ثمّ عمي، فإن كان تحمّلها على الأعيان- مثل: أن شهد على عين إنسان بذلك وهو لا يعرف اسمه ونسبه- فلا يجوز له
الأداء ؛ لأنّه لا يقدر أن يؤدّيها على تلك العين، وإن كان شهد بحملها على الاسم والنسب جاز أن يؤدّيها على ذلك بعد العمى.
وأمّا ما لا يحتاج إلى
المشاهدة ويكفي فيه
السماع خاصة، فقال جماعة من الفقهاء: يصحّ للأعمى أن يتحمّل الشهادة وهو أعمى، ويؤدّيها وهو أعمى؛ لأنّ الاعتماد فيها على السماع والأعمى يسمع.
ونسبه في
التنقيح إلى الأكثر.
قال
الشيخ الطوسي في
الخلاف : «يصحّ أن يكون الأعمى شاهداً في الجملة في الأداء دون التحمّل، وفي التحمّل والأداء فيما لا يحتاج إلى المشاهدة مثل:
النسب ، والموت،
والملك المطلق... دليلنا:
إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً قوله تعالى: «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ»،
وقوله: «وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ»،
وقال عزّوجلّ: «فَإِن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ»،
وكلّ ذلك على عمومه إلّا ما أخرجه الدليل».
وكذلك تقبل شهادة الأعمى في
الترجمة إذا كان حاضراً عنده فتخاصم إليه رجلان لا يعرف لغتهما فإنّه يترجم عند
الحاكم ، والترجمة شهادة؛
لانتفاء المانع، إذ المفروض أنّ الحاكم يعرف المشهود عليه وله، وإنّما يشتبه عليه معنى اللفظ، ولا تتوقّف شهادة الأعمى على الترجمة على البصر.
وكذا تصحّ شهادته إذا كانت يده في يد رجل وهو يبصر فعمي ويده في يده وهو عارف باسمه ونسبه، صحّ أن يتحمّل الشهادة عليه وهو أعمى، بأن يقرب فاه من
أذن الأعمى فيقرّ بحقّ، فيتحمّل الشهادة عليه وهو أعمى، ويؤدّيها وهو أعمى، وكذا تصحّ شهادة المضبوط، وهو أن يمسك برأس رجل ويقرب فاه إلى اذنه فيقرّ بحقّ، فلا يفارقه حتى يأتي به الحاكم فيقول له: هذا أقرّ لفلان بكذا وكذا.
هذا، وقد أطلق جماعة وقالوا: تقبل شهادة الأعمى في الجملة من دون ذكر التفاصيل السابقة.
قال
السيد المرتضى : «وممّا ظنّ انفراد
الإمامية به ولها فيه موافق: القول بأنّ شهادة الأعمى إذا كان عدلًا مقبولة على كلّ حال، ولا فرق بين أن يكون ما علمه وشهد به كان قبل العمى أو بعده».
يجب
الحدّ على الأعمى
-
جلداً كان أو
رجماً - بلا خلاف،
بل إجماعاً؛ لعموم الأدلّة، فلا فرق في ذلك بين البصير والأعمى أصلًا،
ففي
رواية إسحاق بن عمار ، قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن حدّ
الأخرس والأصمّ والأعمى، فقال: «عليهم الحدود إذا كانوا يعقلون ما يأتون».
نعم، لو ادّعى الشبهة مع احتمالها في حقّه فالأكثر- بل المشهور
- على أنّه يقبل منه؛
لأنّه لا فرق في حكم
الشبهة بين الأعمى وغيره.
وذهب الشيخان
المفيد والطوسي وتبعهما
سلّار وابن البرّاج إلى عدم تصديقه لو ادّعى الشبهة بظن الزوجية للأجنبية التي وطأها.
قال
المحقق النجفي في توجيه كلام الشيخين وابن البرّاج بأنّه محمول على إرادة الفرق بين البصير والأعمى في أصل دخول الشبهة، فإنّه لما كان
الاشتباه في حقّ الأعمى قريباً جداً وجب عليه غاية التحفّظ، فلم يقبل منه دعواها؛ لمكان
التهمة حينئذٍ، لا أنّ المراد منه أنّه مع كمال التحفّظ لو فرض دخول الشبهة عليه لا يجري عليه حكم المشتبه، ولذا لم يسمع منه دعواها؛ ضرورة كون ذلك تخصيصاً للأدلّة من غير مخصّص قابل لذلك.
ذهب جماعة من الفقهاء إلى أنّه لو قتل الأعمى غيره لا يقتل
قصاصاً ، بل على عاقلته
الدية ؛ لأنّ
عمده وخطأه سواء.
والدليل عليه ما رواه
الحلبي عن
الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «... الأعمى
جنايته خطأ تلزم عاقلته، يؤخذون بها في ثلاث سنين، في كلّ سنة نجماً، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جنى في ماله، يؤخذ بها في ثلاث سنين...».
لكن اختار
ابن إدريس وجملة من المتأخرين أنّه يقتصّ منه كالبصير؛ لوجود المقتضي له، وانتفاء المانع، فيشمله عموم
الآيات والروايات .
وقد فصّل
السيد السبزواري بين ما إذا كان الأعمى
ملتفتاً فعليه القود، وبين ما إذا كان غير ملتفت فلا
قود عليه، حيث قال: «الأعمى إن كان ملتفتاً إلى الامور متوجّهاً إليها خبيراً بها- كما في بعض العميان- فهو كالمبصر، يكون عليه القود بعمده؛ لإطلاقات القصاص وعموماته، مع وجود المقتضي وفقد المانع، فلا ريب في الشمول.
وإلّا يكون عمده خطأ تحمله العاقلة؛
للشكّ في شمول إطلاقات القصاص وعموماته له».
ولعلّ هذا الجمع هو الذي يوفق بين الأدلّة
والفتاوى .
وكذا الحكم فيمن ضرب غيره ضربة سالت منها عيناه، فقام المضروب فضرب ضاربه وقتله، فإنّ الحكم فيه أن يجعل دية المقتول على عاقلة الذي قتله، وليس عليه قود؛ لأنّه ضربه حين ضربه وهو أعمى، وعمد الأعمى وخطؤه سواء، فإن لم تكن له عاقلة كانت الدية في ماله خاصّة يوفّيها في ثلاث سنين، ويرجع هو بدية عينيه على
ورثة الذي ضربه، فيأخذها من
تركته .
وهذا مبني على إطلاق أنّ عمد الأعمى خطأ، وقد تقدم.
هذا كلّه في
جناية القتل ، أمّا جناية الأعمى دون القتل فلم يتعرّض الفقهاء لها صراحةً، إلّا أنّ المستفاد من كلماتهم في مسألة
الاقتصاص منه وعدمه المتقدمة، أنّ الكلام هنا هو نفس ما طرح هناك، أي أنّ في المسألة الأقوال المتقدمة التي ذكرت فراجع.
من شهر
سيفه في طلب أعمى ففرّ من بين يديه ووقع في
بئر ومات،
فالضمان على الطالب؛ لأنّه سبب ملجئ، فإنّ الأعمى لم يعلم ذلك، ولا اختار
إيقاع نفسه في
مهلكة .
لو جني على
عين الأعمى فديته ثلث دية النفس كما صرّح به بعض الفقهاء.
ويدلّ عليه ما رواه
بريد بن معاوية عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «في
لسان الأخرس وعين الأعمى
وذكر الخصيّ وانثييه ثلث الدية».
ولو تصادم الأعميان فماتا فعلى عاقلة كلّ واحد منهما نصف دية صاحبه مخفّفة؛ لأنّ كلّ واحد منهما مات بفعل اشتركا فيه، فالقتل خطأ من كلّ واحد منهما، ولهذا لم يكن على عاقلة كلّ واحد منهما كمال دية صاحبه.
الموسوعة الفقهية، ج۱۵، ص۱۵۰-۱۶۵.