الاضطرار إلى أكل طعام الغير
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
للاضطرار إلى طعام الغير صور مختلفة نشير إليها وإلى أحكامها فيما يلي:
الأولى: أن يكون الغير حاضراً غير غائب، وهنا إمّا أن يكون مضطرّاً إلى هذا الطعام أيضاً أو لا، فإن كان مضطرّاً أيضاً فإمّا أن يتساويا معاً في الحرمة كأن يكونا مسلمين، أو يختلفا، فإن تساويا فهل يجوز للمالك أن يؤثر الغير على نفسه أو لا؟ فيه قولان:
ذهب إلى الأوّل الشهيد الثاني، مدّعياً عدم كونه من باب
إلقاء النفس في التهلكة، بل هو من قبيل ثبات
المجاهد، فهو فائز ليس بهالك؛ لعموم قوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»؛
ولأنّ المقصود حفظ النفس المحترمة وهو حاصل بأحدهما، فلا ترجيح.
وقال
المحقّق النراقي بعد نقل قولين في المسألة: «فالأظهر الثاني (أي الجواز)، والأظهر منه ما إذا استنقذ
بالإيثار المتعدّد».
واختار بعض الفقهاء الثاني.
وتأمّل فيه
السيّد الخميني .
وإن اختلف المالك والمضطرّ في الحرمة، كأن كان أحدهما مؤمناً والآخر كافراً، قدّم الأفضل.
وأمّا إذا كان المالك غير مضطرّ، فهل يجب عليه حينئذٍ دفع الطعام للمضطرّ أو لا؟
ذهب بعض الفقهاء إلى الوجوب؛ لأنّ في الامتناع إعانة على قتل المسلم، وقد روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «من أعان على قتل مؤمن- ولو بشطر كلمة- جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيسٌ من رحمة اللَّه»،
ولأنّه يجب عليه حفظ النفس المحترمة،
وادّعي عليه الإجماع.
بل قال بعضهم: «وإن لم يكن المالك مضطرّاً إليه فعليه
إطعام المضطرّ، مسلماً كان أم ذمّياً أم مستأمناً».
وذهب آخرون إلى عدم الوجوب.
ومع فرض الوجوب، إمّا أن يكون المضطرّ واجداً لثمنه أو لا يكون واجداً، فإن لم يكن واجداً، فإمّا يبذله المالك أو يمتنع، فإن امتنع، فإمّا أن يكون المضطرّ قادراً على قتاله أو غير قادر، ونشير إلى هذه الصور فيما يلي:
۱- أن يكون المضطرّ واجداً لثمنه وقادراً على دفعه، فحينئذٍ لا يجب على المالك بذله مجّاناً؛ لأنّ ضرورة الجائع تندفع ببذله الثمن القادر عليه.
لكن إذا طلب المالك زيادة عن الثمن فقد ذهب عدّة من الفقهاء إلى وجوب بذلها،
ونسبه
المحقّق النراقي إلى المشهور.
وذهب بعض آخر إلى عدم الوجوب.
وفصّل ثالث بين القدرة عليها وعدمها.
۲- إن لم يكن المضطرّ واجداً لثمنه، فهو إمّا أن لا يكون واجداً له أصلًا، وإمّا أن لا يكون واجداً له في الحال، أو في ذلك المكان، فإن لم يكن واجداً
أصلًا وجب على المالك بذله بغير بدل.
وإن لم يكن واجداً في الحال، أو في ذلك المكان، بل كان قادراً عليه في بلده فقد اختلف الفقهاء فيه، فذهب عدّة منهم إلى عدم وجوب بذله بغير بدل». ونسب الشيخ الطوسي وجوب البذل بغير بدل إلى بعض الناس.
فإذا ثبت أنّ عليه البذل لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يبذل أو يمتنع، فإن بذله له بثمن مثله كان عليه الشراء؛ لأنّ الواجد بالثمن كالواجد لعينه.
وأمّا إذا امتنع فتارة يمتنع حتى مع دفع المضطرّ ثمن الطعام، بل زيادة عليه لو طلبه المالك، وتارة يمتنع عن بذله إلّامع زيادة على ثمن المثل.
ذهب الفقهاء في الحالة الأولى إلى جواز قتال المالك؛ لأنّه كالمهاجم، والمضطرّ كالمدافع، فإذا قاتله نظر، فإن قتل صاحب الطعام كان دمه
هدراً ؛ لأنّه قتله بحقّ، وإن قتل المضطرّ كان قتله مضموناً؛ لأنّه مقتول ظلماً.
لكن احتمل المحقّق الأردبيلي في صورة قتل صاحب الطعام أو تلف شيء منه الضمان، بل عدم جواز القتال مع العلم
بإهلاك المالك.
وأمّا الحالة الثانية فإن كان المضطرّ غير قادر على بذل الثمن جاز له قتال المالك، كالحالة الأولى؛ لوجوب بذله على المالك.
وإن كان قادراً عليه فالذي اختاره الشيخ الطوسي
جواز القتال فيه أيضاً.
لكن استشكل فيه جملة من الفقهاء،
منهم العلّامة الحلّي، حيث قال في
المختلف - بعد نقل كلام الشيخ-:«والمعتمد أن نقول: إن تمكّن المضطرّ من شرائه بثمن يقدر عليه وجب عليه الشراء، سواء كان أكثر من ثمن المثل أو لا؛
لاندفاع الضرورة حينئذٍ بالقدرة على الثمن، وإن لم يتمكّن كان له القتال، كما قاله الشيخ».
الصورة الثانية: الاضطرار إلى أكل طعام الغائب:
هذا كلّه فيما إذا كان المالك حاضراً، وأمّا إذا كان غائباً وانحصر رفع اضطرار المضطرّ بطعامه، فقد ذهب الفقهاء إلى جواز الأكل منه، سواء قدر على العوض أم لا، لكنّه يغرم قيمة ما أكل إن كان قيميّاً، ومثله إن كان مثليّاً؛ لأنّ الذمم تقوم مقام
الأعيان .
الصورة الثالثة: ما إذا دار الأمر بين أكل مال الغير أو الميتة:
كلّ ما تقدّم كان فيما إذا وجد الطعام ولم يجد الميتة، فأمّا إن وجد ميتة وطعام الغير فلم يخل صاحب الطعام من أحد أمرين:إمّا أن يكون حاضراً أو غائباً.
۱- إذا كان المالك حاضراً فإمّا أن يبذل طعامه تبرّعاً، أو بعوض مثله أو بأدون أو بأزيد، أو يمنع من ذلك كلّه.فإن بذله تبرّعاً أو بثمن المثل أو بثمن مقدور- على اختلاف التعابير- عاجلًا أو آجلًا، فقد ذهب الفقهاء إلى تقديمه على الميتة، ولم تحلّ له الميتة؛ لعدم صدق الاضطرار،
وادّعي عدم الخلاف فيه.
وإن طالب زيادة على ثمن المثل، فإن كانت الزيادة مقدورة فقد صرّح عدّة منهم بتقديم طعام الغير على الميتة.
وإن كانت الزيادة كثيرة، لكنّها مقدورة غير مضرّة بالحال، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى
التخيير بين أكل طعام الغير وأكل الميتة.
وإن كانت الزيادة غير مقدورة، أو لم يبذله مالكه أصلًا، فهل يجوز له أكل الميتة، أو له التخيير بينه وبين أكل طعام الغير على تقدير قدرته على قهره عليه؟
اختلف الفقهاء فيه، فذهب بعضهم إلى جواز أكل الميتة.
وذهب بعض آخر إلى التفصيل بين قدرته على قهر الغير على طعامه بالثمن، أو بدونه مع تعذّره، فلا يجوز له
أكل الميتة، بل يأكل الطعام ويضمنه لمالكه، وبين تعذّر قهره فيأكل الميتة؛ لأنّ تحريم مال الغير عرضي، بخلاف الميتة، وقد زال بالاضطرار، فيكون أولى من الميتة.
۲- إذا كان المالك غائباً ودار الأمر بين أكل الميتة وأكل مال الغير، ففي تقديم أحدهما على الآخر أو التخيير أقوال ثلاثة:
الأوّل: تقديم مال الغير على الميتة؛ لأنّ المضطرّ قادر على طعام الغير بثمن مثله.
الثاني: تقديم الميتة على مال الغير، وعلّله الشهيد الثاني بعد نقل رأي المحقّق الحلّي: «بأنّ الميتة محرّمة لحقّ اللَّه تعالى، وحقوق اللَّه مبنيّة على المساهلة، ولأنّ
إباحة الميتة للمضطرّ منصوص عليها، وجواز الأكل من مال الغير بغير إذنه يؤخذ من
الاجتهاد ، ولأنّ الميتة يتعلّق بها حقّ واحد للَّهتعالى، ومال الغير يتعلّق به الحقّان
واشتغال ذمّته».
وقد ذهب إلى هذا القول المحقّق
والعلّامة
الحلّيان والمحقّق النجفي حيث علّله الأخير: «بصدق الاضطرار بعد إطلاق الأدلّة وعمومها بحرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، والممنوع شرعاً كالممنوع عقلًا، فيتحقّق الاضطرار الذي هو عنوان الرخصة».
الثالث: التخيير؛ لوجوب أحد الأمرين بالاضطرار، وعدم المعيّن.
الموسوعة الفقهية، ج۱۳، ص۴۴۹-۴۵۴.