الإجمال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
هو بمعنى الجمع من غير تفصيل وبمعنى
الاعتدال وعدم
الإفراط في الأمور، ونفس هذه المعنى تستعمل في
الفقه و أما في
الأصول هو بمعني اللفظ الذي لم يتّضح ظهوره ودلالته ولم يكن قالباً لخصوص معنى معيّن. وإن علم المراد منه من خارج اللفظ.
إجمال وزان إفعال مصدر أجمل يجمل يأتي بمعان: منها: الجمع فيرادف الجمل فيقال: جمل الشيء وأجمله أي جمعه من غير تفصيل.
ومنها:
الاتّئاد و
الاعتدال ، يقال: أجمل في الطلب أي اتّئد واعتدل فيه ولم يفرط، وأجمل في صنيعه اعتدل فيه، ومنه قول الشاعر: الرزق مقسوم فأجمل في الطلب.
ليس لكلمة (إجمال)
اصطلاح فقهي، فهي تستعمل في علم
الفقه بما لها من معنى عند
أهل اللغة، وإنّما هو مصطلح في
أصول الفقه . والمعروف انّه اللفظ الذي لم يتّضح ظهوره ودلالته ولم يكن قالباً لخصوص معنى معيّن. وإن علم المراد منه من خارج اللفظ.
قال
السيد المرتضى : «المجمل الخطاب الذي لا يدلّ على المراد بنفسه من غير بيان، أو الخطاب الذي قصد به شيء معيّن في نفسه واللفظ لا يعيّنه».
وعرّف المجمل في
الأصول بتعاريف اخرى يطلب في محلّه.
الإهمال ترك الشيء سدىً، وقد يسند إلى اللفظ فيقال: لفظ مهمل.
والفرق بينه وبين
المجمل أنّ اللفظ المجمل موضوع لمعنى إلّا أنّه لم تتضح دلالته وظهوره، وأمّا
المهمل فهو لم يوضع بازاء معنى أصلًا، فيكون خارجاً عن مقام
الاستعمال ولذلك يقال له: اللفظ غير المستعمل.
الإبهام بمعنى
الإخفاء وعدم البيان، يقال: أبهمته إذا أخفيته ولم تبيّنه، ومنه
إطلاق البهيمة على ذوات الأربع؛ لعدم تمييز وادراك لها،
وقد يطلق ويراد به الإجمال.
الاشتباه في اللغة هو
الالتباس يقال: اشتبهت الامور وتشابهت أي التبست فلم تتميّز. و
المتشابه من الكلام مقابل
المحكم ، قال اللَّه تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ».
واختلف في تفسير المتشابه على أقوال قد أنهاها بعضهم إلى ستة عشر قولًا،
كما اختلف بذلك في الفرق بين المتشابه والمجمل أيضاً.
والمستفاد من مجموع كلمات الأكثر أنّ بين الاصطلاحين «المتشابه» و «المجمل» فرقاً، وهو أنّ المجمل ما لا ظهور له في نفسه وإن علم المراد منه من الخارج، والمتشابه ما لا يعلم المراد منه وإن كان له ظهور في نفسه، فيحتاج فهم المراد منه إلى النظر والتدبّر والرجوع إلى غيره، وعليه فالنسبة بينهما عموم من وجه.
قال الشيخ في
التبيان : «المحكم هو ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه لوضوحه... والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدلّ على المراد منه».
وقال السيد المرتضى: «المحكم إمّا المتقن الصنعة في الفصاحة، وإمّا الذي لا يحتمل تأويلين مشتبهين ولا يمنع العقل من ظاهره. والمتشابه إمّا المتساوي في الاحكام في
الفصاحة وحسن المعنى، وإمّا الذي يحتمل تأويلين مشتبهين احتمالًا شديداً، وظاهره يوضع لما يمنع منه العقل».
وقال
الراغب الإصفهاني : «المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره سواء كان من جهة اللفظ أو من جهة المعنى- ثمّ قال-: قال الفقهاء: المتشابه ما لا يُنبئُ ظاهره عن مراده».
وقال
العلّامة الطباطبائي في
تفسير الميزان في عداد الأقوال في المسألة: «الرابع عشر أنّ المحكم ما اريد به ظاهره، قال: والمتشابه ما اريد به خلاف ظاهره، وهذا قول شائع عند المتأخّرين من أرباب البحث، وعليه يبتنى اصطلاحهم في
التأويل ».
وقال في موضع آخر: «المراد بالمتشابه كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرد
استماعها ، بل يتردّد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتتعين هي معناها».
ولو قيل بأنّ المستفاد من هذه الكلمات- عدا الراغب- أنّ المتشابه اصطلاح في خصوص ما له ظهور غير مراد لصارت النسبة بينه وبين المجمل التباين. وسيجيء زيادة بيان لذلك في البحث الخامس.
يقسّم المجمل إلى المجمل بالذات والمجمل بالعرض أو بالتبع. وقد يراد بالمجمل بالذات ما كان مجملًا بحسب دلالته وظهوره بحيث لا يتضح معناه أو يتردّد بين أكثر من معنى، إمّا لكون اللفظ المستعمل مشتركاً، أو
لاحتفافه بما يصلح للقرينية على خلاف معناه الظاهر.
ويراد بالمجمل بالعرض ما كان دلالته ظاهرة، إلّا أنّه ورد دليل آخر منفصل يدلّ على التخصيص أو التقييد أو
إرادة معنى آخر خلاف ظاهر الدليل الأوّل، ويكون ذلك المعنى مجملًا مردّداً بين أكثر من معنى، فيسري الإجمال من الدليل الثاني إلى الدليل الأوّل بالعرض، فلا يصح التمسك بعمومه أو ظهوره في مورد الإجمال.
هذا ما اصطلح عليه بعضهم،
وأمّا عند غيره فيقسَّم أوّلًا إلى المجمل حقيقة والمجمل حكماً، ثمّ يقسم المجمل حقيقة إلى المجمل بالذات والمجمل بالعرض، فيعبّرون عن المحتف بما يصلح للقرينية- هذا الذي عبّر عنه
الشهيد الصدر بالمجمل بالذات- بالمجمل بالعَرَض، وعن المجمل بالقرائن المنفصلة- الذي عبّر عنه الشهيد بالمجمل بالعرض- بالمجمل حكماً، لكن الخلاف إنّما هو في الاصطلاح وليس بشيء
وقد يطلق الإجمال بالعرض على موارد
التعارض بين دليلين منفصلين كالعامين من وجه المتعارضين.
قال
المحقق العراقي في بحث ورود القيد المطلق: «إنّ مقتضى التحقيق المصير إلى التفصيل بين كونهما في كلام واحد فيكون ظهور دليل القيد وارداً على
الإطلاق ، أو كونهما في كلامين فيكونان من باب تعارض الظاهرين المستقرين المستتبع للأخذ بأقواهما إن كان، وإلّا فيكونان بحكم المجمل كما هو ظاهر لمن تدبّر».
ويقسّم أيضاً الإجمال إلى
الإجمال المفهومي : وهو ما إذا تردّد المجمل بين مفهومين متباينين أو بينهما نسبة الأقل والأكثر. و
الإجمال المصداقي : وهو ما إذا كان المفهوم مبيّناً، إلّا أنّ مصداقه تردّد بين فردين خارجاً أو بين الأقل والأكثر كذلك.
وتفصيل هذه الأقسام يطلب من بحوث علم الاصول.
لإجمال الدليل أسباب ومناشئ عديدة.
أمّا
الإجمال بالذات فأهم ما يوجبه ما يلي:
۱- أن يكون المتكلّم في مقام الإجمال والإبهام لا البيان كما في موارد
التورية و
التقيّة .
۲- أن يكون اللفظ المستعمل مبهماً غير واضح المعنى أو مشتركاً بين أكثر من معنى.
۳- أن يكون الكلام محفوفاً بما يصلح للقرينية على خلاف المعنى الأوّلي للفظ، سواء كانت القرينة لفظية أو لبّية عقلية ارتكازية، لكن لا يُدرى هل اعتمد عليها المتكلّم أم لا.
۴- أن يعلم بعدم إرادة المعنى الظاهر علماً بيّناً واضحاً حاصلًا في مقام
التخاطب بين المتكلّم والسامع بحيث يعدّ كالقرينة المتصلة.
۵- أن يتصل بالكلام لفظ مجمل يسري إجماله إلى الخطاب
كالاستثناء بالمتصل المجمل، كما هو المبين في الاصول عند البحث عن المخصص المتصل المجمل.
۶- أن يكون
قدر متيقن في مقام التخاطب فقد قيل: إنّه يوجب الإجمال في المطلقات بالخصوص.
۷- أن يحتمل وجود قرينة متصلة ولو مقامية قد سقطت أو أسقطها الراوي فلم تصل إلينا ولم تكن شهادة ولو سلبية من قبل
الراوي على نفيه، فإنّ هذا يوجب الإجمال عند بعض المحققين ،
ولكن المشهور يتمسكون فيه
بأصالة عدم القرينة. وتفصيل الكلام في القاعدة وصحتها في محلّه من علم الاصول.
وأمّا الإجمال بالعرض فأهمّ أسبابه:
۱- إجمال القرائن المنفصلة كالمخصصات والمقيّدات المنفصلة اللفظية واللبية وكذلك الأدلّة الحاكمة والمفسّرة، فإنّ إجمالها قد يسري إلى العمومات والمطلقات والخطابات الأوّلية ويجعلها في حكم المجمل، أي مجملًا بالعرض حيث يتردد المراد الجدي منها بين معنيين متباينين أو أكثر، كما هو المفصل في أبحاث العام والخاص في الاصول.
۲- العلم من الخارج بعدم إرادة المعنى الظاهر وتردّد المعنى المحتمل بين أكثر من معنى فإنّ ذلك يوجب إجمال الدليل بالعرض، ومنه موارد وجود مقيد لبي كإجماع أو حكم عقل مردد بين أمرين، فيوجب إجمال العام أو المطلق بالعرض.
۳- صلاحية كلّ من الدليلين المنفصلين على التصرف في الدليل الآخر، وتأويله مع عدم ترجيح لأحدهما على الآخر لوجود قوّة في كلّ منهما من ناحيةٍ كما في دوران العام المتأخّر عن الخاص صدوراً بين كونه مخصّصاً بالخاص المتقدم أو ناسخاً له.
وكما إذا ورد عام صريح في الترخيص مع خاص ظاهر في
الإلزام فتردّد
الأمر بين كون العام قرينة على إرادة
الاستحباب مثلًا في الخاص أو أنّ الخاص مخصّص للعام بغير مورده.
۴-
امتناع شمول الإطلاق أو العموم لفردين أو طرفين ووجود محذور عقلي أو عقلائي فيه فيقع بسببه التعارض بين الإطلاقين، وبالتالي إجمال الدليل وعدم شموله لهما، كما في شمول إطلاق دليل الاصول العملية المؤمّنة
لأطراف العلم الإجمالي بالتكليف الالزامي بمحذور
استحالة الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواقعي،
وهذا المحذور العقلي أو العقلائي إذا كان بيّناً بمثابة القرينة المتصلة أصبح العام مجملًا بالذات أي منع عن
انعقاد الإطلاقين، فيكون من الإجمال بالذات، وإلّا انعقد الإطلاقان لكنهما سقطا عن الحجّية؛ لعدم
إمكان تعيين أحدهما، وكذا الجمع بينهما معاً فيكون من الإجمال بالعرض.
۵- التعارض بنحو العموم من وجه بين اطلاقي دليلين فيوجب الإجمال في إطلاقيهما بالنسبة لمورد
الاجتماع والتعارض.
أمّا
القرآن فلا يوجد فيه إجمال بالذات بمعنى الإبهام أو عدم الدلالة أو الإهمال والذي يكون نقصاً في البيان البليغ، فإنّ القرآن ورد ليكون بياناً للناس وتبياناً لكلّ شيء بأبلغ وجه.
نعم يوجد فيه المتشابه، وقد نصّ عليه القرآن نفسه في قوله تعالى: «وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ»
إلّا أنّ المراد بالمتشابه فيه غير الإجمال بالمعنى المذكور، فإنّ دلالة الآية المتشابهة في نفسها واضحة، وإنّما الإجمال والالتباس في مقام
الجري و التطبيق أو فيما يتداعى إلى الذهن من ملازمات وتداعيات ذهنيّة على أساس الانس أو
الارتكاز العرفي الخارج عن حاق دلالة اللفظ.
ومما يشهد على ذلك ما في ذيل الآية من قوله تعالى: «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ»
مما يعني أنّ المتشابه ليس مجملًا أو مبهماً، فإنّ المجمل لا معنى
لاتباعه أو تأويله. نعم قد يقع الكلام في إمكان وقوع المشترك في القرآن وعدمه، وأنّه هل يعدّ نقصاً في
البيان البليغ أم لا.
وعلى كلّ حال فلا ينبغي الشكّ في خلوّ القرآن العظيم من كلّ ما يوجب نقصاً في دلالته وبيانيّته وبلاغته.
وكون الفرض في المحاورات قد يتعلّق بالإجمال والإبهام أمر صحيح، وهو الذي يصحّح استعمال الألفاظ المجملة في المحاورات، إلّا أنّه لا ربط له بمحلّ البحث وهو خلوّ القرآن الكريم الذي انزل تبياناً لكلّ شيء والذي هو في القمّة من حيث الفصاحة و
البلاغة عما يكون مجملًا أو مبهماً في معناه، ودلالته بحيث يعد نقصاً في البيان أو بلاغته أو فصاحته، فإنّ هذا مضافاً إلى كونه مقطوع العدم بلحاظ الآيات الشريفة التي بأيدينا- كما لا يخفى على أهله منها قوله تعالى: «هذا بيان للناس وموعظة»
وقوله: «نزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء»
وقوله: «حم والكتاب المبين»
وقوله: «أنزلنا إليكم نوراً مبيناً»
وقوله: «لقد جاءكم من اللَّه نور وكتاب مبين»
- مناف مع منزلة القرآن الكريم وشأنه العظيم، ووجود المتشابه فيه لا ربط له بهذا المعنى.
نعم، قد يوجد في القرآن الكريم الإجمال بمعناه الاصطلاحي الاصولي وهو عدم الإطلاق من سائر الجهات في آية متعرضة لتشريع حكم من الأحكام ك «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» مثلًا حيث قد يقال بأنّها ليست في مقام البيان والتفصيل لتمام أجزاء الصلاة وشروطها وأحكامها ليمكن التمسك بالسكوت عنها والإطلاق في الآية دليلًا على نفيها وعدم اعتبارها كما نستفيد ذلك من المطلقات البيانية الاخرى، بل هذه الآية بصدد بيان تشريع أصل الصلاة ولزوم إقامتها، فلا دلالة لها على أكثر من ذلك.
وأيضاً يجري في القرآن الإجمال بالعرض بمعنى سريان الإجمال إلى إطلاق أو عموم أو ظهور آية من آيات الأحكام نتيجة إجمال المخصّص أو القرينة المنفصلة الواردة في السنّة الشريفة بناء على ما هو الصحيح من إمكان تخصيص الكتاب الكريم بالسنّة.
وأمّا السنّة الشريفة فالإجمال بالذات وبالعرض كلاهما واقع فيها كثيراً، وهذا الذي دعى الاصوليين للتعرّض إلى بحث المجمل والمبيّن.
وأقسامُهما وأحكامُ كلّ قسم ضمن مباحث علم الاصول. إلّا أنّ الجدير بالاشارة إليه هنا البحث والسؤال عن أسباب ومناشئ وجود ظاهرة الإجمال في السنّة الشريفة مع أنّ الإجمال خلاف
الأصل .
والجواب: أنّ الإجمال قد يكون إجمالًا عند الفقيه الممارس
للاستنباط نتيجة عدم
اطلاعه الدقيق على اللفظ ودلالاته، وليس هذا إجمالًا موضوعيّاً واقعيّاً.
كما أنّه قد ينشأ من
اختلاف وتغيّر الأوضاع اللغويّة ونقل اللفظ إلى معنى آخر غير ما كان رائجاً زمن صدور النصّ. أو ينشأ من الغفلة في نقل النص بحذافيره وقرائنه المتصلة مما كان يبتلى بها الرواة الناقلون للسنّة الشريفة، وهذه تكثر في القرائن اللبيّة الارتكازية التي يعيشها المتكلّم والسامع وتؤثّر على معنى الكلام، ولكن لا يُلتفت إليها ولا يُحسّ بها تفصيليّاً.
كما أنّ وقوع
التقطيع في كتب الحديث للروايات ومتون الأحاديث من العوامل المهمّة التي قد توجب إجمال بعضها نتيجة
اقتطاع القرينة منها.
هذا مضافاً إلى كون صدور السنّة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم و
الأئمة المعصومين عليهم السلام في أغلب الأحيان على شكل إجابات عن حوادث ومسائل يبتلي بها الناس في حياتهم، جعلها مبتلى بالإجمال أو في معرضه، وأن لا تكون كثيراً في مقام البيان إلّا من تلك الناحية التي قد ابتلى بها المكلّف في مورد السؤال والجواب، وقد يكون الإجمال في سؤال السائل فيسري منه إلى الجواب. كما أنّ ظروف التقيّة ومصلحة الإجمال والإبهام في بعض الأحيان تكون هي العامل الآخر لحصول ظاهرة الإجمال في السنّة الشريفة.
وأخيراً صدور السنّة الشريفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام على نحو التدريج وضمن أزمنة مختلفة متباعدة و
اعتمادهم على القرائن والبيانات المنفصلة من مخصّصات ومقيّدات وتفسيرات متأخّرة لأسباب راجعة إلى ظروفهم وملابساتهم الاجتماعية والسياسية الصعبة هو العامل الآخر لحصول الإجمال ولو بالعرض في السنّة الشريفة التي هي المصدر الثاني الأساسي للشريعة. وتفصيل هذه الأسباب أكثر من هذا المقدار يطلب في محلّه من البحوث الاخرى.
ذكروا في تفسير
الإيمان أنّه
الاعتقاد و
الإقرار بالوحدانية والرسالة و... على وجه القطع والجزم الذي لا يحتمل نقيضه.
واختلف في
اعتبار إقامة البرهان عليها وعدمه، فقيل بالعدم،
وظاهر بعضهم
اعتباره فيه.
وعلى كلّ حال بناء على اعتباره يكفي
الاستدلال على نحو الإجمال، ولا يجب التفصيل فيه على نهج إقامة البراهين بشرائطها من أهل الفنّ والتخصّص.
قال
الشهيد الثاني : «الإيمان هو
التصديق بالقلب والإقرار باللسان بالاصول الخمسة بالدليل وإن كان إجمالياً ممن لا يعرف شرائط الحد والبرهان؛ فإنّ الأدلّة التفصيليّة والعلم بشرائط انتاجها ليست من الواجبات العينيّة بل الكفائيّة؛ لدفع شُبَه الخصوم وقمع المتغلّب على الدين بالبراهين».
وكذا الكلام في الاعتقاد بالأنبياء والأوصياء عليهم السلام- غير نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام- وما جاءوا به من أحكام شرعية وغيرها كأحوال القبر والقيامة والملائكة والجنّة والنار والحشر والنشر و... فانما يجب الاعتقاد بها على ما هي عليه من الواقع على نحو الإجمال.
وظاهر المفيد وجوب الاعتقاد بنبوّة جميع من أخبر القرآن بنبوّتهم على التفصيل، والاعتقاد بجملتهم على الإجمال.
•
الامتثال الإجمالي ، لا شبهة ولا خلاف في جواز
الامتثال الإجمالي بمعنى ترك طريقي
الاجتهاد والتقليد والعمل على ما هو مقتضى
الاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم كتطهير المتنجّس بالغسل مرتين عند الشكّ في
اعتبار التعدد وعدمه، سواء كان المكلّف متمكّناً من الامتثال التفصيلي- اجتهاداً أو تقليداً- أم لا، وسواء كان مستلزماً للتكرار أم لا.
الأمر إذا تعلّق بعنوان من العناوين القصدية فمقتضى القاعدة أنّه لا يسع المكلّف امتثاله إلّا بأن يقصد بفعله حصول ذاك العنوان بالخصوص أو قصد معنونه مع
الالتفات بتعنونه به؛ لعدم طريق إلى
إيجاده إلّا بقصده ذلك.
نعم مع وحدة العنوان وتعيّنه في الواقع يمكن قصده إجمالًا مع إمكان امتثاله خارجاً بعمل واحد كتردد الذمة بين الظهر والعصر. وهو المعبّر عنه ب (قصد ما في الذمّة)، وأمّا مع تعدد الذمّة فلا مناص إلّا من قصد ما اريد إيجاده بالخصوص
لانحصار الجهة المعيّنة في القصد والنيّة. وهكذا مع تردد الذمة الواحدة بين شيئين لا يمكن تحصيلهما حتى بتكرار العمل كما إذا تردد المحرم بعد احرامه فيما نواه من حج أو عمرة كما سيجيء.
ولهذه الكبرى تطبيقات نشير إلى بعضها فيما يلي:
إذا ثبت في ذمّة المكلّف أغسال واجبة أو مندوبة فأراد فعل المعيّن منها فانّه لا مناص لتعيينه إلّا بقصده وتعيينه في النية بالخصوص، ولا يكفي الإجمال مع تعدد الذمّة.
وأمّا إذا أراد
امتثال الجميع وقلنا بكفاية غسل واحد عن الجميع- كما هو المفتى به عندهم- فيمكن له قصد الجميع على نحو الإجمال ويكون غسله امتثالًا لجميعها
إلّا المغفول عنه بالمرّة.
هذا مقتضى القاعدة، لكن ثبت بالنسبة لغسل
الجنابة عند جميع الفقهاء قال
السيد الخوئي :« الظاهر تسالمهم على أنّ غسل الجنابة مسقط عن الأغسال الواجبة وإن لم ينوها حال
الاغتسال ، بل قد نقل
الإجماع على كفايته وإسقاطه لبقية الأغسال الواجبة على المكلّف. والوجه فيه أنّ ذلك هو القدر المتيقن من صحيحة زرارة؛ لأنّ موردها الجنب.»
بل كلّ غسل واجب عند بعضهم كفاية نيته عن نية سائر الأغسال فهي كافية عنها ولو لم ينوها إجمالًا ولكن ذلك من باب
الاكتفاء تعبّداً لا الامتثال عقلًا، وإنّما يعتبر امتثالًا بالنسبة لما نوى ولو إجمالًا.
الصلوات الواجبة أو المندوبة المتحدة في الصورة إذا اريد فعل المعيّن منها- كالظهر المتحد مع العصر أو
نافلة الفجر المتحدة مع المطلقة- فلا مناص إلّا من تعيينه بالنيّة والقصد؛ لأنّها تتعيّن بذلك، فلا يكفي الإجمال في النية بقصد جامع الصلاة الرباعية أو الثنائية.
نعم مع وحدة الذمّة يمكن قصده إجمالًا بنية ما في الذمّة لتعيّنه في الواقع، فيمكن
الإشارة إليه بهذا العنوان المجمل فانّه يكفي للتعيين.
وإن كان الظاهر من بعض القدماء لزوم التكرار مع قصدٍ معيّن.
إذا اشتغلت ذمّة المكلّف بصوم أيّام متعدّدة بتعدّد أسبابها كالنذر والكفارة، فلا يمكن امتثال المعيّن منها إلّا بقصده خاصة، ولا يكفي الإجمال إلّا مع وحدته لتعيّنه واقعاً، فيمكن قصد ما في الذمّة كما إذا علم بوجوب صوم عليه ودار أمره بين القضاء والكفارة.
يعتبر في
الإحرام تعيين كونه لحج أو عمرة، تمتع أو قران أو افراد، لنفسه أو نيابة... فلو نوى الإحرام من غير تعيين بطل، إلّا بناء على القول بكونه عملًا مستقلًا كالوضوء لا أنّه جزء للنسك.
نعم الظاهر من بعضهم كفاية التعيين الإجمالي حتى بأن ينوي الاحرام لما سيعيّنه من حج أو عمرة فانّه نوع تعيين، وأنّه فرق بين ما لو نوى مردداً مع
إيكال التعيين إلى ما بعد وبين اهماله من أصل،
وخالفه بعضهم.
وأمّا لو نسي ما عيّنه أوّلًا من حج أو عمرة ففيه خلاف وأقوال، فحكم بعضهم
بلزوم تجديد النيّة مطلقاً، وبعضهم
فصّل بين ما إذا كانت الصحة مختصة بأحدهما فيجدد النية وإلّا فينبغي مراعاة قواعد
العلم الإجمالي من
الاحتياط ، وبعضهم
فصّل بنوع آخر.
أداء الحقوق المالية العبادية كالخمس والزكاة، وغير العبادية كأداء الدين أمر قصدي، فمجرّد نقل مال إلى مستحق الزكاة والخمس لا يعد أداء لهما، بل إنّما يصير كذلك بقصد ذلك وتعيينه في كونه زكاةً أو خمساً أو وفاءً لدينه، فما دام لم ينو ذلك لا يسقط تكليفه.
نعم مع تعيّن الحق العبادي أو غيره يمكن نيّة ما في الذمّة، فيعطي المال إلى من يستحق
الزكاة و
الخمس معاً كالهاشمي الفقير بقصد كونه أداءً لما في ذمته زكاة أو خمساً،
وأشكل بعضهم في خصوص المثال بأنّ النسبة بين عنوان مستحق الزكاة والخمس عموم من وجه، والمستحق إنّما هو العنوان دون الفرد فيجب الاحتياط، ولا يصير المورد بمجرد
اتحاد الفرد الخارجي من موارد
الأقل والأكثر .
كما يعطي المال إلى زيد الذي يعلم أنّ له عليه حقاً إمّا نذراً أو قرضاً بقصد سقوط ما في ذمّته.
•
الإجمال في المعاملات ،الإجمال في المعاملة أو
أطرافها قد يوجب
بطلانها ، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الموارد: منها: أ-إجمال الصيغة، ب-إجمال المالكين ج-إجمال العوضينن د-إجمال المهر ، ه-التبري من العيوب إجمالًا ، و-إجمال النذر ، ز-الإجمال في
الوصية (الوصية المبهمة) ، ح-الإجمال في الوقف .
تارة يفرض الإجمال في أصل دلالة اللفظ على الإقرار أو ما يجري مجراه؛ بأن يكون غير ظاهر فيه، فلا يترتّب عليه شيء بل لا يعدّ إقراراً لعدم الدلالة، نعم لا يعتبر فيه الصراحة، بل ولا ذكر لفظ الإقرار، وإنّما يكفي أصل الدلالة ولو
الالتزامية منها أو الضمنية وكذا الاشارة المفهمة، فقوله بعينه يعتبر إقراراً و
اعترافاً بملكه.
واخرى يفرض الإجمال في المقرّ به، وهو المعبّر عنه في كلماتهم بالأقارير المجملة أو المبهمة أو المجهولة كقول القائل: لزيد عليّ شيء أو مال ونحوها.
وحكمه أنّه يسمع ويصح في أصل الإقرار؛ لأنّ الإقرار عبارة عن
الإخبار عن حق سابق، والخبر قد يقع عن الشيء على جهة الإجمال كما قد يقع على جهة التفصيل.
فإذا أقرّ بمجمل الزم بتفسيره،
ويقبل قوله إذا فسّره بالممكن عرفاً وشرعاً.
ولو امتنع من التفسير قيل: يحبس حتى يبيِّن.
وقد وقع الكلام عندهم في بعض الأقارير المجملة وفيما يمكن أن يفسّر به كما مرّ نظيره في النذر والوصيّة.
لا تسمع الدعوى إذا كانت مجملة مجهولة عند الشيخ وجماعة ممن تبعه، فيجب أن تكون مفصّلة محرّرة بخلاف الإقرار.
قال الشيخ: «فإذا ادعى عليه لم تسمع الدعوى إلّا محرّرة، فأمّا إن قال: لي عنده ثوب أو فرس أو حق لم تسمع دعواه؛ لأنّ دعواه لها جواب، فربما كان بنعم فلا يمكن الحاكم أن يقضي به عليه لأنّه مجهول». ثمّ قال: «قالوا: أ ليس الإقرار بالمجهول يصحّ؟ هلا قلتم أنّ الدعوى المجهولة يصح؟! قلنا: الفصل بينهما أنّه أقرّ بمجهول لو كلّفناه تحرير الإقرار رجع عن إقراره، فلهذا ألزمناه المجهول به وليس كذلك مسألتنا؛ لأنّه إذا رُدّت
الدعوى عليه ليحرّرها لم يرجع(عن دعواه)، فلهذا لم يسمع إلّا معلومة».
وقال العلّامة: «لا يشترط كون المقرّ به معلوماً، بل يصحّ الإقرار بالمجهول...بخلاف الدعوى فإنّها لا تسمع إلّا محرّرة».
وقال
الشهيد الأوّل : «لا تسمع الدعوى المجهولة كثوب وفرس، بل يضبط المثلي بصفاته والقيمي بقيمته والأثمان بجنسها ونوعها وقدرها».
ففرّقوا بين الدعوى والإقرار مستدلًا له بأنّ بالإقرار يتعلّق حق المقرّ له بمال المقرّ وإن كان مورده مجهولًا؛ لعموم (إقرار العقلاء على أنفسهم جائز) فيسمع ولا يضره الإجمال فلا بد للمقر من تفسيره، بخلاف الدعوى التي لا تعلّق لها بغير المدّعي ولا طريق لإلزامه بتفسيرها؛ إذ له رفع اليد عن دعواه، ويمكنه أيضاً مطالبة حقه ثانياً بتحرير دعواه وتفسيره، ففي ردّ الدعوى المجهولة لا ضرر على المدّعي، بخلاف ردّ الإقرار بالمجمل فإنّ فيه الضرر على المقر له؛ إذ له حينئذ الرجوع عن إقراره.
ولكن لم يرتض ذلك المحقّق صاحب
الشرائع وأكثر المتأخرين، فلم يوجبوا في سماع الدعوى هذا المقدار من الوضوح فيها؛ لعدم الدليل عليه بعد شمول الأدلّة الآمرة بالحكم بين الناس والقضاء وفصل الخصومات لجميع الدعاوى وإن كانت مجهولة من بعض الجهات، مضافاً إلى
اقتضاء عدم سماعها ضياع الحق، والفائدة ظاهرة فيما إذا أقرّ الخصم به أو ثبت بالبيّنة فيحكم له بالمسمى.
نعم لو كانت الدعوى مجهولة من كلّ جهة بحيث لم يحرز كونها دعوى توجب قضاءً فلا دليل على لزوم سماعه.
كلّ ذلك في غير دعوى الوصية، وأمّا هي فتسمع وإن كانت مجهولة، وظاهر المحقّق أنّه لا خلاف فيه؛ لأنّ الوصية بالمجهول جائزة.
اختلف في سماع الشهادة على
الجرح والتعديل هل يحتاج بيانهما إلى التفصيل والتفسير بذكر السبب ونحوه أم يكفي الإجمال؟
فقيل بكفاية الإجمال فيهما إذ الكلام فيمن يعرف طريقهما، فإنّ التفصيل أيضاً كلامه، فلا ينفع الزيادة.
ويؤيده إطلاق قوله تعالى: «وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ»
ونحوه إذ لو احتاج إلى أكثر من ذلك لذكر، وسيجيء ما فيه.
وقيل: يحتاج فيهما معاً إلى التفصيل؛
للاختلاف في أسبابهما وطريقهما و
احتمال الاشتباه والالتباس، وأمّا الآية فهي متعرّضة لبيان الوصف العمدة للشهود لا لجميع شرائط القبول.
وقيل: يجب التفصيل على المعدل دون الجارح
فانّه يحتاج إلى المعاشرة الكثيرة الباطنية المتقادمة المخبرة عن
باطن حاله بحيث يعلم بوجود
العدالة فيه ولا يعلم به بمشاهدة أعمال قليلة منه، بخلاف الجرح فانّه يكفي فيه العلم الحاصل بمشاهدة أمر واحد أو سماع موجبه.
وقيل بعكس ذلك، وهو الأشهر ومختار الأكثر- كما ادعاه بعضهم-؛
لأنّ إحراز العدالة كما مرّ تحتاج إلى مشاهدة امور كثيرة جداً، ولو اشترط سماعها ببيان جميع أسبابها لانجرّ إلى تعطيل الأحكام فلا يجب، بخلاف الجرح. والتفصيل موكول إلى محلّه.
وهو في طلب الرزق، فقد وردت روايات كثيرة في استحباب الإجمال في طلب الرزق؛ بمعنى ترك الحرص عليه بصرف أكثر العمر فيه وفي ازدياده. وأفتى بمضمونها بعض الفقهاء.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
حجة الوداع أنّه قال: «ألا أنّ الروح الأمين نفث في روعي أن لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللَّه وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّكم
استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية اللَّه...».
وعن
أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الدنيا دول فاطلب حظّك منها بأجمل الطلب».
وعن
أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال: «لو كان العبد في جُحر لأتاه رزقه، فأجملوا في الطلب».
ولعلّ في حكمهم بكراهة دخول السوق قبل الغير بأن يكون أوّل من دخل فيه
وكراهة أن يطلب التاجر الغاية من الربح فيما يبيع ويشتري
إشارة وتأييداً للمقام وإن كان بكلّ منهما رواية مستقلة.
ثمّ إنّ هذا لا ينافي ما استفاضت به الأخبار من الحثّ على
طلب الرزق والكسب الحلال
كما لا يخفى.
الموسوعة الفقهية،ج۵، ص۳۵۰-۳۷۴.