إجارة الأرض والعقار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا إشكال ولا خلاف
في جواز
إجارة الأرض والعقار للسكنى
والزرع والغرس والبناء ونحوه أو لجميع ذلك كما هو صريح الفقهاء؛ لما فيها من منافع عقلائية محلّلة.
يجوز إجارة الأرض بكلّ ما يصح أن يكون
ثمناً من ذهب أو
فضة أو طعام معيّن أو في الذمة، أمّا إجارتها بطعام من نفس الأرض فقد تقدم الكلام فيه.
اتفق الفقهاء على أنّ للمستأجر إجارة الأرض بنفس الاجرة التي استأجر الأرض بها أو بأقل منها على الرغم من اختلافهم في جواز إجارتها بالأكثر، وقد تقدم تفصيل ذلك.
لا بأس باجارة حصة من الأرض معيّنة مشاعة، كما لا بأس باجارة حصة منها على وجه الكلّي في المعيّن مع مشاهدتها على وجه يرتفع به
الغرر ،
أمّا إجارتها على وجه الكلّي في الذمة فمحل إشكال، فقد ذهب جماعة من الفقهاء
إلى أنّه لا بد في مثل إجارة الدار أو الدكان أو الأرض أن تكون العين معيّنة، فلا تصح إجارتها في الذمة، وعلّله المحقق بأنّه يتضمن الغرر،
وذكر بعض المحققين بأنّ تضمّنه الغرر ينشأ من عزة الوجود، باعتبار تعسّر تحصيل الموصوف بالصفات الرافعة
للجهالة في غير المعيّن.
وناقش
الشهيد الثاني بأنّ الوصف الرافع للجهالة كيف يجامع الغرر، والفرق بينه وبين المعيّن الموصوف غير واضح.
نعم، لو علّل بعسر تحصيل الموصوف لاختلاف
العقارات في الأوصاف والخواص اختلافاً كثيراً يعسر معه الوقوف على ما عيّنه أمكن ذلك.
ومن هنا ذهب
السيد اليزدي إلى جواز إجارة حصة من الأرض على وجه الكلّي في الذمة إذا أمكن وصفها على وجه يرتفع الغرر، وتبعه عليه أكثر المحشّين.
صرّح أكثر الفقهاء بأنّ الأرض تصير معلومة بشيئين:
أحدهما:
المشاهدة ، والثاني: التحديد
والتوصيف .
نعم، وصف الأرض أقرب في الكشف وأضبط، وهو لا ينافي الاكتفاء بالمشاهدة.
هذا فيما لو أمكن معرفتها بالوصف الرافع للجهالة، وإلّا تعيّنت الرؤية؛ لاختلاف المنفعة باختلافها كما هو صريح
العلّامة في أكثر كتبه.
لكنه في موضع من
التحرير قال: «لو استأجر أرضاً وجب أن يشاهدها؛ لانتفاء معرفتها بالوصف».
المعروف بين الفقهاء عدم صحة إجارة الأرض حتى يذكر ما يكترى له من
زرع أو
غرس أو
بناء ؛ لصلاحية الأرض لكلّ ذلك واختلاف تأثيره فيها، فإذا اختلفت المنافع من هذه الجهات واختلف ضررها اللاحق بالأرض وجب التعيين حينئذٍ. كما أنّه لو آجر بهيمة لم يجز الإطلاق.
نعم، لو تعيّن بعضها بمقتضى العادة جاز ذلك،
كما أنّه لو آجرها لينتفع بواحدة من المنافع مخيّراً فيها صح؛ لأنّه لا يقصر عن
التعيين .
فالإشكال في الحقيقة ليس من جهة عدم إمكان قصد إطلاق المنافع والبدلية فيها، بل من ناحية عدم العلم بأنّ المتعاقدين في الإجارة هل قصدا إطلاق المنافع والانتفاع أو قصدا منفعة خاصة لكنهما لم يذكراها؛ ولذا لو صرّح بمفاد الإطلاق جاز.
قال العلّامة: «إنّه لو آجرها لينتفع بها كيف شاء فالأقرب الجواز، ويتخيّر المستأجر في الثلاثة».
واستدلّ لذلك بالأصل وإطلاق النصوص- كرواية
محمد بن الحسن الصفار عن
الحسن بن موسى الخشاب عن
غياث بن كلوب عن
إسحاق بن عمار عن
جعفر ع عن أبيه: أنّ أباه عليه السلام كان يقول: «لا بأس أن يستأجر الرجل الدار أو الأرض أو السفينة ثمّ يؤاجرها بأكثر مما استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً»
حيث لم يشترط فيها التعيين- وبأنّ ذلك في قوّة النص على عموم المنافع.
«إذا أطلق
المزارعة ... تخيّر... لدلالة المطلق على الماهية من حيث هي، وكلّ فرد من أفراد الزرع يصلح أن يوجد المطلق في ضمنه وأولى منه لو عمّم...
لدخول المالك على أضرّ الأنواع من حيث دخوله في الإطلاق، فلا غرر كما لو عمّم».
بل قد حكى بعضهم
الشهرة والإجماع على الصحة في المزارعة.
نعم، احتمل العلّامة في
التذكرة من المزارعة قويّاً وجوب التعيين؛ لتفاوت ضرر الأرض باختلاف جنس المزروعات.
أمّا لو قصد أحد المنافع بنحو الترديد كما لو استأجرها للزرع أو الغرس بطلت عند بعض الفقهاء.
قال في التذكرة: «لو قال: آجرتكها لتزرعها أو تغرسها أو تبني فيها فإن قصد التخيير جاز، وإن قصد التفصيل لم يصح؛ لأنّه لم يعيّن أحدهما، فأشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين».
وقال
المحقق الثاني : «المراد هنا إذا آجره لأحدهما مبهماً، ولو آجره لينتفع بما شاء منهما صح؛ لأنّ الإجارة حينئذٍ للقدر المشترك بينهما، بخلاف صورة
الإبهام ».
هذا ولكن استوجه بعض الفقهاء صحة الإجارة هنا.
وقد تعرضنا لذلك سابقاً في مباحث الترديد في متعلّق الإجارة لدى البحث في أصل مباحث المعلومية، فراجع.
ولو استأجر الأرض للزرع والغرس صح، ولكن هل يلزم ذكر مقدار الزرع والغرس بحيث تبطل الإجارة مع فقد التعيين، أو لا يلزم ذلك بل يكون المستأجر مخيّراً بينهما، أو يحكم بالتنصيف في استيفاء المنفعتين؟
اختار
الشيخ في المبسوط القول
بالبطلان فقال: «إذا أكراه أرضاً على أن يزرعها ويغرسها ولم يعيّن مقدار كلّ واحد منهما لم يجز... (وهو) الأقوى؛ لأنّ ذلك مجهول لا يجوز العقد عليه»،
وذكر نحوه في الخلاف.
وتبعه عليه
ابن زهرة والحلّي،
بل قوّى العلّامة احتماله في
التحرير ،
وذهب في
القواعد إلى التنصيف، وقوّاه الفخر
والمحقق الثاني؛
نظراً إلى أنّه استأجرها لمنفعتين لا لأحدهما. والمتبادر من اللفظ التشريك؛ لأنّ مقتضى الإجارة لهما شمول المنفعة المطلوبة بالإجارة لكلّ واحدة منهما. وأمّا التشريك مع الإطلاق فيحمل على التساوي؛ لاستحالة الترجيح بلا مرجح، فعند الجمع يجب التنصيف.
نعم، قال
فخر المحققين : «له أن يزرع للجميع، ولا يجوز غرس الجميع لجواز العدول من الغرس إلى الزرع دون العكس».
وذهب العلّامة في التذكرة إلى
التخيير ؛ لأنّ استيفاء المنفعتين معاً من جميع الأرض غير ممكن فيكون ذلك موكولًا إلى اختياره، فكأنّه قال: لتفعل بها ما شئت من الجنسين كما لو قال: لتزرعها ما شئت، وقد صح فليصح هذا؛ إذ ليس اختلاف الجنسين إلّا كاختلاف النوعين، فله أن يغرسها كلّها وأن يزرعها جميعها أو أن يزرع بعضاً ويغرس بعضاً.
صريح كلام الفقهاء أنّ منفعة الأرض تتقدّر بالمدة، قال الشيخ: «المنفعة تصير معلومة
بالتقدير ؛ لأنّه لا يمكن مشاهدتها ولا تقديرها بكيل ولا وزن ولا نوع، بل تقدّر بتقدير الزمان».
وعلّله الحلّي
بأنّه لا عمل لها فيقدّر في نفسه، وذكر العلّامة وغيره نحوه.
إذا آجر أرضاً ليزرعها المكتري لم يخل الحال من ثلاثة صور: إمّا أن يقول: اكريتها للزراعة ويطلق ذلك، أو يقول: اكريتها لتزرعها طعاماً بأن يعيّن نوعاً لكنه يسكت عن تعيين فرد من أفراده، أو يقول: لتزرعها طعاماً معيّناً على أن لا تزرع غيره.
إذا آجر الأرض لزرع معيّن وشرط أن لا يزرع غيرها جاز له ذلك، ولم يجز التخطّي عنه حتى إلى الأقل ضرراً، عملًا بمقتضى الشرط؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنون عن شروطهم».
هذا إذا كان التعيين على جهة الشرطية، أمّا إذا كان على نحو وقوع الإجارة على الحصة الخاصة فالأمر أوضح؛ لتملّك المستأجر المنفعة من جهة المؤجر، فيملك بحسب التمليك.
لو عيّن زرعاً خاصاً لكنه لم يشترط عدم زراعة غيره لم يجز للمستأجر العدول إلى ما هو أكثر ضرراً
إجماعاً .
نعم، لو عدل عن المعيّن إلى المساوي أو الأقل ضرراً ففيه إشكال، حيث أطلق الشيخ في
الخلاف عدم جواز العدول؛ لقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»،
فإنّ الوفاء بالعقد أن يزرع ما سمى، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المؤمنون عند شروطهم».
وصرّح في
المبسوط بالجواز أوّلًا، لكنه صريح في كونه للمخالفين، ولذا قال بعد ذلك: «إذا شرط أن يزرع طعاماً لم يجز له أن يزرع غيره».
وهذا مختار فخر المحققين
والمحقق الثاني .
هذا.
ولكن ذهب العلّامة إلى الجواز في التذكرة فقال: «إذا آجرها لزرع حنطة أو نوع بعينه غيرها فله أن يزرع ما عيّنه وما ضرره كضرره أو أدون، ولا يتعيّن ما عيّنه في قول عامة أهل العلم إلّا داود وباقي الظاهرية بأنّه لا تجوز؛ لقوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»... كما لو عيّن المركوب أو عيّن الدرهم في
الثمن و... هو قول الشيخ أيضاً، ولا بأس به، وليس بجيد؛ لأنّ المعقود عليه منفعة الأرض دون
القمح ؛ ولهذا يستقر عليه العوض بمضي المدة إذا سلّم الأرض وإن لم يزرعها، وإنّما استوفاها بتلفها تحت يده فكيف ما أتلفها يكون مستوفياً لما عقد عليه، فلا يتعيّن عليها ما سمّاه، وإنّما ذكر القمح ليقتدر به المنفعة فلم يتعيّن، كما لو استأجر داراً ليسكنها كان له أن يسكنها غيره وفارقت المركوب والدراهم في الثمن بأنّهما معقود عليهما متعيّناً، والمعقود عليه هنا منفعة مقدّرة وقد تعيّنت أيضاً ولم يتعيّن ما قدّرت به، كما لا يتعيّن المكيال والميزان في المكيل والموزون، كما إذا ثبت له حق في ذمة إنسان كان له أن يستوفيه بنفسه أو بمن ينوب عنه كذلك هنا. وأمّا الآية فإذا استوفى المنفعة فقد وفي بالعقد. وأمّا الدراهم فلا تشبه مسألتنا؛ لأنّ الدراهم معقود عليها فتعينت بالعقد، وفي مسألتنا المعقود عليه المنفعة دون المزروع؛ ولهذا لو لم يسمّه في العقد كان جائزاً».
وذكر نحوه في
التحرير والقواعد في الاستئجار للزرع على إشكال،
ولكن قال في
القواعد في استئجار الأرض للغرس: «لو آجرها للغراس فله الزرع وليس له البناء، وكذا لو استأجرها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع».
وحاول المحقق الثاني توجيهه فقال: «ضرر البناء أشد من الغرس من وجه، فإنّ البناء أدوم في الأرض وأكثر استيعاباً لوجهها، والغرس أضر لانتشار عروقه واستيعابه قوّة الأرض ونحوه الزرع، فلا يجوز له العدول عن البناء إلى الغرس والزرع».
واورد على الوجه المذكور في التذكرة من أنّ المعقود عليه منفعة الأرض؛ بأنّه إن أراد به ذلك على وجه خاص فهو حق لكن يجب أن لا يتجاوزه، وإن أراد مطلقاً فغير واضح. واستقرار الاجرة بمضي المدة ليس لكون المعقود عليه المنفعة مطلقاً، بل لكون المعقود عليه قد تمكّن من استيفائه ببذل العين له وتسلّمه إياها فكان قابضاً لحقه؛ ولأنّ المنفعة قد تلفت تحت يده فكانت محسوبة عليه.
لو آجرها للزرع وأطلق وسكت عن تعيين فرد منه فالظاهر جواز زرع أي فرد شاء كما قاله الشيخ
والحلّي
والعلّامة في كتبه،
نظراً إلى أنّ الاختلاف في الزراعة متقارب، فيجري مجرى النوع الواحد.
قال في التذكرة: «لا يقال: لو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب فكان يجب هنا تعيين المزروع. لأنّا نقول: إنّ إجارة الركوب لأكثر الركاب ضرراً لا يجوز، بخلا المزروع، ولأنّ للحيوان حرمة في نفسه، فلم يجز إطلاق ذلك فيه، بخلاف الأرض. لا يقال: لو استأجر داراً للسكنى مطلقاً لم يجز له أن يسكنها من يضرر بها كالقصار والحداد، فلِمَ جوّزتم أن يزرعها ما يضرّ بها؟! لأنّا نقول: السكنى لا يقتضي ضرراً، فلذلك منع من اسكان من يضر بها؛ لأنّ العقد لم يقتضه، والزرع يقتضي الضرر، وإذا أطلق كان راضياً بأكثره، فلهذا جاز، وليس له أن يغرس في هذه الأرض ولا يبني؛ لأنّ ضرره أكثر من المعقود عليه».
لا كلام في صحة استئجار الأرض لزرع ما لا يكمل في المدة إن لم يتوقّف أصل الانتفاع به على كماله، بل وإن توقّف عليه لكن مع اشتراط المالك نقله بعد المدة كما يظهر من إطلاق الشيخ والعلّامة.
وقيّده
المحقق الكركي بما إذا كان مثله مقصوداً في العادة.
ولو أطلق ولم يتعرّض لنقل الزرع بعد المدة أو إبقائه فقد احتمل في القواعد
الصحة مطلقاً لكن مع قيد إمكان الانتفاع، إلّا أنّه جزم في التذكرة
بعدم الصحة إن كنّا لا نجوّز التخطّي مع اشتراط التعيين.
واستدل للجواز بوجود المقتضي مع انتفاء المانع؛ فإنّ جواز
القلع بعد المدة- وإن لم يحصل معه الانتفاع- لا يصلح للمانعية؛ إذ ليس القلع بمتيقن لجواز
الابقاء بالاجرة شرعاً أو صلحاً.
واورد عليه بأنّه منتف مع اشتراط القلع
فكيف يحكم معه بصحة الإجارة؟! ويمكن أن يدفع المحذور بأنّ أقصى ما يلزم في لفظ الزرع ارتكاب المجاز بقرينة اشتراط مدة لا يكمل فيها الزرع، فلا يراد الزرع حقيقة بل يراد مجازه، ولا محذور فيه، بل هو أولى من القول بالاقتصار على موضع
الانتفاع بالزرع حتى يكمل.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۳۵۲-۳۶۰.