الإبراء قبل الضمان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولتفصيل أكثر انظر
الإبراء (توضيح).
وهو إبراء قبل اشتغال الذمة.
هناك فروع وتطبيقات فقهية يتحقق فيها
الإبراء من قبل صاحب الحق قبل تحقق التلف أو أي سبب آخر من أسباب
الضمان واشتغال الذمّة.
وقد بحث الفقهاء عن صحة الإبراء وعدمها في كل فرع من تلك الفروع الفقهية مستقلًاّ عن الفروع الاخرى مع أنّها تشترك جميعاً في كونها من الإبراء قبل التلف أو قبل تحقق سبب الضمان.
وحيث إنّ نوع الضمان في تلك الفروع يختلف من حيث كونه تارة ضماناً للمال واخرى ضماناً للنفس أو العضو «ضمان الدية» وكونها في ضمان المال تارة ضمان المعاوضة والمسمّى واخرى ضمان الغرامة «المثل والقيمة»، فينبغي تفصيل البحث في كل نوع منها ضمن الفروع التالية:
إذا كان الضمان على تقدير التلف ضمان المعاوضة، أي ردّ عوض المسمّى كما في تلف المبيع قبل قبضه فإنّه من مال بائعه، أي يوجب انفساخ عقد
البيع ورجوع الثمن إلى المشتري، فهل يصح الإبراء فيه بأن يبرئ المشتري البائع من هذا الضمان فلا ينفسخ العقد بتلف المبيع قبل القبض أم لا؟
المشهور عدم صحّة الإبراء وعدم سقوط هذا الضمان به، بل الحكم بعد إبراء المشتري باقٍ على ما كان عليه قبل الإبراء، وقد صرّح بذلك جملة من الفقهاء، كالعلّامة
والشهيد الأوّل والنراقي والشيخ الأنصاري .
قال
العلّامة الحلّي : «لو أبرأ المشتري البائع من ضمان المبيع لم يبرأ، وحكم العقد لا يتغيّر... فلو تلف المبيع قبل القبض انفسخ العقد وسقط الثمن عن المشتري إن لم يكن دفعه، وإن كان قد دفعه استعاده».
وقال الشهيد الأوّل: «ولو هلك المبيع قبل القبض فمن البائع ولو أبرأه المشتري من الضمان».
وقد استند النراقي في الحكم بعدم صحة هذا
الإبراء إلى الأصل
ولم يصرّح بالمقصود من الأصل، فلو كان مقصوده الأصل العملي أي
الاستصحاب فهو من الاستصحاب التعليقي، بتقريب أنّه لو كان قد تلف المبيع قبل الإبراء كان البيع منفسخاً فبعد الإبراء كذلك، وأمّا الاستصحاب التنجيزي فهو يقتضي بقاء العقد وعدم انفساخه.
ويمكن أن يكون مقصوده بالأصل الأصل اللفظي، أي
إطلاق ما دلّ انفساخ
البيع بتلف المبيع قبل القبض وأنّه من مال بائعه؛ فإنّه يشمل حتى صورة إبراء المشتري للبائع.
والشيخ الأنصاري أفاد وجهاً آخر لعدم صحة هذا الإبراء فقال: «وممّا ذكرنا... يعلم أنّ الضمان فيما نحن فيه حكم شرعي لا حقّ مالي، فلا يقبل الإسقاط، ولذا لو أبرأه المشتري من الضمان لم يسقط كما نصّ عليه في التذكرة والدروس، وليس الوجه في ذلك أنّه
إسقاط ما لم يجب، كما قد يتخيّل».
فيكون وجه عدم تأثير هذا الإبراء أنّ ما يصطلح عليه بضمان المعاوضة ليس حقاً، وإنّما هو حكم شرعي بانفساخ العقد إذا تلف المبيع قبل القبض، فلا اشتغال للذمّة ولا للعهدة بشيء لا قبل التلف ولا بعده، وإنّما حكم شرعي، فلا معنى للابراء والإسقاط.
ومنه يعلم أنّه لا يصح أن يستدل على عدم صحة هذا الإبراء بأنّه إسقاط ما لم يجب- كما سيأتي الاستدلال بذلك في المسألة الثانية- لأنّه لا يوجد حق قابل للاسقاط لا بالفعل ولا فيما يأتي وبعد التلف لكي يتوهم أنّه من إسقاط ما لم يجب.
وهذا له تطبيقات عديدة في كلمات الفقهاء وأبحاثهم.
منها: إبراء
الغاصب عن ضمان العين المغصوبة قبل تلفها.
ومنها: إبراء من أصبحت يده على المال غير أمينة كالودعي إذا خالف وتصرّف في الوديعة بما لا يرضى به صاحبه فصارت يده ضامنة.
ومنها: إبراء
الزوج بعد
الطلاق من دون دخول لضمان نصف المهر الذي هو عين بيد الزوجة إلى غير ذلك من الفروع والتطبيقات لابراء المالك من بيده المال عن ضمان الغرامة قبل التلف.
والمستخلص من كلمات الفقهاء في مثل هذه التفريعات أنّ هناك قولين في المسألة ذهب إلى كلّ منهما جملة من الفقهاء:
عدم سقوط الضمان بذلك، وقد ذهب إليه
ابن سعيد الحلّي والعلّامة الحلّي في أحد قوليه وولده
فخر المحققين والمحقق الكركي والمحقّق النجفي في بعض كلماته، كما احتمله الشهيد الأوّل ونقله المحقّق النجفي عن حواشي الشهيد وغاية المرام.
السقوط وارتفاع الضمان، وهو المشهور بين المتأخرين، وقد ذهب إليه
الشيخ الطوسي والمحقق الحلّي والعلّامة الحلّي في قوله الآخر
والشهيد الثاني أيضاً.
ومستند القول الأوّل أحد وجهين:
أنّ الإبراء في المقام من إسقاط ما لم يجب؛ لأنّ اشتغال الذمة بالغرامة لا يحصل إلّا بعد التلف، وهو لم يوجد بعد.
أنّ الإسقاط لا يجدي بعد استمرار سبب الضمان وتجدده في كل آن آن وهو القبض غصباً؛ إذ هو يجدي في خصوص أثر السبب المقارن والسابق، فيبقى الضمان بالسبب المتجدد باقياً.
وقد ناقش بعض الفقهاء في كلا الوجهين بوجوه عديدة، نورد فيما يلي بعض كلمات الفقهاء وما فيها من الاستدلال على كل من القولين:
قال العلّامة الحلّي: «ولو أبرأ الغاصب عن ضمان
الغصب والمال في يده فإشكال، منشؤه
الإبراء ممّا لم يجب، ووجود سبب وجوبه؛ لأنّ الغصب سبب وجوب القيمة عند التلف. والأقرب أنّه لا يبرأ ولا تصير يده يد أمانة».
وقال المحقق الكركي في توضيح كلام العلّامة: «إنّما كان إبراءً ممّا لم يجب؛ لأنّ الوجوب إنّما يتعلق به عند التلف؛ لأنّ العين ما دامت موجودة لا يتعلق بالذمة شيء سوى وجوب ردّها، ومعلوم أنّ الإبراء ليس من هذا، إنّما الإبراء من مقتضى الغصب وهو ضمانها عند التلف.
فإن قلت: إذا كانت العين موجودة فهنا أمران: وجوب ردّها على الفور لكون يد الغاصب يد عدوان، وضمانها عند التلف وهو
أثر ذلك، فإذا أبرأه تعلق الإبراء بالأمر الأوّل، فيسقط الثاني وهو أثره.
قلت: الضمان أثر يد العدوان لا أثر وجوب الردّ على الفور، والإبراء إنّما يسقط به الحق الثابت في الذمّة لا كون اليد يد عدوان ونحوه، وإنّما يزول عدوان اليد بأن تصير يد أمانة، ولا دخل للابراء في ذلك، وما دام وصف العدوان ثابتاً فالضمان بحاله.
وما ذكره (العلّامة) في توجيه الوجه الثاني من وجهي الاشكال لا محصّل له؛ لأنّ وجود سبب وجوب الشيء لا يقتضي صحة تعلق الإبراء بذلك الشيء الذي لا تحقق له، فلهذا كان الأقرب أنّه لا يبرأ بذلك ولا تصير يده يد أمانة، وإنّما يبرأ بالردّ إليه أو بأن يستنيبه في الحفظ عنه».
وكأنّه علّق على ذلك
المحقّق النجفي بقوله: «وقد يدفع بأنّ
الإسقاط للحق الذي تحقق فعلًا وهو تهيؤ ذمته للضمان بالتلف، فليس حينئذٍ إسقاطاً لما لم يجب، بل هو إسقاط لما وجب وتحقق.
ودعوى عدم صحة إسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلّط الناس على حقوقهم وأموالهم، كدعوى: أنّ الإسقاط لا يتعقل بعد استمرار السبب، وهو القبض غصباً وتجدده في كل آن آن؛ إذ هو يجدي في خصوص أثر السبب المقارن والسابق، فيبقى أثر السبب المتجدد غير ساقط، ويكفي حينئذٍ في ثبوت الضمان؛ إذ يدفعها أيضاً: منع كون ذلك أسباباً متعددة بل هي جميعها بعد اتحاد أثرها وصدق الأخذ على مجموعها سبب واحد عرفاً بل وشرعاً، فالاسقاط حينئذٍ في محله. فتأمل جيّداً.
فإنّه قد يمنع كون ذلك من الحقوق التي يتعلق بها الإسقاط، وإنّما هو من الأحكام؛ للأصل وغيره، واللَّه أعلم».
وقال
الشيخ الأنصاري : «إنّ تحقّق السبب وهو الغصب كافٍ في صحّة الإبراء عن المسبب وهو الضمان واشتغال الذمّة ولو قبل حصول الشرط وهو التلف، وهذا نظير إسقاط خيار العيب أو الغبن قبل ظهور العيب أو الغبن الذي هو شرط في الخيار».
وقال في بيان آخر له: «إنّه لا مانع في المقام عن صحة هذا
الإبراء والإسقاط لما لم يتحقق سوى التعليق وعدم الجزم به، وهما إنّما يمنعان عن صحة العقود والإيقاعات إذا كان التعليق على شرط لا يتوقف عليه العقد أو الإيقاع في نفسه كقدوم المسافرين مثلًا، وأمّا إذا كان التعليق على ما يكون العقد أو الإيقاع معلقاً عليه فلا مانع منه؛ لأنّه لا يوجد تعليق في هذا الانشاء زائداً عمّا هو معلّق في نفسه وعلى كل حال، كأن يطلّق زوجته على تقدير كونها غير مطلّقة سابقاً أو يعتق العبد على تقدير كونه مملوكاً له أو يبرأه من الدين على تقدير كونه مديناً له، ومنه الإبراء من الضمان على تقدير التلف؛ لكونه معلقاً عليه في نفسه».
وهذا البيان قد يمنع عنه بأنّ الإبراء معلّق على فعلية الدين واشتغال الذمة به، وليس معلقاً على تلف العين وإن كان تلف العين موجباً لتحقق اشتغال الذمة والدين، ففرق بين أن يقول: إن كنت مديناً فقد أبرأتك، وبين أن يقول: إذا تلفت العين فقد أبرأتك من ضمانها؛ فإنّ الأوّل ليس فيه تقييد زائد في إنشاء الإبراء؛ لأنّه مقيّد لبّاً بوجود الدين، بخلاف الثاني فإنّ فيه تعليقاً زائداً على ما هو مأخوذ في موضوع الإبراء وهو التعليق على أمر احتمالي يتحقق في المستقبل وهو التلف؛ لأنّ ما هو المعلّق عليه الإبراء فعلية وجود موضوعه لا تحقق أمر استقبالي وإن كان دخيلًا وسبباً لتحقق موضوع الإبراء؛ لأنّه ليس بالفعل بل في المستقبل، فيلزم لا محالة تعليق الإبراء على تحقق ذلك الأمر الاستقبالي، وهو من التعليق المبطل.
وقال جملة من الفقهاء المتأخرين
كالسيد الحكيم والسيد الخوئي
والسيد
الشهيد الصدر : إنّ المعنى الظاهر والعرفي للضمان في الأعيان المضمونة عبارة عن قضية فعلية لا تعليقية، وهي أنّ العين موجودة في عهدة الضامن، فإنّ الموجود في العهدة نحو من الوجود يعتبره العرف في قبال الوجود الخارجي وعلى نحو البدل عنه، فهذا النحو من الوجود الاعتباري للعين في العهدة فعلي، وهو معنى ضمان العين. وأمّا وجوب المثل أو القيمة على تقدير تلف العين فهو من قبيل الحكم لضمان العين في العهدة، لا أنّه معناه.
وعلى ضوء هذه الكلمات يتضح وجوه المناقشة في الوجهين المذكورين للقول الأوّل، وأهمها امور ثلاثة:
انّه لا محذور في المقام في إبراء ما لم يجب؛ لأنّه من التعليق على ما يكون الانشاء معلقاً عليه ثبوتاً وفي نفسه.
انّه من
الإسقاط الفعلي ولكن لضمان العهدة لا الذمة وهو حق فعلي قبل التلف في الأعيان المضمونة، وإنّما أثره وحكمه اشتغال الذمة بالمثل والقيمة إذا تلفت، فيمكن اسقاطه، وبذلك يرتفع موضوع اشتغال الذمة.
أنّ الإبراء عن ضمان العين قبل التلف مرجعها إلى الاذن والرضى بالتلف لدى تلك اليد، وهذا كافٍ في تبدّل اليد غير الأمينة إلى كونها أمينة وخارجة عن موضوع ضمان الغرامة. وقد اشير إلى هذا الوجه في كلمات بعض القدماء في بعض الفروع المرتبطة بالمقام.
قال
الفاضل الهندي في مسألة إبراء الزوج بعد
الطلاق عن ضمان الزوجة لنصف المهر: إنّه في معنى القبض والدفع أمانة، فيصح
الإبراء ».
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۴۰۷-۴۱۳.