إذن الإمام للقاضي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
واعلم أنّه لا بُدّ مع اجتماع الشرائط من
إذن الإمام (علیهالسّلام) بالقضاء لمستجمعها، خصوصاً أو عموماً، ولا يكفي مجرد اجتماعها فيه ولا ينعقد
القضاء بنصب العوام له؛ نعم لو تراضى اثنان بواحد من الرعية فحكم بينهما لزم؛ ومع عدم الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء
أهل البيت (عليهم السلام)، الجامع للصفات.
واعلم أنّه لا بُدّ مع اجتماع الشرائط من
إذن الإمام (علیهالسّلام) بالقضاء لمستجمعها، خصوصاً أو عموماً، ولا يكفي مجرد اجتماعها فيه إجماعاً؛ لما مضى من اتفاق
النص والفتوى على اختصاصه (علیهالسّلام) بمنصب القضاء، فلا يجوز لأحد التصرف فيه إلاّ بإذنه قطعاً.
ومنه ينقدح الوجه فيما اتفقوا عليه من أنّه لا ينعقد
القضاء بنصب العوام له أي: لمستجمع الشرائط، وغيره بالطريق الأولى بينهم قاضياً.
لكن روى
الكشي في عروة القتات ما يشير إلى الجواز، وفيه: قال: قال
أبو عبد الله (علیهالسّلام): «أيّ شيء بلغني عنكم؟» قلت: ما هو؟ قال: «بلغني عنكم أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة» قال: قلت: نعم جعلت فداك، رجل يقال له: عروة القتات، وهو رجل له حظّ من عقل، نجتمع عنده فنتكلم ونتساءل، ثمّ نردّ ذلك إليكم، قال: «لا بأس»
.
إلاّ أنّ سنده قاصر بالجهالة، بل ودلالته أيضاً ضعيفة؛ إذ ليس نفي البأس فيه إلاّ عما ذكره
الراوي وفسّر به نصبهم القاضي من الاجتماع إليه للتسائل والتحادث والردّ إلى الأئمّة:، وهو غير الاستقضاء له والتحاكم إليه، ولا ينافيه قوله (علیهالسّلام) في الصدر: «أقعدتم قاضياً» لما مرّ من نقل الراوي وبيانه لإقعاده وأنّه ليس للقضاء الحقيقي، بل لما مرّ، ونفي البأس إنّما تعلّق به لا بالاستقضاء الحقيقي، بل ربما دل قوله (علیهالسّلام): «أيّ شيء بلغني» على نوع إنكار لما بلغ إليه من إقعاده قاضياً، حيث إنّ المتبادر منه كونه قاضياً حقيقياً، ففيه تأييد لما ذكره
الأصحاب جدّاً، فلا شبهة فيه أصلاً.
نعم لو تراضى اثنان خصمان بواحد من الرعية، فحكم بينهما لزم حكمه في حقهما في المشهور بين أصحابنا، بل لم ينقلوا فيه خلافاً أصلاً، مستندين إلى وقوع ذلك في زمان
الصحابة ولم ينكر أحد منهم ذلك.
وفحوى النبوي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): «من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله»
.
وأرى البحث في هذه المسألة قليل الفائدة، بناءً على اختصاصها بزمان حضوره (علیهالسّلام) دون غيبته؛ وذلك لإجماعهم على الظاهر المصرح به في
الروضة والمسالك على اشتراط الحكم فيها باستجماع الواحد الذي إليه تحاكما وبه تراضيا لجميع
صفات القاضي المنصوب من قبله (علیهالسّلام)، وشرائطه التي قدّمناها، سوى نص من له
الولاية، بالعموم، أو الخصوص.
وفرضه في زمان
الغيبة غير متصور، بناءً على ما سيأتي من تحقق الإذن العام في القضاء لمن استجمع تلك الشرائط، فإذا حصلت حالتها في رجل كان مأذوناً، وإن فقدت فيه لم يجز له القضاء مطلقاً، ولو كان الإمام حاضراً، هذا.
وفرضه في زمان الحضور مشكل أيضاً، بناءً على أنّ ما تضمن الإذن في القضاء لمستجمع الشرائط عام غير مختص بحال الغيبة، بل يشمل ما لو كان (علیهالسّلام) حاضراً، فكيف يتصور وجود مستجمع للشرائط حالة الحضور لم يكن من قبله (علیهالسّلام) مأذوناً؟
نعم يتصور فرض ذلك لو اشترط الإذن الخاص في زمان الحضور كما هو ظاهر، ولكن الدليل المتضمن للإذن له عام كما قدّمنا، أو لم يشترط فيه اجتماع جميع الصفات والشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب، كما هو ظاهر
الشهيد في
اللمعة.
ولكنّه خلاف ما وقفت عليه من عبائر الجماعة،
كالماتن في
الشرائع وشيخنا الشهيد الثاني في شرحه
والفاضل في
الإرشاد والقواعد وولده في شرحه
والفاضل المقداد في شرح الكتاب
والشهيد في
الدروس، وغيرهم من الأصحاب
، حتى أنّ شيخنا الشهيد الثاني كما عرفت ادّعى عليه
الوفاق.
ويمكن أن يقال: إنّ ما دلّ على الإذن العالم لم يصدر إلاّ عن
الأئمّة (علیهمالسّلام)، وحضورهم في زمانهم كغيبتهم؛ لعدم بسط يدهم وسلطنتهم، وعدم نفوذ حكمهم، فلا يشترط الإذن الخاص في زمانهم، وحينئذ يختص تصور وجود قاضي التحكيم الذي هو مورد المسألة بزمان
النبي (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم): حيث إنّه لم يكن فيه
تقية، بل كان نافذ الحكم على جميع البرية، ويكون المراد بحضوره المشترط فيه الإذن الخاص لنصب القاضي الحضور الخاص الذي ينفذ حكمه فيه، ويكون غيره في معنى الغيبة.
وبذلك صرح جماعة ومنهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك، حيث قال بعد قول الماتن: ومع عدم الإمام ينفذ قضاء
الفقيه من فقهاء
أهل البيت (صلواتاللّهعليهمأجمعين): الجامع للصفات المشترطة في الفتوى؛ لقول
أبي عبد الله (علیهالسّلام): «فاجعلوه قاضياً فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه» ولو عدل والحال هذه، إلى قضاة الجور كان مخطأ ما لفظه:
ما تقدم من اشتراط نصب القاضي وإن كان فقيهاً مجتهداً وعدم نفوذ حكمه إلاّ مع
التراضي به مختص بحال حضور الإمام وتمكّنه من نصب القضاة، أمّا مع عدم ذلك إمّا لغيبته أو لعدم بسط يده فيسقط هذا الشرط من جملة الشروط، وهو نصب الإمام
. انتهى. ووجهه يظهر ممّا قدّمناه.
ثمّ قال: وينفذ عندنا قضاء الفقيه العدل الإمامي الجامع لباقي الشرائط وإن لم يتراض الخصمان بحكمه؛ لقول أبي عبد الله (علیهالسّلام) لأبي خديجة: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم قاضياً، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه».
إلى أن قال: وقريب منها رواية
عمر بن حنظلة: قال: سألت أبا عبد الله (علیهالسّلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في
دين أو
ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحلّ ذلك؟ فقال: «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقه ثابتاً؛ لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله تعالى أن يكفر به» قلت: كيف يصنعان؟ قال: «انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حاكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردَّ، والرادّ علينا الرادّ على الله تعالى، وهو في حدّ
الشرك بالله تعالى»
.
وفي طريق الخبرين ضعف ولكنّهما مشتهران بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونهما، فكان ذلك جابراً للضعف عندهم
. انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
وهو كما ترى قد كفانا مئونة الاشتغال لشرح ما هنا، إلاّ أنّ ما ذكره من الضعف في الرواية الثانية محلّ مناقشة؛ إذ ليس في سندها سوى داود بن الحصين، والنجاشي قد وثّقه
، وعلى تقدير ثبوت وقفه كما ذكره
الشيخ وابن عقدة فهو موثّق، لا ضعيف كما ذكره. وعمر بن حنظلة، وهو ممّن قد حكي عنه بأنّه وثّقه
، هذا.
مع أنّ في
السند قبلهما
صفوان بن يحيى، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة
.
وبالجملة فالرواية قويّة غاية القوة كالصحيحة
حجة في نفسها، مع قطع النظر عن
الشهرة الجابرة.
وبها يُعارض جماعة في استدلالهم بالرواية الأُولى على جواز التجزّي في
الاجتهاد؛ لمكان قوله فيها: «يعلم شيئاً من قضايانا».
وذلك لدلالة الرواية الثانية على اعتبار المعرفة بالأحكام جملة؛ لمكان الجمع المضاف، وهو حيث لا عهد يفيد العموم لغة، وهي كما عرفت بحسب السند معتبرة، ولا كذلك الرواية الأُولى؛ لأنّها بالاتفاق ضعيفة، لأنّ في سندها معلّى بن محمّد وأبا خديجة وحالهما في الضعف مشهورة، والشهرة الجابرة مشتركة فقوّة السند في الأخيرة مرجّحة.
هذا بعد تسليم دلالتها، وإلاّ فهي ممنوعة يظهر وجهه بالتدبّر فيما ذكره الخال العلاّمة أدام الله تعالى ظلّه في بعض حواشيه ردّاً على بعض هؤلاء الجماعة، فقال: لا نزاع في أنّ العلم بجميع الأحكام ليس شرطاً في
الفتوى والاجتهاد، كيف؟ وهو من خواص
الشارع، بل النزاع إنّما هو في اشتراط الاطلاع بجميع مدارك الأحكام والقدرة على استنباطها، ومنها التوقف، كما لا يخفى على المطلع بأحوال
المجتهدين الذين لا تأمّل في اجتهادهم، بل لا يوجد مجتهد إلاّ ويتوقف في بعض المسائل، بل وغير واحد منها.
فعلى هذا لا دلالة للرواية على التجزّي، بل على أنّ العالم ببعض الأحكام مجتهد وقوله فيه حجة، والمانع للتجزّي يمنع حصول العلم ببعض الأحكام للمتجزّي إلاّ أن يدعي ظهور العلم ببعضها من دون الإحاطة بجميع المدارك في ذلك الزمان.
لكن لو تمّ هذا بحيث ينفع محلّ النزاع يكون هو الدليل من دون مدخلية الرواية. ثم أطال سلّمه الله تعالى في وجه منع المانع للتجزّي عن حصول العلم للمتجزّي، ويرجع حاصله إلى ما قدّمنا تحقيقه قريباً، هذا.
وذكر شيخنا في المسالك أنّه لا يكفي اجتهاد القاضي في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزّي الاجتهاد أيضاً
. ولم ينقل فيه خلافاً، وظاهره يعطي الاتفاق على المنع من قضاء المتجزّي.
وينبغي
القطع به مع وجود المجتهد المطلق والتمكّن منه؛ للأمر بالرجوع إلى الأعلم في
مقبولة عمر بن حنظلة الطويلة، ونحوها من أخبار كثيرة
.
وما يستفاد من الروايتين من حرمة التحاكم إلى حكّام الجور مجمع عليه بيننا، وغيرهما من الروايات مستفيضة به بل
متواترة جدّاً
؛ مضافاً إلى
الآية الكريمة المذكورة فيها
. ويستفاد منها عدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّا، وهو في الدين ظاهر، وفي العين مشكل، لكن العموم مقتضاهما.
وفي المسالك وغيره
استثنى من الحكم بتخطئة التحاكم إليهم ما لو توقّف حصول حقّه عليه فيجوز، كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحق بغير القاضي، قال: والنهي في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختياراً مع إمكان تحصيل الغرض بأهل الحق، قال: وقد صرّح به في خبر
أبي بصير عن أبي عبد الله (علیهالسّلام) قال: «أيّما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلاّ أن يرافعه إلى هؤلاء: كان بمنزلة الذين قال الله عزّ وجل «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ»
»
الآية. انتهى.
وظاهرهما عدم الخلاف حيث لم ينقلاه فيه
كالفاضل في
المختلف، لكن في صورة ما إذا كان أحد المتخاصمين محقّاً والآخر مخالفاً، وأمّا في صورة كونهما محقّين، فقد نقل القول بمنعهما عن الترافع إلى هؤلاء عن
الحلبي، واعترضه بالمنع من الفرق بين الصورتين، قال: لأنّ للإنسان أن يأخذ حقّه كيف أمكن، وكما جاز الترافع مع المخالف إلى المخالف توصّلاً إلى استيفاء الحق، فليجز مع
المؤمن الظالم بمنع الحق
.
وهو ظاهر في اعتراف الحلبي بأنّ علّة الجواز حيثما يقول به: هو التوصّل إلى الحق
، ومرجعها إلى الأدلّة العامة بنفي العسر والضرر في
الشريعة، وقوله سبحانه «فَمَنِ اعْتَدى» الآية
.
فالحكم لا بأس به، إلاّ أنّه ينبغي أوّلاً إعلام الخصم المانع عن الحق برفعه إلى حاكم الجور إذا أصرّ على حبس الحق، فإن ارتدع وإلاّ فليترافع، اقتصاراً فيما خالف
الأصل الدال على حرمة الترافع إليهم على محل الضرورة.
وأمّا ما في
الكفاية من استشكاله في الحكم بأنّ في الترافع إليهم إعانة لهم على
الإثم محرّمة
فضعيف غايته، إذ ليس ما دلّ على حرمتها بأقوى ممّا دلّ على حرمة التحاكم إلى هؤلاء الظلمة، فكما تخصّص بأدلّة نفي الضرر والعسر في الشريعة، وآية الاعتداء المتقدمة هذه، فلتكن تلك الأدلّة بها أيضاً مخصصة، وإنّما جعلت أدلّة نفي الحرج مخصِّصة للأدلّة المانعة بنوعيها مع كون التعارض بينهما تعارض العموم والخصوص من وجه فيحتمل العكس، لأوفقيّتها
بأصالة البراءة التي هي حجة مستقلة، لو فرض تساقط الأدلّة بعد تعارضها من كل جهة.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۱۸-۲۶.