تأثير العقائد والاخلاق في عملية الاستنباط
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تاثیر العقائد والاخلاق في عملیة الاستنباط
مضافاً الی ما ذکر، فانّه لا ینبغی الغفلة عن تاثیر العقائد والمکارم الاخلاقیة التی تمثّل (روح الشریعة وغایة الدین النهائیة) في شفافية استنباط المسائل الفقهیة ایضاً، لانّ الفقیه الذی یملک الایمان القویّ ویتمتّع بالعدالة الاخلاقیة فانّه: اوّلًا: عندما یتحرّک في مقام استنباط الاحکام فانّه یتوخّی غایة الدقّة في ذلک لئلّا یکون مسؤولًا امام اللَّه تعالی، وثانیاً: انّ اشکال الحبّ والبغض والمنافع الشخصیة والفئویة لا یمکنها ان تکون مانعاً وحاجزاً في عملیة استنباط الاحکام، ولهذا السبب فانّه یستنبط في الغالب ما هو اقرب للحقّ والعدل، وما یوافق نظر الشارع المقدّس ویضعه موضع استفادة الناس علی شکل مسائل فقهیة.
والشکل الآخر من التاثیر المتقابل بین الفقه والمسائل الاخلاقیة والعقائدیة هو انّ اهمّ مقولة اخلاقیة هی «العدالة» وتعدّ في ذات الوقت من المقاصد العلیا للدین، وکذلک ملاحظة سائر غایات ومقاصد الدین بعنوانها اصل من اصول الاستنباط التی ینبغی ان یاخذها الفقهاء بنظر الاعتبار.
وتوضیح ذلک: انّ «الفقه» مسؤول عن جمیع تفاصیل منظومة الدین، والفقیه لا یمکنه اصدار رای لا ینسجم مع احد اهداف ومقاصد الدین، مثلًا اذا کانت الفتوی تتقاطع وتتعارض مع اقامة القسط والعدالة الاجتماعیة في الارض، فانّه ینبغی للمسلم ان یتدبّر فيها اکثر ویراجع مرّة اخری خفایا وتفاصیل هذه الفتوی ویکشف بعض خصوصیاتها المتعلّقة بالموضوع الواقعی للحکم لیتمکّن بالتالی من رفع هذا التعارض، وعلی ایّة حال فمن اللازم رعایة اصل «الانسجام مع غایات ومقاصد الدین وروح الشریعة» ولانّها بمثابة اصل من اصول الاستنباط.
علی هذا الاساس فانّ الکثیر من الآیات التی تتناول المسائل الفقهیة وتتحدّث عن بعض احکام الفقه تقترن بالاشارة الی رعایة العدالة واجتناب الظلم والجور، من قبیل الآیة التی تتحدّث في مضمونها عن احکام الطلاق وتنهی عن الاضرار والظلم «وَلَا تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ یَفْعَلْ ذَلِکَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ»
.
وتتحدّث الآیات ایضاً عن النهی عن الاستهزاء بآیات اللَّه، وتدعو لتذکّر نِعَم اللَّه تعالی: «وَلَا تَتَّخِذُوا آیَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْکُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَیْکُمْ وَمَا اَنزَلَ عَلَیْکُمْ مِنَ الْکِتَابِ وَالْحِکْمَةِ یَعِظُکُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا اَنَّ اللَّهَ بِکُلِّ شَیءٍ عَلِیمٌ»
.
کما انّ العلّامة الطباطبائی في ذیل مثل هذه الآیات یصرّح
بانّه یستفاد من مثل هذه الآیات عدم جواز التفریق بین الاحکام الفقهیة والاصول الاخلاقیة بان یکتفي الانسان بخصوص الاحکام الفقهیة ویجمد علی ظواهر العبارات، لانّ في مثل ذلک ابطال مصالح التشریع وزوال الغایة من الدین وزوال السعادة من حیاة الانسان.
ویقول «الغزالی» عن فقیه من فقهاء اهل السنّة هو القاضی «ابویوسف یعقوب بن ابراهیم بن حبیب الانصاری» تلمیذ ابی حنیفة واوّل قاضی القضاة، ویعدّ من کبار فقهاء القرن الثانی: «وقد حکی انّ ابا یوسف کان یهب ماله لزوجته في آخر الحول ویستوهب مالها لاسقاط الزکاة، فحکی ذلک لابیحنیفة فقال:
«ذلک من فقهه»
. ثمّ قال الغزالی: صدق (ابوحنیفة)، فانّ ذلک من فقه الدنیا ولکن مضرّته في الآخرة اعظم من کلّ جنایة ومثل هذا العلم هو الضّارّ».
ومن هذا القبیل ما نراه في کلام الفقیه المعروف صاحب کتاب الجواهر في مقابل فقیه من فقهاء الشیعة الذی افتی فيما یخصّ رجل محبوس في دار غصبیة انّه یجب علیه ان یاتي بصلاته بتلک الکیفية التی دخل فيها لهذه الدار المغصوبة، فان کان واقفاً فيصلّی واقفاً وان کان جالساً فيصلّی من جلوس، بل انّه لا یمکنه ان یتّخذ حالة اخری غیر حالة الصلاة، لانّ ذلک یعدّ تصرّفاً في ملک الغیر بدون اذنه، ویقول صاحب الجواهر: «ولم یفطن انّ البقاء علی الکون الاول ایضاً لا دلیل علی ترجیحه علی ذلک التصرّف، کما انّه لم یفطن انّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً باشدّ ما عامله الظالم، بل حَبسُه ما حَبَسه احدٌ لاحد... وکلّ ذلک یاتي عن عدم التامّل في اول الامر ولانفة عن الرجوع بعد ذلک، اعاذاللَّه الفقه من امثال هذهالخرافات».
موسوعة الفقه الاسلامي المقارن المأخوذ من عنوان «تاثیر العقائد والاخلاق في عملیة الاستنباط» ج۱، ص۳۸-۴۰.