الاستصناع (حقيقته)
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لتصفح عناوين مشابهة، انظر
الاستصناع (توضيح) .
الاستصناع في
العرف وعند
العقلاء فهو
اتّفاق مع
الصانع على عمل شيءٍ معيّن للمستصنِع من مادّة هي للصانع بعوض معيّن، وبموجبه يكون العمل والمادّة كلاهما على
الصانع ، كما أنّ
العوض على المستصنِع. ويقع
الكلام هنا في حقيقة الاستصناع بمعنى أنّه هل هو
عقد أو لا؟ أو أنّه ليس من العقود بل هو من باب
الأمر بالعمل على وجه
الضمان ؟وسوف يتّضح ذلك من خلال البحث عن حكم الاستصناع من حيث ترتّب
الآثار عليه من الصحّة و
اللزوم .
يقع
الكلام هنا في
حقيقة الاستصناع بمعنى أنّه هل هو عقد أو لا؟ ولو كان عقداً فهل هو عقد
مستقلّ برأسه كسائر العقود المستقلّة أو هو داخل تحت العقود المتعارفة أو هو مركّب من عقود متعدّدة؟ أو أنّه ليس من العقود بل هو من باب
الأمر بالعمل على وجه الضمان؟ وسوف يتّضح ذلك من خلال البحث عن حكم الاستصناع من حيث ترتّب
الآثار عليه من الصحّة واللزوم.
وقبل البحث ينبغي التعرّض لأمرين:
الأوّل: قد تقدّم أنّ كثيراً من
الفقهاء لم يتعرّضوا لهذه المسألة، وإنّما تعرّض لها بعضهم،
كالشيخ الطوسي و
ابن حمزة و
ابن سعيد ،فذهب الشيخ الطوسي في
الخلاف إلى أنّ
الاستصناع من العقود
الباطلة ، وظاهر كلماته أنّ الحكم
بالبطلان هو خيرة فقهاء
الإماميّة ، حيث قال: «استصناع
الخفاف و
النعال و
الأواني من
الخشب و
الصفر و
الرصاص والحديد لا يجوز، وبه قال
الشافعي . وقال
أبو حنيفة : يجوز؛ لأنّ
الناس قد اتّفقوا على ذلك. دليلنا على بطلانه أنّا أجمعنا على أنّه لا يجب تسليمها، وأنّه بالخيار بين
التسليم وردّ الثمن، والمشتري لا يلزمه قبضه، فلو كان العقد صحيحاً لما جاز ذلك، ولأنّ ذلك مجهول غير معلوم بالمعاينة، ولا موصوف بالصفة في الذمّة، فيجب
المنع منه».
وقال أيضاً في
المبسوط : «استصناع الخفّ والنعل والأواني من خشب أو صفر أو حديد أو رصاص لا يجوز، فإن فعل لم يصحّ
العقد وكان بالخيار إن شاء سلّمه وإن شاء منعه، فإن سلّمه كان المستصنِع بالخيار إن شاء ردّه وإن شاء قبله».
ولكن قال ابن حمزة: «من استصنع شيئاً قبل وفعل الصانع كان مخيّراً بين التسليم والمنع، والمستصنع بين
القبول والردّ».
ومثله قال ابن سعيد: «واستصناع شيءٍ كالخفّ وفعله الصانع غير لازم للمستصنِع، وله ردّه».
فإنّ حكمهما
بالتخيير - وعدم وجوب التسليم على الصانع والقبول على المستصنِع- يحتمل أنّه لكون الاستصناع من العقود الجائزة عندهما، ولعلّه هو ظاهرهما، كما يحتمل أنّه لكونه مجرّد وعد من أحدهما، أو
مواعدة بين الطرفين، أو أنّه من العقود الباطلة عندهما، كما يظهر ذلك من كلام الشيخ الطوسي.
وهناك محاولات معاصرة
لتعيين حقيقة الاستصناع، و
بيان حكمه، فقيل: إنّ للاستصناع صوراً مختلفة، وبالتالي يختلف حكمه باختلافها، فقد يدخل الاستصناع تحت عنوان البيع، وعليه فيكون حكمه هو الصحّة واللزوم. وقد لا يدخل تحت عنوان البيع ولا غيره من
العقود المتعارفة، بل يكون عقداً مستقلّاً برأسه كسائر العقود المستقلّة، وعليه فيجب على كلّ من طرفي العقد
الوفاء بما التزم به في هذا العقد. كما أنّه قد يكون مجرّد وعدٍ أو مواعدة بين الصانع والمستصنِع بلا عقد في البين، فلا يجب الوفاء به حينئذٍ.
وهناك رأي آخر: وهو أنّ الاستصناع- بما له من الخصوصيّات المرتكزة عند العرف والعقلاء- لا يدخل تحت عنوان البيع ولا غيره من العقود و
المعاملات المتعارفة، كما لا يصحّ جعله عقداً مستقلّاً، وكذا لا يصحّ جعله مركّباً من عقود متعدّدة، ولا يكون أيضاً من باب
الأمر بالعمل على وجه الضمان؛ إذ الأمر بالصنع وإن كان قد يوجب ضمان المستصنِع قيمة عمل
الصانع إلّا أنّه لا يوجب تملّكه للمصنوع، وعليه فلا يترتّب على عقد الاستصناع شرعاً ما يترتّب عليه في
العرف الخارجي. وقد اختار ذلك بعض الفقهاء المعاصرين، واستظهره من كلمات الشيخ الطوسي في هذه المسألة.
الأمر الثاني: أنّ المرتكز عرفاً في باب الاستصناع- ولا أقلّ في كثير من موارده- أنّه يحصل
بإنشائه نوع من
الالتزام و
التعاقد و
المسئوليّة بين الطرفين، بحيث يكون الصانع ملزماً عند العرف والعقلاء بصنع
المتاع المطلوب و
إعداده في الوقت المقرّر، كما أنّ المستصنِع يكون ملزماً بأخذه وقبوله من الصانع وضمانه له، ومن هنا يعتبر المستصنِع لدى العرف والعقلاء مسئولًا عمّا يرد على الصانع من خسائر.
وعلى هذا فما يقع بين الصانع والمستصنِع ليس مجرّد وعد من جانب المستصنِع بالشراء على
تقدير الصنع أو مع وعد في مقابله بتسليم المصنوع بعد صنعه؛ لأنّه لو كان كذلك لما كان المستصنِع ملزماً بأخذ المصنوع ولا مسئولًا في قبال الضرر و
الخسارة الواردة على الصانع بعد
إتمام العمل، كما إذا كان المصنوع كثيراً أو على ذوق و
سليقة خاصّة قد لا يرغب فيها الآخرون، وهذا ما يرفضه
الارتكاز العرفي في الاستصناع.
وموضع البحث هنا فيما إذا فرض وجود التزام بينهما وتعاقد ومسئوليّة بالنحو المذكور، وأمّا إذا فرض أنّه ليس بينهما إلّا مجرّد وعد أو مواعدة من دون التزام وتعاقد في البين فهو خارج عن موضع البحث. وبذلك يظهر أنّ عدّ الفرض الأخير من صور الاستصناع غير تامّ.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۳۷۵-۳۷۷.