استئجار الأجير لتملك المباحات
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ذهب كثير من الفقهاء
إلى صحّة الاستئجار
لحيازة المباحات
كالاحتطاب والاحتشاش ، قال
الشيخ : «إذا استأجر رجلًا ليصطاد له مدّة معلومة وذكر جنس
الصيد ونوعه صحّ عقد
الإجارة ، وكذلك إذا استأجر ليحتطب له أو يحتشّ مدّة معلومة صحت الإجارة؛ لأنّ ذلك مقدور عليه»،
وبه صرّح
العلّامة في
تذكرته وإن تردّد فيه في بعض كتبه،
واستشكل فيه البعض الآخر.
وحيث إنّ البحث عن جواز الاستئجار لحيازة
المباحات يرتبط بمدى سببيّة الحيازة
للملكية فلا بدّ من البحث عن ذلك في المرتبة السابقة. وعلى هذا الأساس وقع البحث في كلماتهم ضمن المحاور التالية.
أنّ الدليل المهم على سببية الحيازة للملك هو
السيرة العقلائية الممضاة
شرعاً بعدم
الردع عنها، بل الجري عليها وهو
دليل لبّي لا بدّ وأن يقتصر فيه عند
الشك على القدر المتيقن، وهو ما إذا حاز الإنسان مالًا مباحاً لنفسه، أمّا إذا حازه بقصد تملّك الغير فهل يقع للغير الذي قصده أو للحائز أو لا لهذا ولا لذاك بل يبقى على إباحته وجوه بل أقوال.
وهذا البحث مربوط بتنقيح أنّ سببيّة الحيازة للملك قهرية أم قصدية.
۱- أن تكون الحيازة
سبباً قهرياً صرفاً يوجب تملك الحائز، سواء قصد التملك أم لا.
۲- أن تكون الحيازة
سبباً قصديّاً ؛ بمعنى أنّ الحيازة سبب لتملك من يقصد له الحيازة.
۳- أن تكون الحيازة سبباً لتملك الحائز فقط إذا قصد بذلك الملكيّة لنفسه، أمّا إذا قصد الملكية للغير فلا يملك لا الحائز ولا ذلك الغير، وهذا يعني أنّ المجموع سبب للتملك بالحيازة.
۴- أن تكون الحيازة سبباً للتملّك بشرط أن لا يقصد الحائز التملّك للغير، وإلّا وقع له، وهذا يعني أنّ الحيازة سبب قهري لتملّك الحائز إذا لم يقصد بها تملّك الغير، وإلّا وقع له.
۵- أن تكون الحيازة سبباً للملك بشرط وجود أصل قصد التملّك فيملك الحائز، سواء قصد لنفسه أم لغيره.
۶- إنّه يعتبر في حصول التملك بالحيازة حيثيّة المالكيّة للعمل، فإذا ملكه الغير
بالاجارة ونحوه تملّك المال المحاز مطلقاً أو إذا قصد له.
لا إشكال في صحّة الإجارة للحيازة إذا قلنا بالاحتمال الثاني، أي أنّ الحيازة سبب قصدي
أو أنّها فعل أعم من المباشري والتسبيبي على حدّ تعبير بعضهم
(ولكن يظهر بالتأمّل أنّ مقصود التعبيرين أمر واحد.)؛ لأنّه بناءً عليه تكون الحيازة عملًا محترماً نافعاً للغير فيمكنه أن يبذل بازائه الاجرة.
قال
المحقق الكركي : «في جواز
الاستئجار والتوكيل لواحد من هذه الامور نظر، ينشأ من امكان دخول
النيابة في ذلك وعدمه، ومرجعه إلى أنّ السبب المملك في حيازة المباحات هو
النيّة أم مجرد الأخذ... والظاهر أنّه لا يشترط في ذلك النيّة. نعم يشترط عدم نيّة الضد، فإن نواه أثرت فلم يثمر الملك ولا الأولوية في الالتقاط، وحينئذٍ فيتصوّر الاستئجار والتوكيل».
أمّا إذا جعلنا الحيازة سبباً قهرياً لملكيّة الحائز بالخصوص بلا قصد التملّك أو مع قصد التملّك لا تصح الإجارة عليها؛ لتملّك المال المحاز؛ لعدم ترتب ذلك بحسب الفرض.
قال
المحقق الاصفهاني : «فعلى الأوّل- أي كون الحيازة فعل مباشري- لا يصحّ الاستئجار لها بل الحائز هو المباشر لها، فإن بنينا على عدم اعتبار قصد التملّك وكونها من الأسباب القهرية لتملّك الحائز ملك المباح سواء قصد لنفسه أو لغيره أو لم يقصد أصلًا، وإن بنينا على اعتبار قصده كما هو الأقوى فما لم يقصده لنفسه لم يملكه سواء قصد لغيره أو لم يقصد أصلًا».
هذا، والمشهور حكموا بصحة الاستئجار للحيازة ونحوها وتملّك المستأجر بذلك المال المحاز. واستدلوا عليه بوجوه.
ما ذكره في
الجواهر وغيره من أنّ المال المحوز إنّما هو نتيجة عمل الحيازة، فيملكه من يملك الحيازة بقانون تبعيّة الفرع للأصل،
وبذلك أجاب
عمّا اورد على
المبسوط والشرائع من الحكم بجواز الاستئجار للحيازة مع المنع من جريان التوكيل والنيابة فيها.
وأقل ما يلاحظ على هذا الوجه: أنّه لا دليل على قانون التبعية بهذا العرض العريض، وإنّما الثابت تبعية
النماءات المتصلة أو المنفصلة للأصل لا أكثر.
التمسّك باطلاقات صحة الإجارة، فانّها تدلّ مطابقة على صحّة إجارة الغير للحيازة، وبالالتزام على تملك المستأجر للمال المحوز، وإلّا كانت الإجارة لغواً.ويلاحظ عليه: بأنّ تلك المطلقات تدلّ على صحة تمليك المنفعة بعقد الإجارة، وهذا لا ربط له بتملّك المال المحاز الذي هو مال آخر غير متعلّق الإجارة، وهو عمل الحيازة. نعم لو كان قد ورد دليل على صحة إيجار الغير ليحوز للمستأجر كان ذلك دالّا ولو بالالتزام على تملّك المستأجر للمال المحاز، إلّا أنّه لم يرد شيء في المقام، ولا يمكن استفادة ذلك من اطلاقات صحة العقود والإجارات بوجه أصلًا.
ما ذكره بعض الفقهاء من أنّ المستأجر يملك عمل الحيازة من الأجير بالإيجار، فيكون بحسب الحقيقة هو الحائز والآخذ، وإنّما الأجير كالآلة المحضة، فالإجارة تجعل العمل الصادر من الأجير منسوباً ومستنداً إلى المستأجر حقيقة، وبما أنّ المستأجر هو الحائز فطبعاً يكون هو المالك للمحوز.
ويلاحظ على هذا الوجه بأنّ انتساب الفعل إلى غير فاعله المباشر إنّما يكون فيما إذا كان الفاعل غير مستقل في
التصرف وليس بيده الاختيار بل كالآلة، وهذا لا يصح في باب إجارة شخص على عمل مستقل يقوم به؛ ولهذا لو آجره على قتل شخص أو اتلاف ماله لم يكن هو
القاتل أو
المتلف بل المباشر للقتل يكون قاتلًا والمباشر للاتلاف يكون متلفاً، وهذا واضح.
التمسك
بسيرة العقلاء الممضاة
شرعاً ، بل وبسيرة المتشرعة حيث دلّتا على صحة الاستئجار للحيازة
والاحتطاب والاحتشاش ونحوها؛ لتكون النتائج للمستأجر، فإنّ مثل هذه المعاملات رائجة وصحيحة في عرف العقلاء والمتشرعة بلا إشكال. وهذا وإن كان يدل على عدم كون الحيازة سبباً قهرياً لتملّك المباشر لها ولكنه يثبت على أيّة حال صحة الاستئجار لذلك، وترتّب ملك المستأجر للمال المحاز أو المأخوذ من قبل الأجير.
وهذا الوجه هو العمدة في تصحيح الإجارة لتملّك المباحات بالحيازة ونحوها، إلّا أنّه تمسك بدليل لبّي فلا يكون له إطلاق لما إذا شكّك في بعض الخصوصيات كما إذا احتمل اشتراط أن يقصد الحائز التملّك للمستأجر، أي احتمل دوران الملكية مدار من يقصد له وأنّ الحيازة كعمل خارجي لا يكفي وحدها لتملّك المحاز ولو ملكها المستأجر، فهذا الوجه وإن كان صحيحاً ونافعاً في إثبات صحة الإجارة في المقام إلّا أنّه يثبته في الجملة. كما أنّه لا يغني عن تحقيق ما هو الملاك والمعيار عند العقلاء في باب تملّك المباحات الأولية بالحيازة ونحوها.
ومن هنا عمد بعض من قال بصحة الإجارة في المقام إلى تنقيح تلك النكتة العقلائية مدّعياً أنّ المستظهر من السيرة العقلائية والمتشرعية أنّ المعيار في تملّك المال المحاز بمن قصد له الحيازة والأخذ فهو الذي يملك عند العقلاء والمتشرعة.
ومن هنا يصحّ
التبرّع فيها أيضاً ولو لم يكن استئجار ولا ملك لعمل الحيازة كما إذا تبرّع فحاز له فإنّه يملكه ولا يملك الحائز.
وبناءً عليه تكون الإجارة للحيازة وأخذ
المباحات بغرض تملّك المستأجر لها بذلك صحيحاً على القاعدة ولكن لا بدّ من أن يقصد الحائز تملّك المستأجر وإلّا لم يملك، وهذا ما سيأتي تفصيله.
لو حاز الأجير بقصد نفسه لا للمستأجر، أمّا بناءً على المبنى الثاني من كون الحيازة سبباً قهرياً لتملّك الحائز المباشر فقط أو كونها سبباً قصدياً صرفاً فالمال المحوز يقع لمن قصد له وهو الأجير لا المستأجر،
وحينئذٍ هل تنفسخ الإجارة بذلك إذا لم يكن العمل المستأجر عليه كلياً قابلًا للاعادة أم لا تنفسخ؟ فيه خلاف يأتي عند التعرّض لترك الأجير للعمل وتفويته على المستأجر.
وأمّا بناءً على القول بأنّ الحيازة سبب لتملّك من يملك عمل الحيازة وأنّ التسبيب يحصل بمجرد كون المنفعة الخاصة للمستأجر فالمال المحاز للمستأجر.
هذا إذا كانت الإجارة على العمل الخارجي، أمّا إذا كانت على العمل الكلّي ولم يقصد الأجير
الوفاء بالإجارة فليس المال المحوز للمستأجر، بل يكون للأجير إن قصد لنفسه،
فيكون مع فرض الضيق وفوات المحلّ أو الوقت تفويتاً على المالك- وهو المستأجر- فيستحق
اجرة المثل ، كما وله
خيار الفسخ واسترداد المسمّى.
أمّا إذا قلنا بأنّه يعتبر في حصول التملّك بالحيازة- مضافاً إلى خصوصيّة مَن قُصد له ذلك- حيثيّة المالكية وكانت الإجارة على الحيازة الواقعة في الخارج لا العمل الكلي في الذمة، فالمال المحاز يبقى على الإباحة الأصليّة، ولا يقع للمستأجر؛ لأنّه لم يقصد له ولا للأجير؛ لعدم تملّكه لعمل الحيازة.
ومما ذكر يظهر حكم عدم قصد الأجير التملّك لأحد، فإنّه بناءً على اشتراط قصد التملك يبقى المحاز على إباحته، ولا يبعد كون المباشر حينئذٍ أولى بالحيازة إذا كان الجمع لغرض الحيازة، ومع عدمه فالظاهر بقاؤه على الاشتراك بين الناس.
وأمّا بناءً على أنّها سبب لتملّك من يملك عمل الحيازة فالمحاز ملك للمستأجر في هذه الصورة أيضاً.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۱۶۰-۱۶۵.