ضرورة دراسة تشيع محي الدين ابن عربي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ضرورة دراسة تشيع الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي قدس سره
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
رب يسر وسهل
نزولاً عند رغبة الإخوة الأعزاء في الجريدة الأسبوعية «أفق الحوزة» المحترمة أقدّم إلى القارئ الكريم مقالاتٍ حول شخصية ابن عربي المثيرة للجدل، وذلك في دراسة جديدة لأفكار هذا العارف الشامخ وآثاره التي وقعت - منذ ظهورها ونشرها في العالم الإسلامي - مورداً للمدح والذم والنقض والإبرام وبالتالي مورد اهتمام للنخب الفكرية من أصحاب المعتقدات المختلفة من المسلم والكافر والمشرك والنحل الإسلامية المتنوعة من الشيعة والسنة والفقيه والأصولي والمؤرخ والمتكلم والفيلسوف. وقد دخل مرحلةً جديدةً في العصر الحالي وفي البيئة الشيعية، لاسيما في الحوزة العلمية وذلك من منطلق الالتفات إلى الرسالة التأريخية لقائد الثورة الراحل ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية آية الله الخميني رضوان الله تعالى عليه إلى غورباتشف في الأول من كانون الثاني ۱۹۸۹ وقد أكد فيها على ضرورة فهم الإسلام من نافذة أفكار وآراء هذا العارف العظيم، وكذلك بالدفاع الحماسي والقوي من العالم الرباني والعارف الإلهي المرحوم الحاج السيد محمد الحسين الطهراني رحمة الله عليه في كتاب الروح المجرد قبل أكثر من سبعة عشر عاماً.
إن السؤال الذي يجول في ذهن كل باحث في بادئ الأمر هو أنه لماذا يتأثر جزء كبير من الفلاسفة والعرفاء، بل فقهاء الشيعة بأفكار ابن عربي؟ حيث أنهم إما يحذون حذو القائد الراحل للثورة حيث لا يوصي النخب الفكرية والعلماء الروسيين بمطالعة آثار ابن عربي أو ملا صدرا الشيرازي (والذي تعتبر فلسفته عبارة أخرى عن الفتوحات والفصوص وقد كان مفتوناً ومجذوباً لآثار ابن عربي) فحسب، وإنما يوصيهم بتحصيلها العلمي ودراستها وتعلّمها، بدلاً عن إرجاعه إياهم إلى الكتب الكلامية مثل شرح التجريد أو الشوارق أو شرح الباب الحادي عشر أو كتب التفسير أو الموسوعات الروائية. وذلك بشرط أن يأتي هؤلاء النخب إلى حوزة قم العلمية ويثني بركبتيه أمام أساتذة الفن كي يتعرف على أفكاره شيئاً فشيئاً، فيتعرف على الإسلام في نهاية المطاف.
وإما يحذون حذو المرحوم العارف الإلهي السيد الطهراني رضوان الله عليه الذي ضحّى - في أواخر حياته - بوجاهتِه وبماء وجهه (الذي كسبه في سبعين سنة) في سبيل الدفاع عن ابن عربي والتوكيد على تشيعه، مما أثار تألم جمع من أصدقائه الحوزويين القدامى فجعل من نفسه هدفاً لسهام المناقشة وترساً لشتى أنواع الاعتراض.
حقاً كيف يمكن المرور مرور الكرام على وله القائد الراحل للثورة آية الله الخميني نحو ابن عربي؟
سوف يكون تعجبنا من فتور بعض مفكري الحوزة منطقياً جداً في ضوء الالتفات إلى نكتتين:
أ- الإمبراطورية الحمراء إلى الانهيار بعد أن حاربت اللهَ ومدرسةَ الأنبياء مباشرةً لأكثر من سبعين سنة، وقمعت جميعَ مظاهر عبادةِ الله، والتي تحظى بعشرات الملايين من الموالين خارج حدودها وبالرغم من جيشها القوي جداً وامتلاكها الأسلحةَ النوويةَ وانضمامها إلى نفسها عدةَ دولٍ إسلامية وسيطرتِها السياسية على نصف العالم، ريثما ينتظر مئات الملايين من الناس سواء المسلم وغير المسلم استشمامَ النسيم المنعش للإسلام الحقيقي خلفَ القضبان الحديدية، وقد تهيأت وتوافرت جميع الظروف لتدخّل الجمهورية الإسلامية الإيرانية الثقافي باعتبارها أقوى دولة إسلامية - من الناحية الإيديولوجية - تكونت عقيبَ ثورةٍ شعبية بطابع إسلامي يقودها زعيمٌ ديني، فيا تُرى ما هي التوجيهات التي ستقدمها القيادة الإيرانية إلى قادة الروس ونخبها وشعبها؟!
ب- إن زعيم إيران السياسي مع أنه رجلّ مسنّ وهرِمٌ على عاتقه مسؤولية الزعامة الدينية للشيعة في إيران وخارج حدود الجمهورية الإسلامية، وقد أسس جمهوريةً إسلامية في إيران ويقود إلى جانبها النضالَ ضد أمريكا في العالم الإسلامي، وهناك مئات الملايين من الشيعة في جميع أنحاء العالم يوفقون بين أعمالهم الظاهرية (العبادات والمعاملات) وفتاواه ليلاً ونهاراً، وإن لم يكونوا من مقلديه فينظرون إليه نظرة إجلال وإكرام لكونه مرجعَ تقليدٍ لديه محنّك قام بتربية مئات التلاميذ من الفضلاء والمجتهدين كما أنه من ذُرّية الرسول الأكرم ’ ويحمل على كتفه لواء فخر الشيعة في القرن العشرين، وهم مستعدون لتقديم أي نوع من التفاني والتضحية لتحقيق أهدافه الإسلامية العُليا، وذلك بإذن من مراجع تقليدهم، المرجع الذي بإشارةٍ منه يضحي الملايين من الشيعة بأرواحهم ويغضون الطرف عن الغالي والنفيس في مختلف الجبهات في إيران ولبنان والعراق وأفغانستان وذلك شوقاً للشهادة في سبيل الله.
والآن يأتي هذا الفقيه صاحب هذا التأريخ والمكانة ويقول للنخب الروسية وعلمائها: ابحثوا عن الإسلام الحقيقي في أفكار ابن عربي - وللأسف قام أحد الحوزويين أخيراً (أي: بعد رحيله بثلاثة عشر سنة) بتأليف كتاب في إثبات تسننه وعدائه لأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام - لا الكتب الكلامية لعلماء الشيعة. علامَ ابتنت هذه الحركة من القائد الراحل والرجل المثير للجدل في القرن العشرين والمؤسس لأول حكومة شيعية مبتنية على ولاية الفقيه في عصر الذرة والإلكترونيك والإنترنت؟ وإلامَ كانت تهدف؟ وهل تحقق هذا الهدف أو لا؟ وهل كان للحوزة دورٌ في تحقق أو عدم تحقق أهداف هذه الرسالة؟ وأساساً هل الرسالة كانت تهدف إيصال رسالةٍ إلى الشعب الروسي وعلمائها أو كانت تحمل في طياتها رسالةً غير مباشرة لنا نحن الحوزيون؟!
يجب القول ببالغ الحزن والأسى: إن الحوزة بشكل عام - وخلال السنوات العشرين والنيف الماضية التي تمر على رسالته التأريخية والذكية - تعاملت مع هذا الموضوع ببرودةٍ بل إن بعض الحوزيين تعاملوا معه بحدةٍ. فقد عقدت عشرات المؤتمرات والندوات (خلال هذه السنوات الاثنين والعشرين) في الحوزة وفي غيرها بشأن أفكار القائد الراحل للثورة آية الله الخميني رضوان الله تعالى عليه، وقد أنفقت عليها مليارات التوامين، ولكن لم يسبق لهذه المسألة أن تطرح أو تدرس جذورها، وهذا ما يبعث على السؤال والعَجَب بل يبعث على العار والشنار!
البعض يعتبر الرسالة حركةً فردية وشخصيةً تفتقد إلى أساس سليم، والتي لا تبت بمباني التشيع بصلة، أو أنها تناقضها، وفي نهاية المطاف يجب أن تحتسب كباقي فتاواه أو أحكامه الحكومية ومن الطبيعي أن تنتفي ضرورةُ اتباعها برحيل مرجع التقليد والحاكم الإسلامي. هذه الفئة من الحوزويين يقول بصراحة: هذه الرسالة تختص بزمن حياته وبرحيله تفقد الرسالة تأثيرها.
وجماعة أخرى تعتبر أن مفاد الرسالة سياسي تمت كتابتُه لاجتذاب قلوب السنة داخلَ وخارج إيران، فطبيعي أن تكون عُرضةً للتغيير والامتقاع مع التطورات السياسية.
وقال أحد مدرسي الحوزة في تحليل الدافع لكتابة الرسالة: إنه فرّغ بغتةً ما كدسته نفسه من العُقَدِ في بضعة عقود من الزمن. فبهذا الاعتبار حسبوا أن الحافز أمرٌ نفسي، بل إنها من العقد العتيقة التي أكلت عليها عقود من السنين والتي أنتجها تعامل المخالفين للعرفان والفلسفة معه في قم والنجف.
وآخرون يعتبرون الرسالة الأخيرة دليلاً على رغبته نحو التسنن وهؤلاء هم الذين لم تكن تربطهم - منذ بداية الثورة أو من منتصفها - علاقةٌ حسنة بسماحته أو بالثورة.
وأخيراً هناك مجموعة من المفلسين سياسياً أو المعارضين يعتبرون الرسالة الآنفة الذكر دليلاً على كفره وإلحاده، ويقومون بذمّه وشتمه في المجالس الخاصة خوفاً من رد فعل المحبين الحادّ ومن التداعيات الفادحة أو غير الواضحة وذلك إيماناً منهم بأن الحل في صراع حادّ علنيّ مع ابن عربي، والذي يتطلّب تَعرُّضَ الرسالةِ وكاتبِها للتأنيب، واتهامَهُ بالكفر والإلحاد.
ويلاحظ هنا أن هذه المجموعة تناغمت مع الوهابية؛ لأن أحد الأسباب الأساسية لعداء الوهابية لقائد الثورة الراحل هو اعتقاد سماحته بابن عربي، وقد كتبوا في هذا المجال عشرات الكتب ومئات المقالات ومواقعهم مليئة بالسباب والشتائم للذب عن ابن عربي، حتى أن قائد الحماس السيد خالد مشعل رُمي بالكفر لدفاعه عن آية الله الخميني وإعلانِه أنني الابن الروحي لآية الله الخميني وذلك لاعتقاد القائد الراحل بأفكار ابن عربي، وعلى كل حال فإن هذه المجموعة من المدعين للولاية والذب عن التشيع متناسقون مع الوهابية.
وقد ذكرت أفكار أخرى حول هذه الرسالة سنتطرق إليها في المقالات اللاحقة.
الحقيقة هي أن انبهار وافتتان القائد الراحل للثورة والمؤسس للجمهورية الإسلامية لشخصية ابن عربي وأفكاره العرفانية حلقةٌ من سلسلة مترابطة من انجذاب أصحاب العرفان الفقاهتي من الشيعة منذ بروز نجمه. وعليه فإن آية الله الخميني رضوان الله تعالى عليه ليس نسيجاً منفصلاً عن ظاهرة العرفان الفقاهتي حتى يمكن المرور الكرام على توصياته المباشرة للنخب الروسية وغير المباشرة للنخب الحوزية في الرجوع إلى أفكار ابن عربي لمعرفة الإسلام الحقيقي، وحتى يمكن القيام - وخلال ۲۲ سنة - بالمقاطعة الكاملة لهذه النصيحة المنبعثة من أعماق القلب وفي السنوات الأخيرة من حياته الدنيوية إلى كل من الكفار والمسلمين ونخب الطائفتين مباشرة وغير مباشرة.
إن للعرفان الفقاهتي الذي له جذور عميقة في الفكر الشيعي قد تمخّض عن الكتاب والسنة وروايات أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام والتجارب الروحية لأتباعهم - والذين عُرفوا بالأولياء - وله تأريخ حافل.
أتذكر أنني كنت في حضور أحد أساطين الفقه والأصول في النجف وقم - والذي يتشرف الحقير بحضور بحثه في الدراسات العلياء - وذلك قبل أكثر من عشرين عاماً - فدار الحديث حول ابن عربي فقال: «إن العرفان ظهر في الأوساط الشيعية بعد ابن عربي، ولم يكن لنا عهد بالعرفان الشيعي قبله»، فهذا القول أدى إلى أن يقوم كاتب هذه الأسطر بتأليف كتاب «معجم طبقات عرفاء الشيعة حتى القرن العاشر» وكان السبب في الاكتفاء بالقرن العاشرِ صعوبةُ استقصاء أسماء جميع عرفاء الشيعة وترجمتهم بعد هذا القرن.
فأشير في هذه العُجالة إلى العرفان الفقاهتي للشيعة الاثنى عشرية منذ زمن ابن عربي حتى القرن العاشر - وذلك بأسلوب موجز - وكذلك أشير إلى العرفان الفقاهتي في القرن الأخير؛ حيث دراسته على نطاق واسع تتطلّب مجلدات من الكتب، مما هو خارج عن قدرة الكاتب وحدَه.
فتمهيداً لذلك نقول بأن بالإمكان تقسيم تأريخ عرفاء الشيعة إلى ثلاث حقب:
الحقبة الأولى: وهي التي تبدأ منذ زمن الأئمة المعصومين عليهم السلام وتستمر إلى بداية القرن السابع، أي: قبل ظهور ابن عربي وأفكاره العرفانية.
الحقبة الثانية: وهي التي تبدأ بظهور ابن عربي وتستمر إلى نهاية القرن العاشر، بل إلى أواسط القرن الحادي عشر الهجري، أي: زمن ظهور ملا صدرا الشيرازي والحكمة المتعالية.
الحقبة الثالثة: وهي التي بدأت منذ زمن صدر المتألهين وبقي مستمراً إلى يومنا هذا.
إن الأساس العلمي لهذا التصنيف هو التطورات التأريخية التي حدثت في العرفان الإسلامي تأريخياً؛ فإن عرفاء الشيعة في الحقبة الثانية مفتونون بشكل عام بأفكار محيي الدين المتبلورة في الفتوحات والفصوص ومعتقدون بها،
وفي الحقبة الثالثة نظرا إلى أن الحكمة المتعالية هي صورة فلسفية وبرهانية لعرفان ابن عربي وقد استقطب جزءا كبيراً من فلاسفة الشيعة فضلاً عن العرفاء ويقود إلى أفكار ابن عربي، وقد وَفَّق بين العرفان والفلسفة التي أسيئت معاملتُها في الحقبة الأولى من جانب الغزالي أو شهاب الدين السهروردي في كتابه «عوارف المعارف» ويشجع محبيه للعرفان النظري المتمثِّل في تمهيد القواعد ومصباح الأنس وشرح الفصوص وذلك بعد تعلّم الحكمة المتعالية.
وهكذا فإنه يربي كتلة من العلماء الإماميين المعروفين بعرفاء العرفان النظري، وإن لم يكن إحصاء هؤلاء مستحيلاً فعلى أقل تقدير صعب جداً. إن الحكمة المتعالية يسهل الطريق لعامة العلماء لاسيما لفقهاء الشيعة كما ينمّي العرفان الفقاهتي كمياً ونوعياً، لطالما أن مجموعة من مراجع تقليد الشيعة باتوا من أصحاب الآراء ومناصب التدريس في كل من فرعي العرفان (العملي والنظري) والفلسفة، وإن لم يكونوا قد تصدّوا لتدريس الفلسفة والعرفان فعلى أقل تقدير قد درسوهما، أو أنهم متحمسون ومعجبون بهما.
توفى ابن عربي في ۶۳۸ في دمشق وذلك بعد إقامة دامت بضعاً وعشرين سنةً، وقد كانت مجموعة من تلاميذه من الشيعة مثل ابن العديم الحلبي صاحب «تأريخ حلب» وكذلك صدر الدين القونوي، ولكن يبدو عدم ارتباطهم بحوزات الشيعة الفقاهتية. فقد قام الراحل السيد محسن الأمين العاملي في «أعيان الشيعة» بدراسة مفصلة ومستدلة حول تشيع «آل الجرادة» الذي ينتمي إليه ابن العديم، وكذلك شرح راقم هذه الأسطر تشيُّعَ صدر الدين القونوي بالتفصيل في مقدمة شرح الأسماء الحسنى والذي هو من تصانيف القونوي، ولا نقاش في أن حوزة حلب كانت إلى أواخر القرن السادس من الحوزات الشيعية النشيطة، ولا جدال أيضاً في وجود شواهد وقرائن على تشيع ابن العديم في تأريخ حلب، ولكن حيث لم تثبت علاقته الكاملة بحوزة حلب العلمية ولم يؤلف كتاباً في فقه الشيعة وعقائدها فامتنع عن ذكره في عداد أصحاب العرفان الفقاهتي، ولكن المحقق الطوسي الذي كان في هذا القرن من الشيعة البارزين والذي بإشارته اجتاح هلاكوخان المغول بغدادَ وأطاح بالخلافة العباسية العريضة فأدى ذلك إلى إخماد الخلافات الطائفية التي دامت بين الشيعة والسنة لقرون، والمحقق الطوسي هذا، قد تولّى شؤون الأوقاف من قِبَل هلاكو وعزّز بها دعائم الشيعة، وكانت تربطه علاقات قوية بصدر الدين القونوي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخواجة الطوسي وإن اشتهر بكونه فيلسوفاً مشائياً ولكن الحقيقة هي أنه يعتبر من عرفاء الشيعة، وتبدو نزعاتُه العرفانية جليةً جداً من خلال رسالته «أوصاف الأشراف»، وكذلك تظهر معرفته بمبادئ العرفان العملي من خلال شرحه للإشارات لا سيما النمط التاسع الخاص بأهل العرفان. والأهم من ذلك مراسلاتُهُ مع صدر الدين القونوي وإظهار التواضع والإخلاص مقابله، وكذلك إرسال مكاشفاته العرفانية إلى حضور هذا العارف الشهير، فعلى الراغبين المراجعة إلى المكتوبة الثمينة جداً للراحل المدرس الرضوي وكذلك إلى المجلد الأول من القول المتين في تشيع الشيخ الأكبر محيي الدين.
إن المحقق الطوسي كان يعرف حُكماً أن كل ما يمتلكه القونوي فهو من ابن عربي، وقد قادت شهرةُ معارف ابن عربي المحققَ الطوسي نحو المراسلة مع صدر الدين القونوي، وكذلك علاقته العميقة بصدر الدين الجويني نجل الشيخ سعد الدين الجويني الذي يعتبره جمعٌ من عرفاء الشيعة بالرغم من عدم كتابته في فقه الشيعة وأصولها ومعتقداتها، على أن تفصيله مذكور في المجلد الأول من القول المتين.
إن الشيخ صدر الدين الجويني يروي عن المحقق الطوسي في مسجد الكوفة وهذا ما أورده في «فرائد السمطين»، وإن الشيخ سعد الدين والد الشيخ صدر الدين الجويني هو السبب الرئيسي لتشيع المغول في إيران، وبفضل جهوده وحكمته اعتبرت الحكومة الإيلخانيةُ المذهب الشيعي الإثنى عشري في عهد «محمد خدا بنده» مذهباً رسمياً في البلاد وضرب عملات معدنية باسم الأئمة الاثنى عشر.
وصدر الدين نفسه أجرى عقد الأخوة مع السيد ابن طاووس آنذاك وفي حوزة الحلة العلمية التي كانت تتمتع بنشاط عالٍ، وهذا يمثّل تجاوبَ الحوزة العلمية وتؤانسها مع أهل العرفان.
ويمكن العثور - أثناء قراءة كتاب «معجم الآداب» تأليف ابن الفوطي - على ترجمة عدد من عرفاء الشيعة في القرن السابع، أحدهم تاج الدين عبد الله بن معمار البغدادي المعروف بابن المعمار صاحب «مسمار العقيدة» والذي يذكره ابن الفوطي باسم العارف الواصل. وابن فوطي هذا يذكر شخصاً باسم قوام الدين أبي الفضل هبة الله ابن محمد ابن أصيل الدين عبد الله (۶۴۲-۷۲۳ ) والذي كان من علماء الشيعة ومتصوفيهم في إصفهان.
واحد من مشاهير عرفاء الشيعة في هذا القرن والذي هو من أصحاب العرفان الفقاهتي أيضاً هو ابن ميثم البحراني حيث يعتبر شرحه لنهجَ البلاغة شرحاً فلسفياً وعرفانياً لكلمات إمام العارفين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبالإمكان ملاحظة قمة نزعاته العرفانية في شرح مائة كلمة من أمير المؤمنين.
قد ذكروا في ترجمته أنه كان أستاذ المحقق الطوسي في الفقه تتلمذ الفلسفة على يده، وقد صرح فخر المحققين نجل العلامة الحلي الذي هو أستاذ السيد حيدر الآملي في العلوم النقلية في إجازة مفصلة كتبها للسيد حيدر الآملي أنه قرأ كتاب «شرح نهج البلاغة» لابن ميثم عليه قراءة مرضية، ويدل هذا على أن الشرح العرفاني والفلسفي لابن ميثم كان يُدرّس في الحوزة العملية في القرن الثامن.
ويمكن ذكر شخصيتين بارزتين في العرفان الفقاهتي أيضاً وهما شيخ الإسلام الملا عبد الصمد النطنزي (المتوفى في ۶۹۹) وتلميذه الملا عبد الرزاق الكاشاني (المتوفى في ۷۳۶). إن مدينة كاشان وأريافها كانت على مر التأريخ معقلاً للشيعة بشهادة المؤرخين، و>نطنز» كانت تعتبر من أرياف كاشان وقصباتها، بالإضافة إلى الشيخ البهائي الذي شهد بتشيع كليهما وَفقاً لتقرير «أصول الفصول»( ).
وللملا عبد الرزاق شرح جامع لفصوص ابن عربي وله شرح رائع لمنازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري، وقد طبعت مؤخراً مجموعة مؤلفاته ومصنفاته بواسطة واحد من فضلاء حوزة إصفهان العلمية. وهو أستاذ للقيصري الشارح المعروف لـ>فصوص الحكم».
يذكر السيد حيدر الآملي بعض عرفاء الشيعة في أصفهان والنجف الأشرف، من الذين تتلمذ على أيديهم وحكماً يجب أن يكونوا أكبر منه سناً فينتمون إلى أواخر القرن السابع، وهؤلاء الأشخاص لم يكونوا لوحدهم وحسب القاعدة كان لهم أساتذة وتلامذة لم يذكروا في التأريخ أو ذكروا ولم تصل أسماؤهم إلينا.
إن السيد حيدر الآملي يذكر في تفسيره الشيخَ العارف نور الدين الإصفهاني الطهراني الذي كان أستاذه في السير والسلوك ولبس خرقة التصوف، فقد كان هذا العارف المجهول يعيش في أصفهان، ويجب الالتفات إلى أن إصفهان القرن الثامن أو إصفهان القرون السابقة كانت تختلف من الناحية المذهبية، فقد كانت الشيعة هناك ذا قدرة ونفوذ وتأثير، وقد حدث هذا التحول في فترة الإيلخانيين. يقول السيد حيدر:
واجتمعت بخدمة المشايخ الذين كانوا فيه ووقع من بينهم عقد الأخوة والفتوة بيني وبين الشيخ الكامل المحقق نور الدين الطهراني وهي قرية على باب إصفهان من طرف دردشت ويسمونها العوام تيران.
كما أنه يذكر عارفاً كاملاً في النجف الأشرف قد تعلّم لديه شرح الفصوص للقيصري وشرح منازل السائرين للتلمساني، واسمه عبد الرحمن ابن أحمد القدسي.
والمثير للالتفات أن السيد حيدر الآملي كتب شرحه للفصوص - الذي كتبه في أواخر حياته وفي النجف الأشرف - تلبية لطلب بعض المحبين للعرفان والذين كانوا قد مارسوه في كلا قسميه العملي والنظري، فمن كانوا هؤلاء المجموعة الذين درسوا شرح الجندي والكاشاني والقيصري بشكل جيد ولكن لم تقنعهم هذه الشروح؟! مضافاً إلى أن هؤلاء الأفراد قد دُلّوا إلى السيد حيدر الآملي عن طريق المشاهدات القلبية، وكانوا قد درسوا أكثر مصنفاته وعرفوا صلاحيته لكتابة شرح تفصيلي للفصوص.
إن هذا التقرير بكامله يوحي إلى وجود مجموعة من أهل العرفان في حوزة النجف الأشرف في أواخر القرن الثامن، الذين كانوا يعرفون أساتذة آخرين غير السيد حيدر الآملي.
ومن جانب آخر كان فخر المحققين زعيم الحوزة العلمية بحلة من المعجبين بالسيد حيدر الآملي، ويكتب فيه:
قرأ على المولى السيد الأعظم الإمام المعظم أفضل العلماء في العالم أعلم فضلاء بني آدم، مرشد السالكين، غياث نفوس العارفين، محيي مراسم أجداده الطاهرين، الجامع بين المعقول والمنقول، والفروع والأصول، ذو النفس القدسية والأخلاق النبوية، شرف آل رسول رب العالمين، ركن الملة والحق والدين...
فقد كانت حوزة حلة العلمية آنذاك متوفقة على جميع الحوزات العلمية الشيعية، وطلاب علوم أهل البيت عليهم السلام كانوا يقصدون حلة للدراسة، فانبهار زعيم هذه الحوزة - الذي هو نجل العلامة الحلي - للسيد حيدر الآملي يكشف عن عدم وجود مشكلة بين الحوزة والعرفان الفقاهتي بل يمثل انبهار وأصحابها وافتتانهم. ومعنى ذلك أن تدريس العرفان العملي والنظري وتعلمهما والتدرّب عليهما كان محط قبول وتأييد من قبل عظماء الحوزة وزعمائها. وقد كان هذا نموذجاً بسيطاً وقليلاً جداً من عمق التأريخ الفقاهتي في الحوزات العلمية، والذي لا يمكن فصله عن كيان الحوزة بعدة محاضرات في مدرسة الراحل آية الله الكلبايكاني &.
وأي فرق يمكن أن يوجد في المسائل التوحيدية بين كلمات ابن عربي والسيد حيدر الآملي حتى يمكن الفتوى بإلحاد الأول ونسكت عن الثاني؟! وهل يمكن اعتبار فخر المحققين من المستضعفين فكرياً؟ وحقاً كيف يجب التصرّف مع هذا العرفان الفقاهتي الذي له جذور تأريخية تمتد لأكثر من ألف سنة في الحوزات العلمية للشيعة.
ولندع جانباً عائلة ابن تركة الذين كانوا يعيشون في إصفهان، وكانوا من مفاخر الشيعة ومن الشخصيات البارزة للعرفان الفقاهتي في القرن الثامن.
الشيخ قاسم الطهراني
ابن عربي للدراسات الإسلامية