أثر البطلان في إجارة الأعيان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا تبيّن بطلان
الإجارة رجعت العين المستأجرة إلى المؤجر والاجرة إلى ملك المستأجر، ويتفرّع على ذلك امور تأتي فيما يلي.
تقدم ذهاب المشهور إلى عدم
ضمان العين المستأجرة مع فرض
فساد الإجارة إلّا مع التعدّي والتفريط؛
لكونها أمانة تحت يده وخالف في ذلك بعض الفقهاء، بل نسب القول بالضمان إلى ظاهر آخرين.
وقيّد
الطباطبائي الضمان بفرض جهل المؤجر،
كما تقدم الكلام في شرط التضمين في الإجارة الفاسدة أيضاً، فراجع وقد تقدم هذا البحث مفصلًا أيضاً.
كلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة تجب فيه اجرة المثل مع استيفاء المنفعة، سواء زادت عن المسمّى أو نقصت عنه،
بلا خلاف ولا إشكال في شيء من ذلك، بل قد يظهر من إرسالهم له إرسال المسلّمات أنّه من القطعيات.
ويدل عليه- مضافاً إلى ذلك- قاعدة اليد
والاتلاف واحترام مال
المسلم ولا ضرر و «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ»
ونحو ذلك مما يقضي بالضمان، ضرورة بقاء كلّ من العوضين على ملك صاحبه في فرض البطلان، فيجب على كلّ منهما ردّه بعينه إن كان موجوداً، وبقيمته أو مثله إن كان تالفاً.
وأيضاً
السيرة العقلائية قائمة على ذلك.
ثمّ انّه لا فرق في جميع ذلك بين علم المستأجر وجهله بالفساد. نعم، يختلف الحال بالنسبة إلى
الحكم التكليفي لحرمة التصرف مع العلم دون الجهل عن عذر وقصور.
أمّا بالنسبة إلى علم المؤجر وجهله فقد اختلف الفقهاء فيه، فإنّ ظاهر إطلاق كلماتهم عدم الفرق فيه بين علم المؤجر وجهله بالفساد، بل نسب ذلك إلى المشهور؛ لشمول قاعدة الضمان والإتلاف
والاحترام وغيرها للمقام.
إلّا أنّ بعض الفقهاء استشكل فيه؛ نظراً إلى أنّ المؤجر بتسليمه العين بفساد الإجارة قد هتك حرمة ماله، قال السيد اليزدي قدس سره: «وأمّا إذا كان عالماً فيشكل ضمان المستأجر، خصوصاً إذا كان جاهلًا؛ لأنّه بتسليمه العين إليه قد هتك حرمة ماله، خصوصاً إذا كان البطلان من جهة جعل الاجرة ما لا
يتموّل شرعاً أو عرفاً أو إذا كان اجرة بلا عوض.
ودعوى: أنّ اقدامه
وإذنه في الاستيفاء إنّما هو بعنوان الإجارة، والمفروض عدم تحققها فاذنه مقيّد بما لم يتحقق.
مدفوعة: بأنّه إن كان المراد كونه مقيّداً بالتحقق شرعاً فممنوع؛ إذ مع فرض العلم بعدم الصحة شرعاً لا يعقل قصد تحققه إلّا على وجه التشريع المعلوم عدمه، وإن كان المراد تقيّده بتحققها الانشائية فهو حاصل».
وخالف في ذلك
المحقق النجفي وأكثر الفقهاء؛
نظراً إلى أنّ مجرد
إعطاء المؤجر المال بعنوان الملكية التشريعية لا يقتضي الإذن بتصرف المستأجر في ماله بلا عوض، فإنّ مثل هذا الإذن لا يوجب
إباحته ولا هتك حرمة ماله، ولا يرفع ضمانه بحسب بناء العرف والعقلاء، ولو صحّ ذلك لاقتضى عدم الضمان في شيء من المعاوضات الفاسدة، فيسوغ لبائع
الخمر أو
الكلب التصرف في الثمن مع علم المشتري بالفساد، مع صراحة الروايات في أنّ ثمنهما
سحت .
هذا كلّه فيما إذا لم يكن فساد الإجارة بلحاظ شرط عدم الاجرة في العقد.
أمّا إذا كان الفساد من جهة كون الإجارة بشرط عدم الاجرة فالمحقق الثاني
والمحقق النجفي وبعض الفقهاء
خالفوا أيضاً في عدم الضمان، فحكموا بالضمان، نظراً إلى عدم تحقق ما يرفع قاعدة الاحترام والإتلاف واليد وغيرها، ضرورة أنّ الإذن كان بعنوان الوفاء بالإجارة، ومع فرض الفساد لا وفاء ومن ثمّ لا رضا ولا إذن. بل ذكر بعضهم أنّ أكل المال مبنياً على ذلك مصداق للأكل بالباطل.
ولكن في قبال ذلك المنسوب إلى الشهيد عدم الضمان،
وتبعه عليه
الشهيد الثاني والأردبيلي وأكثر الفقهاء المتأخرين؛
لعدم كون ذلك إجارة ولا معاوضة في الحقيقة؛ لأنّ المؤجر أقدم من أوّل الأمر على المجانية والغاء الاحترام، فلا ضمان حينئذٍ حتى مع الإتلاف فضلًا عن التلف، وقد قامت السيرة العقلائية على ذلك، فانّه لا ضمان فيما لو قال المالك: (ألق مالي في البحر) بل الفرض المذكور أبرز مصداق لكبرى:(ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده)؛ لأنّ هذه
المعاملة لو كانت صحيحة لم يكن فيها ضمان، وكذا في فرض الفساد.
وربما يلحق بشرط عدم الاجرة ما إذا كان الفساد من جهة كون الاجرة مما لا يتموّل عرفاً
أو شرعاً.
وناقش
المحقق النائيني والخوئي في الأخير بأنّ المعاملة مبنيّة في هذه الصورة على التضمين، غاية الأمر جعل العوض ما ليس بمال شرعاً ولكنه مال عرفاً فهو غير مقدم على المجانية، وأيضاً تندرج تحت كبرى (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده) ضرورة أنّ هذه الإجارة لو كانت صحيحة لانتقل العوض إلى المتعامل الآخر، فإن كان الإقدام مبنياً على الضمان ففاسده كذلك.
وأمّا ما لا يتموّل عرفاً- كالخنفساء مثلًا- فقد وافق جملة من الفقهاء
السيد اليزدي في عدم الضمان فيه- منهم المحقق النائيني قدس سره- وخالف فيه
المحقق الخوئي مدعياً صحة المعاملة؛ لعدم اشتراط التموّل في العوض، وإنّما الشرط الملكية فحسب.
ودعوى
سفهية المعاملة يدفعها عدم الدليل على بطلان المعاملة السفهية، وإنّما الباطل معاملات السفيه، على أنّه ربّما يكون ذلك لداعٍ عقلائي، فلا سفهيّة في البين.
ولو سلّم بطلان المعاملة لذلك أو لجهة اخرى مع ذلك لم يكن وجه؛ لعدم الضمان؛ إذ لا إقدام على المجانية بعد فرض جعل العوض- أيّاً ما كان- كما أنّ القابض لم يقبضه كذلك، بل المعاملة مبنية على التضمين فتندرج في كبرى (ما يضمن بصحيحه) فلو كانت صحيحة لانتقل العوض- وإن كان غير متموّل- إلى الطرف الآخر، وهو معنى ضمان المسمّى ففاسدها أيضاً مضمون بالمثل أو القيمة.
وهذا الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قاعدة ما يضمن بصحيحه ضمان العوض لا ضمان المال في العوض والمسمّى.
وبعبارة اخرى: كلّما كان إقدام المالك على بذل ماله لا في قبال مال آخر فقد أقدم على المجانية، فيكون قد أهدر حرمة ماله أي ماليته بنفسه، فلا يستحق المثل أو القيمة في صورة فساد
المعاوضة .
ثمّ إنّ بعض الفقهاء- ولعلّ منهم السيد اليزدي في العبارة المتقدمة- حكم بعدم ضمان المستأجر في صورة جهله بالفساد وعلم المؤجر به من باب
قاعدة الغرور ، ولكنه تقدّم الإشكال في هذه القاعدة في أمثال المقام كبرىً وصغرى.
المشهور بين الفقهاء ضمان المستأجر في الإجارة الفاسدة المنافع الفائتة تحت يده وإن لم يستوفها، كما أنّهم حكموا باستحقاق الاجرة المسمّاة في الإجارة الصحيحة لو أخذ العين ومضت مدّة يمكنه فيها
الاستيفاء ،
وذلك لقاعدة اليد والاحترام وقاعدة ما يضمن، مضافاً إلى قيام السيرة العقلائية عليه.
أمّا المنافع التي تفوت قبل أن يثبت المستأجر يده على العين فالظاهر أنّ المشهور فيها عدم ضمان المنافع الفائتة لو فرض فساد الإجارة،
بينما حكموا باستحقاق الاجرة المسمّاة مع فرض الصحة؛ لفقد موجب الضمان هنا؛ لوضوح عدم شمول الإتلاف واليد للمقام.
وأمّا قاعدة الاحترام فقد تقدم أنّها لا تثبت على من عليه الضمان، فهي إنّما تجدي في المنافع المستوفاة التالفة أو الفائتة تحت يد المستأجر دون المنافع الفائتة من دون تسبب من قبل المستأجر في فواتها ولا وضع يده عليها.
هذا، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى القول بالضمان هنا بمقتضى قاعدة: كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده.
وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المنافع الفائتة قبل قبض المستأجر لا تكون مضمونة عليه إذا كانت الإجارة صحيحة، فكذلك في الفاسدة.
ومما ذكر يظهر حال الاجرة لو تلفت في يد المؤجر فإنّه يضمن عوضها مطلقاً،
أو بأحد التفصيلات المتقدمة في ضمان المنفعة إذا قيل بها. ومن يقول بعدم ضمانها إنّما يقول به في صورة إتلافها أو تلفها عند المؤجر، وأمّا مع فرض بقائها وانكشاف فساد الإجارة فإنّه يجب عليه ردّها إلى المستأجر إذا طلبها لكونها ملكاً له بحسب الفرض، وهذا واضح.
الموسوعة الفقهية، ج۴، ص۴۰۷-۴۱۱.