أحكام المجتهد ومناصبه
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
متى صدق عنوان
الاجتهاد على شخص وسمي مجتهداً فسوف يتعلّق به بعض الأحكام تكليفاً ووضعاً، وتثبت له بعض المناصب الشرعية، حيث إنّ الاجتهاد موضوع لجملة من الأحكام، منها:
يجوز عمل المجتهد باجتهاده ويحرم رجوعه إلى غيره فيما اجتهد فيه، وهذا لا
إشكال ولا خلاف فيه بالنسبة للمجتهد المطلق؛ لأنّه مع اجتهاده واستنباطه يصير عالماً إمّا بالحكم الواقعي للمسألة وجداناً، كما إذا ظفر في مقام
الاستنباط بما يفيد العلم به. أو بقيام دليل معتبر شرعي (حجّة شرعية) عليه، كما في موارد الطرق والاصول المثبتة للحكم، أو عالم بأن الشارع جعل له حكماً ترخيصياً في مقام الظاهر، كما في موارد الاصول الشرعية النافية للتكليف، أو عالم بمعذوريته في مخالفة الحكم على تقدير وجوده واقعاً، كما في موارد الطرق أو الاصول العقلية النافية، فمع كونه عالماً بما ذكر لا يمكن القول بعدم جواز العمل بعلمه؛ لأنّ حجّية العلم ذاتية.
كما أنّه بعد صدق عنوان العالم عليه لا يجوز له الرجوع إلى غيره؛ إذ أنّ رجوعه يكون من قبيل رجوع العالم إلى غيره، وما دلّت الأدلّة على جوازه شرعاً وادعي
الاتفاق عليه
هو رجوع الجاهل إلى العالم. إلّا أنّه حكي المخالفة في ذلك من قبل
الشهيد الصدر بالنسبة للمجتهد غير
الأعلم مع وجود الأعلم و
إقراره بالأعلمية، فإنّ غير الأعلم وإن كان مجتهداً أيضاً إلّا أنّه يصدق عليه أنّه جاهل بالنسبة للأعلم منه. نعم، فيما إذا كان قد علم بالحكم الشرعي وجداناً وقطعاً كانت حجّيته ذاتية في حقّه، فلا يعقل جعل الحجّية التعبدية في حقه. إلّا أنّ هذا غير حاصل عادة، وإنّما هي اجتهادات في أغلب الأحيان.
هذا بالنسبة للمجتهد المطلق الذي قد استنبط جملة وافية من الأحكام.
وأمّا بالنسبة لمن له ملكة الاجتهاد إلّا أنّه لم يتصدّ للاستنباط أصلًا، أو استنبط شيئاً قليلًا من الأحكام بحيث لم تخرج ملكته إلى الفعلية، فلا إشكال في حجّية رأيه لنفسه إذا استنبط الحكم؛ لأنّه يصير بذلك مجتهداً بالفعل. وهل له الرجوع إلى فتوى الغير فيما لم يستنبطه من المسائل؟ نسب إلى البعض القول بجواز رجوعه إلى الغير؛ نظراً إلى أنّ الاجتهاد بالقوة و
الملكة ليس بعلم فعلي بالأحكام، بل صاحبها جاهل بها بالفعل وإن كان له ملكة الاستنباط، ولا مانع من رجوع الجاهل إلى العالم.
وفي قباله القول المشهور بعدم جواز رجوعه إلى غيره من المجتهدين بل ادّعي الاتفاق على عدم جوازه،(ادعى الاتفاق
الشيخ الأنصاري في رسالته (الاجتهاد والتقليد)). واستدل عليه
بانصراف الاطلاقات الدالّة على جواز التقليد عمّن له ملكة الاجتهاد، و
اختصاصها بمن لا يتمكّن من تحصيل العلم بها؛ وذلك لأنّ الأحكام الواقعية قد تنجّزت على من له ملكة الاجتهاد بالعلم الإجمالي أو بقيام الحجج والأمارات عليها وهو يتمكّن من تحصيلها، ولذلك يتعيّن عليه الخروج عن عهدة التكاليف المتنجزة في حقّه بنفسه ولا يجوز أن يقلّد الغير، لعدم الدليل على حجّية فتوى الغير في حقّه؛ لأنّ الشك في الحجّية يساوق عدم الحجّية، كما هو مقرر في محلّه من علم الاصول، فيجب عليه الخروج عن الأحكام الواقعية المنجّزة عليه بالعلم
الإجمالي أو
الاحتمال بالاجتهاد فيها أو الاحتياط.
ويتضح ممّا تقدّم الكلام في شأن المجتهد المتجزّئ وجواز عمله طبق رأيه واجتهاده، حيث ذهب أغلب فقهائنا الاصوليين
إلى جواز عمله بفتوى نفسه فيما استنبطه من أحكام. واستدل لذلك بأنّ المجتهد المتجزّئ عالم بما استنبطه من الأحكام، بل قد يكون أعلم من غيره، ورجوعه إلى الغير في هذه الحال من رجوع العالم إلى غيره، وما هو الجائز هو رجوع الجاهل إلى العالم فقط. وفي قبال ذلك اختار البعض عدم جواز عمل المجتهد المتجزّئ بفتوى نفسه.
وأمّا فيما لا يكون المتجزّي مجتهداً فيه من المسائل والأبواب الفقهية، فيجوز له تقليد المجتهدين لكونه جاهلًا فيها بحسب الفرض وغير قادر على الاستنباط، وإلّا كان مجتهداً مطلقاً بالقوة.
ثمّ إنّه لو تعقّلنا التجزّي الطولي في الاجتهاد- وقد تقدّم بحثه فيما سبق- انفتح البحث عن
؛مكان التوسط في الاجتهاد والتقليد، بأن يقلّد المجتهد المتجزّي الطولي في بعض المدارك للمسألة الفقهية- وهي التي ليس بمجتهد فيها- ويجتهد فيما يكون مجتهداً فيها. وقد تكون النتيجة الفقهية حينئذٍ مخالفاً مع فتوى من قلّده
لاختلافه معه في المدرك الذي اجتهد فيه. وهذا ما قد يسمّى بالتوسط في الاجتهاد والتقليد، والبحث عن جوازه وصحّته موكول إلى مصطلح (تقليد).
تقدّم الكلام في أنّ من له ملكة الاجتهاد إذا استنبط حكماً شرعياً بعد الجهد الكامل وبذل الوسع في عملية الاستنباط، يجوز له العمل بما استنبط، ويكون معذوراً لو فرض تخلّفه عن الأحكام الواقعية. وموضوع جواز
الإفتاء عين ما ذكر في جواز عمل المجتهد بما يستنبطه وطبقاً لنظره، فإنّه إذا اجتهد واستنبط الحكم الواقعي أو الظاهري فكما يجوز له العمل به، يجوز له الافتاء به، وهو واضح في المجتهد المطلق الذي قد استنبط جملة وافية من الأحكام. إلّا أنّه يقع الكلام في من له الملكة المطلقة في الاجتهاد إلّا أنّه لم يتصدّ للاستنباط أصلًا أو استنبط شيئاً قليلًا من الأحكام، وفي المجتهد المتجزّئ الذي يتمكّن من استنباط بعض الأحكام دون بعض، هل يجوز لهما الافتاء ورجوع الغير إليهما، أي تقليدهما و
الاستناد إلى آرائهما في مقام العمل؟
قد يقال بأنّ حكم جواز الرجوع إلى الغير وتقليده حسب ما تقتضيه الأدلّة اللفظية قد اخذ في موضوعه عنوان العالم و
الفقيه ونحوهما من العناوين التي لا تنطبق على من له الملكة ولم يعمل بها أو من استنبط مسألة أو مسألتين، إذ يشترط في جواز الرجوع إلى الغير أن يكون هذا مستنبطاً لجملة معتد بها من المسائل على نحو يصدق عليه عنوان الفقيه والعالم، وعليه لا يجوز الرجوع إليهما في الفتوى. وفي قباله يقال بأنّ
السيرة العقلائية تقتضي جواز الرجوع إلى صاحب الملكة أو المتجزّئ فيما استنبطه من الأحكام وإن كان قليلًا؛ لأنّه من رجوع الجاهل إلى العالم، حيث إنّ استنباطه بقية الأحكام وعدمه أجنبي عمّا علم به واستنبطه بالفعل، وهذه السيرة هي المتبعة. هذا إذا لم يشترط في تقليد المجتهد أعلميته، أو لم يحتمل أعلمية المجتهد المطلق الذي استنبط الأحكام بالفعل من المجتهد المتجزّي أو الذي استنبط بعض المسائل في تلك المسألة، وإلّا لم يجز تقليده من جهة شرط
الأعلمية .
لا ريب ولا إشكال في أنّه يجوز للمجتهد المطلق الذي قد استنبط جملة وافية من الأحكام
التصدي للقضاء، والتصرف في أموال القصّر وغير ذلك من الامور الحسبية، وهذا القسم من الاجتهاد هو القدر المتيقّن المأخوذ في موضوع هذه الأحكام. أمّا المجتهد بالملكة والقوة أو المجتهد المتجزّئ، فإنّه قد يقال بعدم نفوذ قضائهما وتصديهما للُامور الحسبية وما هو من مناصب الفقيه؛ وذلك لأنّ
الأصل يقتضي أن لا يكون قول أحد أو فعله نافذاً في الآخرين إلّا فيما قام عليه الدليل، والأدلّة إنّما دلّت على نفوذ قضاء العالم أو الفقيه العارف بالأحكام أو غيرها من العناوين الواردة في الأخبار، ولا يصدق شيء من ذلك على صاحب الملكة ولم يستنبط الأحكام بالفعل، وعلى المجتهد المتجزّئ.
وقد اختار جمع من فقهائنا القول بكفاية المتجزّئ في الاجتهاد في جواز التصدّي للقضاء، ونفوذ قضاء المجتهد المتجزّئ،
واستدل عليه ببعض الأخبار الواردة في المقام.
وتفصيل الكلام في هذا الشأن يأتي في مصطلح قضاء وحسبة.
تعرّض فقهاؤنا لولاية المجتهد الفقيه الجامع لشرائط الفتوى وبحثوا فيها مفصّلًا، إلّا أنّنا في المقام نشير إلى الاتجاهين اللذين أفرزهما بحثهم في هذه المسألة:
وهو
الاتجاه القائل بثبوت الولاية المطلقة للفقيه الجامع لشرائط الفتوى في عصر الغيبة في كل ما كان النبی صلى الله عليه وآله وسلم و
الأئمة المعصومين عليهم السلام ممّا يرجع إلى الحكومة والسياسة من ولاية على الامة. فللفقيه العادل في نظر هذا الاتجاه جميع ما للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام؛ لأنّ الوالي هو مجري أحكام الشريعة، والمقيم للحدود الالهية، والآخذ للخراج وسائر الضرائب والمتصرف فيها بما هو صلاح المسلمين، فكلّ ما كان يمارسه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من ولاية في هذه الشئون فالفقيه العادل كذلك.
واستدلوا على ذلك بالروايات العديدة التي وردت في مقام خلافة النبي و
الإرجاع إلى رواة أحاديثهم عليهم السلام ومنزلة الفقهاء وأنهم امناء الرسل، ونحوها.
وهو الاتجاه القائل بأنّ الولاية مختصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، ولم تثبت للفقيه في
عصر الغيبة بدليل، وما ثبت للفقيه حسبما يستفاد من مجموع الروايات أمران: نفوذ قضائه وحجّية فتواه. وليس له التصرف في مال القصّر أو غير ذلك ممّا هو من شئون
الولاية ، إلّا في الامور الحسبية، وما يعلم من الشارع بعدم رضاه بتركه.
إلّا أنّ هذا الاتجاه لا ينفي بحسب الحقيقة ولاية الفقيه كلّيةً؛ لأنّه يقبل بولايته فيما يعلم بعدم موافقة الشارع ورضاه على تركه ويتوقّف على تولّي شخص للقيام به وهو المعبّر عنه بالامور الحسبية، وعندئذٍ قد تصبح جملة من الشئون العامّة الراجعة إلى
الإسلام و
المسلمين من مصاديق الامور الحسبية، فيتعيّن ولايتها في
الفقيه الجامع للشرائط .وتفصيل ذلك نوكله إلى محلّه في مصطلح (ولاية).
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۲۱۶-۲۲۱.