أحكام صلاة الجنازة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
(و) أما (أحكامها) أي أحكام
صلاة الجنازة فهي (أربعة) : الأول حكم من أدرك بعض التكبيرات مع الإمام والثاني حكم
دفن الميت بغير صلاة والثالث جواز صلاة الجنازة في الأوقات المكروهة والرابع لو حضرت جنازة في أثناء الصلاة على الأخرى.
(الأول : من أدرك) مع الإمام (بعض
التكبيرات ) وفاته البعض دخل معه في الصلاة عليه، بلا خلاف بين العلماء كما في
المنتهى ،
و (أتم ما بقي) منها إجماعا كما في
الخلاف ،
للنصوص المستفيضة، منها الصحيح : «إذا أدرك الرجل التكبيرة والتكبيرتين من الصلاة على الميت فليقض ما بقي منها متتابعا».
وهو المستند فيما ذكروه من
الإتمام (ولاء) أي من غير دعاء بينها وإن اختلفوا في إطلاقه كما هو ظاهر النص والعبارة وغيرها، أو تقييده بصورة عدم التمكن منه باستلزامه المنافي من البعد والانحراف عن الميت والقبلة، كما عليه الشهيدان في
الذكرى وروض الجنان
والروضة ،
تبعا للمحكي عن العلاّمة في بعض كتبه،
وعن خالي
العلامة المجلسي إنه مذهب الأكثر.
ولعلّه الأظهر، عملا بعموم ما دلّ على وجوب الدعاء، خرج منه صورة الضرورة بالنص والإجماع.
وما يقال من أنّ الاتّفاق على
الوجوب الكفائي ينفي شمول أدلة الوجوب لموضع النزاع،
حسن لو كان متعلق الوجوب هو نفس الدعاء لا الصلاة، وليس كذلك، بل المتعلق هو الصلاة، وليس الكلام فيه، بل في وجوب
الدعاء ، وهو في حق من دخل في الصلاة عيني، للأمر به الذي هو حقيقة فيه، ولا
إجماع على كفائيته.
نعم، يمكن أن يقال : إنّ عموم ما دلّ على وجوبه معارض بعموم الصحيح المتقدم الآمر بالتتابع، وكما يمكن تخصيصه بذلك كذا يمكن العكس؛ فإنّ التعارض بينهما من قبيل تعارض العموم والخصوص من وجه.
ويضعّف : بمنع العموم في الصحيح؛ فإنّ غايته الإطلاق المنصرف إلى صورة عدم التمكن من الدعاء خاصة كما هو الغالب، ولذا ورد في النص
والفتوى استحباب أن لا يبرح المصلّي عن موقفه إلى أن يرى
الجنازة في أيدي الرجال. ومع ذلك فالاحتياط في العبادة يقتضيه.
ويؤيده إشعار بعض النصوص بذلك، فإنّ فيه : سمعته يقول في الرجل يدرك مع الإمام في الجنازة تكبيرة أو تكبيرتين، فقال : «يتم التكبير وهو يمشي معها، فإذا لم يدرك التكبير كبّر عند
القبر ، فإن كان أدركهم وقد دفن كبّر على القبر»
إذ لو والى لم يبلغ الحال إلى المشي خلف الجنازة.
ولعلّ هذا مراد الشهيدين في بيان وجه
الإشعار وإن قصرت عبارتهما عن إفادته، فإنهما قالا : إذ لو والى لم يبلغ الحال إلى
الدفن .
فإن أرادا به ما تلوناه وإلاّ فضعفه ظاهر، فإنّ معنى قوله عليه السلام : «فإن كان قد أدركهم وقد دفن» أنه لم يدرك شيئا من التكبيرات مع الإمام، لا أنه أدرك البعض ولم يدرك الباقي حتى دفن. ولا يضر ضعف سنده
بالجهالة والإرسال؛ لكونه مستند الأصحاب فيما ذكروه من قولهم (وإن رفعت الجنازة) أتم (ولو على القبر) فينجبر بذلك؛ مضافا إلى موافقته لباقي الأخبار، وإن كان من غير جهة الإشعار، وينجبر من هذه الجهة بالموافقة لعموم ما دلّ على وجوب الأدعية كما عرفته.
ومن هنا يظهر عدم سقوط الدعاء عن المأموم مطلقا كباقي الأذكار، عدا القراءة في الصلوات الخمس المفروضة. والظاهر الإجماع عليه فيما إذا كان مع الإمام ولو مسبوقا، قال في المنتهى : إذا فاتته تكبيرة مثلا كبّر أولة وهي ثانية الإمام يتشهد هو ويصلّي الإمام، فإذا كبر الإمام الثالثة ودعا للمؤمنين كبّر هو الثانية وصلّى هو، فإذا كبر الإمام الرابعة ودعا للميت كبّر هو الثالثة ودعا للمؤمنين، وهكذا؛ لأنّا قد بيّنا في الفرائض أنّ المسبوق يجعل ما يلحقه أول صلاته.
انتهى، ولم ينقل فيه خلافا.
(الثاني : لو لم يصلّ على
الميت ) ودفن بغير صلاة (صلّي على قبره) وجوبا مطلقا وفاقا لجماعة.
لعموم : «لا تدعوا أحدا من أمتي بغير صلاة»
ونحوه، السالم عن المعارض بالكلية، عدا النصوص المستفيضة الناهية عن الصلاة عليه بعد دفنه.
وهي غير مصالحة للمعارضة {وإن تضمنت الموثقات وغيرها}
أوّلا :بمعارضتها بأصح منها سندا وفيه : «لا بأس بأن يصلّي الرجل على الميت بعد ما يدفن».
ونحوه نصوص أخر، منها : «إذا فاتتك الصلاة على الميت حتى يدفن فلا بأس بالصلاة عليه وقد دفن»
وبمعناه الرضوي.
وآخر : «كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فاتته الصلاة على الميت يصلّي على القبر».
وهذه النصوص مع استفاضتها أيضا أوفق
باستصحاب الجواز بل الوجوب حيث يثبت قبل الدفن، ولا قائل بالفرق. وعليه فهو دليل على الوجوب كاف في إثباته ولو لم يكن هناك عموم أو منع بدعوى اختصاصه بحكم التبادر بالميت قبل الدفن، مع أنها فاسدة في العمومات اللغوية.
وثانيا : بضعف سند جملة منها، وقصورها أجمع عن إثبات المنع مطلقا حتى في محل الفرض، لأن غايتها الإطلاق الغير المنصرف إليه.
وثالثا : بشذوذها، لدلالتها على المنع مطلقا مع أنّ الأصحاب أطبقوا ظاهرا ـ ويستفاد من الذكرى أيضا
ـ على الجواز في الجملة وإن اختلفوا في إطلاقه كما عن والد الصدوق
والعماني ،
أو تحديده بما إذا لم يتغير الصورة كما عن
الإسكافي ،
أو بأيام ثلاثة كما عن
الديلمي ،
وجعله في الخلاف رواية،
أو (يوما وليلة حسب) كما عن الشيخين والحلّي والقاضي وابني زهرة وحمزة،
وادّعى عليه الشهيدان في
الذكرى {لم يصرّح فيه
بالشهرة ، نعم تستفاد من مجموع كلامه}
والروضة
الشهرة.
ومع ذلك فهي محتملة للحمل على
التقية ، فقد حكاه جماعة عن
أبي حنيفة ،
وعلى فتاويه غالب العامة في جميع الأزمنة، فينبغي حينئذ طرحها، أو حملها على
الكراهة فيما إذا صلّي على الميت قبل الدفن، كما هو المتبادر منها، ولعلّ الوجه فيها حينئذ كراهة تكرار الصلاة على الجنازة مرتين كما مضى. لكن ظاهر الأصحاب الجواز من غير كراهة قبل ما حدّدوه من المدة، حيث أطلقوه من غير إشارة إليها، إلاّ أنه يحتمل إحالتهم لها إلى المسألة التي أشرنا إليها، وقصدهم بتحديد المدة إثبات
التحريم بعدها.
وعلى هذا التقريب يصير التحريم بعدها مشهورا كما عزاه إليهم جماعة؛
ولم أعرف مستندهم، عدا الأخبار الناهية، وهي ـ كما عرفت ـ بإطلاقها شاذة، ومع ذلك فلم يعلم منها ولا من غيرها شيء من التقديرات المذكورة في عبائر الجماعة، وبذلك اعترف الفاضلان في المعتبر والمنتهى وغيرهما،
والجمع بين النصوص المختلفة في المنع والجواز بذلك فرع شاهد عليه وحجة.
ونحوه الجمع بينها بحمل الأولة على ما إذا صلّي عليه فتحرم، والثانية على ما إذا لم يصلّ عليه فتجب، كما في
المختلف ؛
إذ لا شاهد عليه أيضا، بل ولا وجه له، سيّما مع ظهور الأخبار المجوّزة بحكم التبادر أو غيره في الصورة الأولى التي منع عن الصلاة فيها، مع أنّ مقتضاها نفي البأس، فلا يستفاد منها الوجوب، فتأمل.
وأمّا الجمع بينها بحمل المانعة على الصلاة والمجوّزة على الدعاء خاصة، كما يدل عليه بعض الأخبار المانعة،
وفيه الصحيح المقطوع وغيره، فهو وإن حسن من حيث الشاهد عليه والقرينة إلاّ أنه لا قائل به من الطائفة كما عرفته، لأن مرجعه إلى حرمة الصلاة بعد الدفن مطلقا، وهو كما ترى.
والأولى في الجمع ما ذكرنا؛ فإنّ فيه
إبقاء للنصوص مطلقا على مواردها المستفاد منها بحكم
التبادر ، وهو ما إذا صلّي على الميت قبل الدفن؛ وصرفا للأخبار المانعة المرجوحة بالإضافة إلى المجوّزة إليها؛ مع وضوح الشاهد عليه من الحكم بكراهة تكرار الصلاة على الميت كما قدّمناه.
(الثالث : يجوز أن تصلّى هذه) الصلاة (في كل وقت) ولو كان أحد الأوقات الخمسة المكروهة من غير كراهة؛
بإجماعنا الظاهر، المصرّح به في عبائر جماعة كالخلاف
والمنتهى والتذكرة وغيرها؛
والنصوص به مع ذلك بالخصوص مستفيضة وفيها الصحاح وغيرها؛
مضافا إلى أنها من ذوات الأسباب فتصلّي في كل وقت كما مرّ.
(ما لم يتضيق وقت الحاضرة) فتقدم هي لو لم يخف على الجنازة ولا يضيق وقت صلاتها، بلا خلاف فيه، ولا في وجوب تقديم الجنازة مع ضيق وقتها وسعة الحاضرة.
ولو تضيّقا معا ففي وجوب تقديم الحاضرة كما هو ظاهر إطلاق العبارة وصريح جماعة،
بل حكى عليه الشهرة خالي العلاّمة
المجلسي ،
أو صلاة الجنازة كما عن ظاهر
المبسوط خاصة،
قولان، ولعلّ الأول لا يخلو عن قوة.
ولو اتّسعا فالأولى تقديم الحاضرة على ما صرّح به جماعة؛
للمعتبرة.
وفي بعض النصوص العكس، وفيه : إذا حضرت الصلاة على الجنازة في وقت مكتوبة فبأيهما أبدأ؟ فقال : «عجّل الميت إلى قبره إلاّ أن تخاف
فوت وقت الفريضة».
وهو وإن ضعف سنده إلاّ أنه معتضد بعموم ما دلّ على استحباب تعجيل
التجهيز ،
لكنه معارض بمثله بل بأجود منه كالنص، مع أني لم أر قائلا بمضمون هذا النص وإن حكي عن الماتن
التخيير من دون ترجيح
للتعارض ،
فإنه غير القول به.
(الرابع : لو حضرت جنازة في أثناء الصلاة) على اخرى (تخيّر) {في المختصر المطبوع : تخيّر الإمام} المصلّي (في الإتمام على الأولى
والاستيناف على الثانية، وفي) قطع الصلاة على الاولى (وابتداء الصلاة عليهما) معا على الأشهر؛ للرضوي : «وإن كنت تصلّي على الجنازة وجاءت الأخرى فصلّ عليهما صلاة واحدة بخمس تكبيرات، وإن شئت استأنفت على الثانية».
خلافا
للإسكافي ،
فما في الصحيح : «إن شاؤوا تركوا الاولى حتى يفرغوا من التكبير على الأخيرة، وإن شاؤوا رفعوا الاولى وأتموا التكبيرة على الأخيرة، كلّ ذلك لا بأس به».
ومال إليه من المتأخرين جماعة؛
لصحة السند، وعدم وفوقهم على مستند الأول، مع مخالفته في صورة القطع للنهي عن
إفساد العبادة.
قال في الذكرى : نعم لو خيف على الجنائز قطعت الصلاة ثمَّ استأنف عليها؛ لأنه قطع للضرورة.
وهو حسن لو لا ما مرّ من المستند المعتضد بالعمل، فيخصّص به عموم النهي، مع إمكان التأمل في شموله لنحو هذه العبادة، لما ورد في كثير من النصوص من أنها دعاء لا صلاة حقيقة، وقطعه جائز قطعا. ولعلّه لذا استدل في
المنتهى على المختار بأن مع كلّ من هذين الأمرين ـ وأشار بهما إلى شقّي التخيير ـ يحصل الصلاة عليهما، وهو المطلوب، ثمَّ قال : ويؤيده الصحيح وساقه كما مرّ.
وظاهره ـ كما ترى ـ أنّ عمدة الدليل هو التعليل لا الصحيح كما قيل
وهو إنما يتجه لو جاز القطع، ولا يكون ذلك إلاّ لما ذكرناه من عدم عموم في النهي يشمل محلّ البحث.
رياض المسائل، ج۴، ص۷۰-۷۸.