دور التطرف في الفقه الاجتهادي
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهذا هو الدور الرابع من الأدوار التي مرّت بالفقه الاجتهادي عند الامامية، ويبدأ بعصر المحقق الأردبيلي قدس سره
۹۹۳ ه ، أي في العقود الأخيرة من القرن العاشر واستمر إلى العقود الأخيرة من القرن الثاني عشر.
ومن أعلام هذا الدور من ناحية: المحقق الأردبيلي وتلميذاه السيد محمّد بن علي بن الحسين العاملي صاحب مدارك الأحكام
۱۰۰۹ ه والشيخ حسن بن زين الدين بن علي صاحب معالم الدين
۱۰۱۱ ه وابنه الشيخ محمّد بن الحسن
۱۱۳۶ ه .
ومن ناحية اخرى: المحدّث الأمين الاسترآبادي
۱۰۳۳ ه والفيض الكاشاني
۱۰۹۱ ه والشيخ الحرّ العاملي
۱۱۰۴ ه والشيخ المجلسي
۱۱۱۱ ه والشيخ يوسف البحراني
۱۱۸۶ ه .
وإنّما سمّيناه بدور التطرّف لأنّه ظهر في هذا العصر اتجاهان فقهيان متعاكسان أحدهما ردّ فعل للآخر، فأوّلهما: الاتجاه العقلي المتشدّد تجاه الآخر بالأحاديث والروايات، والآخر: الاتجاه الاخباري المتشدّد تجاه الآخر بحكم العقل وظهورات آيات الأحكام.
أمّا الاتجاه الأوّل فكان رائده- كما أشرنا- المحقق الأردبيلي
۹۹۳ ه ، فانّه بما كان يتمتع به من نبوغ علمي وثقافة فلسفية وعقلية استطاع أن يوجّه النقد نحو جملة من فتاوى مشهور الفقهاء في العصور المتقدّمة على صعيد الاستدلال وصناعته.
كما شدّد في الأخذ بالروايات سواء من ناحية أسانيدها أو من حيث دلالتها أو معارضتها مع روايات أو قواعد اخرى، وهذا رغم انّه أوجب اغناء الاستدلال الفقهي الصناعي وتعميقه فيما بعد إلّا انّه أوجب وقتئذٍ نحواً من التحفّظ في الاعتماد على الأحاديث والنصوص المأثورة عن المعصومين والميل نحو الأخذ بالقواعد والاصول العامّة أو العقلية، وكذلك التوسّع في الأخذ باطلاقات وعمومات القرآن الكريم ومحاولة تخريج المسائل الفقهية على أساسها.
كما اهتمّ المحقق الأردبيلي بآيات الأحكام وألّف فيها مصنّفه القيّم زبدة البيان محاولًا تخريج كافّة الأبواب الفقهية على الآيات الشريفة، وهي محاولة جليلة.
وقد ظهر تشدّد هذا الاتجاه في الأخذ بالروايات فيما ذهب إليه تلميذاه صاحب مدارك الأحكام
۱۰۰۹ ه وصاحب معالم الدين
۱۰۱۱ ه من عدم قبول السند إلّا إذا تأيّد عدالة كل راوٍ فيه بشاهدين عدلين، فلم يكتفيا بشهادة العدل الواحد أو خبير رجالي واحد، وهذا منتهى التشدّد والتطرّف في قبول الحديث، وكان يؤدّي بشكل طبيعي إلى تقليص مصادر الاستنباط الأساسية المتمثلة في النصوص المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وإلى التوجه نحو مصادر اخرى أشرنا إليها.
بل نجد في هذا الاتجاه المتطرّف انّ مثل صاحب المعالم يميل في كتابه الاصولي معالم الدين وملاذ المجتهدين إلى القول بحجية مطلق الظن بعد أن تشدّد في أسانيد الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام.
ويمكن تلخيص أهمّ مميزات هذا الاتجاه فيما يلي:
۱- الاهتمام بعلم اصول الفقه واستخدام الصناعة العقلية والفلسفية في اثبات بعض مسائله. كما يلاحظ ذلك من مقدمة معالم الدين للشيخ حسن بن زين الدين
۱۰۱۱ ه والوافية للفاضل التوني
۱۰۷۱ ه .
۲- تضييق دائرة حجّية أخبار الآحاد.
۳- التشكيك في قيمة كثير من اجماعات القدماء وآرائهم المشهورة أو المسلّمة ونقدها صناعياً وعقلياً.
۴- الاعتماد على القواعد العقلية والفلسفية في الاستدلال الفقهي.
۵- اعداد الارضية المناسبة للاتجاه نحو حجّية مطلق الظن، بعد التشدّد في البحوث الرجالية وطرق توثيق الرواة، الموجب لعدم امكان احراز وثاقة جملة منهم بتلك الطريقة المتشدّدة، وبالتالي فقد جملة من النصوص.
۶- التوسع في الاعتماد على العمومات والمطلقات الواردة في آيات الأحكام أو السنة القطعية وتخريج الفتاوى على أساسها وطرح ما يخصصها أو يقيدها من الروايات نتيجة التشدّد في طريقة التوثيق الرجالي لإسنادها.
وفي قبال هذا الاتجاه تولّد اتجاه متطرّف معاكس داخل الطائفة في هذا العصر، وهو الاتجاه الفقهي الاخباري الذي أفرط هو الآخر في الأخذ والعمل بروايات الكتب الأربعة، وإلغاء تصنيفها إلى قوي وضعيف أو صحيح وحسن وموثق وضعيف، وادّعى بعضهم قطعية ما في الكتب الأربعة من الروايات، بل تمادى بعضهم فذهب إلى عدم حجّية الظواهر القرآنية من دون ورود تفسير لها في الروايات.
كما أفرط هذا الاتجاه في الحط من الدليل العقلي، فذهب إلى عدم حجّية الاستدلالات العقلية والفلسفية في اثبات الأحكام مهما كانت برهانيّة، وقد مثل الاتجاه الاخباري علماء منهم: الأمين الاسترآبادي
۱۰۳۳ ه - وكان متطرّفاً متشدّداً في هذا الاتجاه- والفيض الكاشاني
۱۰۹۱ ه والحرّ العاملي
۱۱۰۴ ه والعلّامة المجلسي
۱۱۱۱ ه . وقد قام هؤلاء الثلاثة بجمع الروايات المنقولة في كتب المتقدمين ضمن مجاميع حديثية ضخمة هي:
۱- الوافي.
۲- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة.
۳- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار عليهم السلام.
فقدّموا في هذا المجال خدمة كبيرة للمذهب، والمحدّث البحراني- صاحب كتاب الحدائق الناضرة
۱۱۸۶ ه - والذي كان معتدلًا منصفاً وفقيهاً محققاً، وباعتداله وتوسعه ورجوعه عن جملة من متبنّيات الاخباريين انتهى التطرّف الاخباري وخمدت ضراوة تلك الحركة.
وأهم مميزات هذا الاتجاه المتطرّف والمعاكس للاتجاه السابق كما يلي:
۱- عدم اعتماد الأدلّة العقلية والفلسفية في مجال الاستنباط والاجتهاد الفقهي، واعتبارها كاجتهاد الرأي ملغاة في فقه أهل البيت عليهم السلام.
۲- التوسّع في الأخذ بالأخبار المأثورة في اصولنا ومجاميعنا الحديثية، واعتبارها جميعاً قطعية أو معتبرة، فلا حاجة للبحوث الرجالية ولا الاصولية في حجّية الأخبار.
۳- انكار حجّية الاجماع، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع في فقه العامّة.
۴- انكار حجّية الظواهر القرآنية فيما يرجع إلى آيات الأحكام من دون ورود حديث يفسرها؛ بحجّة أنّها لا تعرف إلّا عن طريق الأئمة.
۵- لزوم الاحتياط والاجتناب في الشبهة التحريمية عند فقد الدليل على الاباحة أو الحرمة، بل نسب إلى الأمين الاسترآبادي القول بذلك في مطلق الشبهات حتى الوجوبية.
۶- إلغاء الاجتهاد والتقليد ووجوب الرجوع ابتداءً إلى الأحاديث الصادرة عن المعصومين.
وهذا ما ذهب إليه المتطرّفون من الاخباريين ورجع عنه علمائهم المحققون كالمحدّث البحراني صاحب الحدائق
۱۱۸۶ ه والشيخ حسين آل عصفور
۱۲۱۶ ه ۰.
والملاحظ انّ هذا التطرّف- بكلا قسميه من الافراط والتفريط الذي وقعت فيه المؤسسة الفقهية عند الشيعة الامامية- كان حالة استثنائية، ولم يشكل سوى فترة قصيرة من عمر هذه المؤسسة التي بنيت على اسس علمية معقولة ومتينة، والذي يبدو انّ هذه الحالة إنّما حصلت نتيجة التأثّر السطحي والبدائي امّا بمقولات عقلية صناعية، أو بالظواهر السطحية لبعض الأحاديث والروايات دون التعمق والتدبّر الكامل لأعماقها والنفوذ إلى لبابها وأسرارها، ومن هنا كانت حالة استثنائية طارئة سرعان ما انقشعت غيومها وجهالاتها، فاضمحلّ واندرس كلا الاتجاهين المتطرّفين ورجع الفقه الامامي إلى طريقته الأصيلة ومنهجه القويم كما سيوافيك في توضيح الدور القادم.
الموسوعة الفقهية، ج۱، ص۶۰- ۶۳.