الإتيان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
الإتيان هو احد المصطلحات الفقهية المشتركة بين عدة مباحث مختلفة
التعريف لغة:
أتى الرجل يأتي أتياً: جاء، وأتيته- بغير مدّ- أي جئته، ويستعمل
لازماً و
متعدّياً. والإتيان اسم منه بمعنى المجيء.
وأتى
الفاحشة تلبّس بها،
ومنه قوله تعالى: «أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ».
ويكنّى بالإتيان عن
الوطء ،
ومنه قوله عزّ وجلّ: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ»
كناية عن
اللواط، وقوله تعالى أيضاً: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ»
كناية عن
الجماع . فيستعمل في الذكر والانثى.
التعريف اصطلاحا:وقد استعمل
الفقهاء هذه الكلمة في معناها اللازم والمتعدّي كثيراً، كما استعملوها في معناها
الكنائي أي
الوطء و
الجماع تبعاً
للكتاب و
السنّة كما سيأتي.
۱- المجيء:
تقدّم أنّ الإتيان بمعنى المجيء، فهما سيّان كما عن أكثر أهل اللغة
وربّما يفرّق بينهما ببعض الوجوه نذكرها:
قال
الشيخ الطوسي: «المجيء والإتيان والإقبال واحد، وقال قوم: المجيء إتيان من أي جهة كان، والإقبال إتيان من قبل الوجه.
وفيه: أنّ الاتيان إقبال من قبل الوجه وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه بقرينة منشأ الاشتقاق وما سيأتي عن
العسكري .
وقال في موضع آخر: الاتيان هو الانتقال إلى مطلوب، ومثله
المجيء .
وقال
الراغب الاصبهاني: «الإتيان مجيء بسهولة، ومنه قيل للسيل المارّ على وجهه: أتى وأتاوي. والإتيان يقال للمجيء بالذات وبالأمر وبالتدبير، ويقال في الخير وفي الشر وفي الأعيان والأعراض».
وقال في موضع آخر: «المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم؛ لأنّ الإتيان مجيء بسهولة، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول، والمجيء يقال اعتباراً بالحصول».
۲- القضاء:
له معانٍ، منها الإتيان بالشيء، ومنه قوله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ»
إذ قيل: معناه إذا أتيتم بالصلاة.
لكنّ الإتيان بالشيء وإن اتّفق مع قضائه في أنّ لازم كليهما تحقّق الشيء والانتهاء منه، إلّا أنّه يختلف عنه بحسب أصلهما في أنّ القضاء يدلّ على حسم الشيء والانقطاع منه فقط من غير دلالة على اصطحاب له. وأمّا الإتيان بالشيء ففيه دلالة من هذا القبيل.
هذا، مع أنّ الإتيان بالشيء يختلف عن إتيانه في أنّ الأوّل يدلّ على اصطحاب للعمل ممّا يعني افتراضه كاملًا، ولذلك لا يطلق إلّا بعد الفراغ منه بخلاف اللفظ الثاني فانّه لا يدلّ على أكثر من مزاولته وممارسته.
۳- الإقبال:
وهو اتيان الشيء من قبل الوجه، قال
العسكريّ في فروقه: «الفرق بين الإقبال و... المجيء: إنّ الإقبال الإتيان من قبل الوجه، والمجيء إتيان من أي وجه كان».
۴- القصد:
ذكر بعضهم أنّ من معانيه:إتيان الشيء.
لكن القصد يعمّ القصد النفسي والخارجي، وإتيان الشيء هو الثاني دون الأوّل، ولذلك عبّر
الشيخ الطوسي في معنى الإتيان بالانتقال إلى مطلوب
كما تقدم.
استعمل
الفقهاء الإتيان- بمعنييه
الحقيقي و
الكنائي- في الفقه كثيراً، ونحن نقتصر على ذكر بعض موارده فقط:
۱- يتحقّق الامتثال الواجب بالإتيان بما أمر اللَّه سبحانه وتعالى به كاملًا من غير نقص في أجزائه أو شرائطه والانتهاء عمّا نهى اللَّه عنه سبحانه كذلك
وفي
الامتثال مباحث عديدة يتعرّض لها العلماء في
علم الاصول :
منها: عدّهم الامتثال من مسقطات الأمر، وإجزائه عنه.
ومنها: بحثهم فيما يتحقّق به امتثال
الأمر و
النهي حيث يذكرون بأنّ
امتثال الأمر يتحقّق بالإتيان بفرد واحد من أفراد الطبيعة، في حين لا يتحقّق امتثال النهي إلّا بترك جميع أفرادها.
ومنها: البحث المعروف عندهم بتبديل الامتثال بالامتثال، ومرادهم منه ما إذا أتى المكلّف بفرد من أفراد الطبيعة المأمور بها ثمّ بدا له استبداله بفرد آخر منه، كما لو صلّى الظهر مفرداً أو في بيته ابتداءً ثمّ بدا له أن يصلّيها ثانية جماعة أو في المسجد فهل يصحّ ذلك بعد سقوط الأمر بالامتثال الأوّل أم لا يصحّ
إلى غير ذلك من المباحث المتعلّقة بالامتثال.
۲- يستحب إتيان
المواضع الشريفة وزيارتها في
الحج و
العمرة، كإتيان
الحجر الأسود، و
بئر زمزم، و
مولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسجده، و
مسجد الأحزاب، و
الفتح، و
الفضيخ، و
قبا، و
مشربة ام ابراهيم، و
الأرقم، و
الحطيم، وزيارة قبور الشهداء خصوصاً قبر
حمزة عليه السلام، وإتيان
منزل خديجة، والغارين اللذين بجبل
حراء و
ثور، بل ربّما يستحب ذلك مطلقاً لكلّ من ورد
مكّة و
المدينة.
۳- يستحب للرجال إتيان المساجد، ويكره ذلك للنساء.
۴- يجوز للرجل إتيان حليلته في قبلها في أيّ وقت شاء من غير شرط في العقد إلّا أن تكون
حائضاً أو
نُفساء أو
مستبرأة من
وطء شبهة أو نحوه، كما يجوز له ولها اشتراط ذلك في أوقات معيّنة.
وأمّا إتيانها في
الدبر فقد اختلف فيه فقهاؤنا، و
المشهور كراهته.
هذا وقد ذكر الفقهاء لإتيان النساء أحكاماً كثيرة تحت عنوان (جماع).
۵- الإتيان في
الدبر كالإتيان في
القبل في أكثر الأحكام، فيُبطل العبادة من طهارة أو صلاة أو صوم أو حجّ إن وقع قبل الموقفين، ويوجب الجنابة على الجانبين، وكفارتي الصوم والحجّ، ومهر المثل في النكاح الفاسد و
بالشبهة ، وثبوت
الزنا و
اللواط به ووجوب حدودهما، وانتفاء
العنّة ، وتحقق
التمكين ووجوب
العدّة ، وحرمة
المصاهرة ، غير أنّه لا يثبت به
التحليل و
الإحصان.
.
۶- اللواط وهو إتيان
الذكر الذكر في دبره- حرام، ومن أكبر
الكبائر ، بل ورد انّه كفر باللَّه العظيم،
ويستحق فاعله القتل.
وقد ذكر
الفقهاء للواط أحكاماً كثيرة تأتي تحت عنوان (لواط).
۷- إتيان
المرأة الأجنبيّة -
بشبهة أو غيرها- يوجب
المهر على الرجل، والعدّة عليها، إلّا أن تكون زانية فلا يجب المهر لها؛ إذ لا مهر لبغي، ويجب
الاستبراء احتياطاً للولد ما لم يتبيّن حملها من الزنا عند بعض الفقهاء.
۸- إتيان
البهائم حرام يستحق فاعله
التعزير، وتحرق
البهيمة ويدفن رمادها إن كانت مما تقصد للأكل، وتنفى إلى بلد لا يعرف فيه واطؤها إن كانت مما تقصد لغير الأكل كالركوب والحمل ونحوهما.
.
۹- إتيان
الفاحشة والإتيان بها حرام عند الفقهاء بلا خلاف بينهم في ذلك، وإن اختلفوا في المراد من الفاحشة في بعض
النصوص الشرعية ، فذهب بعض إلى أنّ المراد منها خصوص الزنا، وبعض آخر إلى انّه ما يوجب
الحد ّ، وقال بعض ثالث بأنّه كلُّ معصية.
وهناك أبحاث في الإتيان بالفاحشة تأتي في محالّها.
۱۰- إتيان الشهادة: يجب
إتيان الشهادة ويحرم كتمانها إذا توقّف إقامة الحدّ وإقرار الحق عليها،
قال تعالى: «وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ».
وفي إتيان الشهادة أحكام عديدة تأتي في محلّها.
۱۱- إتيان البيوت : جاء في
القرآن الكريم قوله تعالى: «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها»،
وقد اختلف الفقهاء في تفسير الآية الكريمة، فذكر بعض أنّ المراد بالبيوت والأبواب هي البيوت والأبواب المعروفة، وأنّ الأمر بإتيان البيوت من أبوابها جاء نهياً عن عادة سيئة كان
أهل الجاهلية يتبعونها، حيث كانوا ينقبون في ظهر البيت نقباً يدخلون ويخرجون منه، فنهى اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك وهذا هو المعنى الحقيقي للآية.
لكن بعض المفسرين ذكر تبعاً للروايات
والاستعمالات
المتداولة عند العرف معانٍ اخرى لها.
منها: أنّ المراد من البيوت الامور، ومن أبوابها وجوهها، فيكون معنى الآية هو أنّ الامور تؤتى من وجوهها، فقد روى
العياشي عن
جابر بن يزيد عن
أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى «وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها» الآية، قال:
«يعني أن يأتي الامور من وجهها، أي الامور كان».
ومنها: أنّ المراد بالبيوت مواضع الاستقرار والإقامة الدائمة وهي الجنّة وغرفها، وبأبوابها الأئمة عليهم السلام، فإنّهم الدعاة والقادة إليها.
فقد روى
العياشي وغيره عن الأئمة عليهم السلام بعض الروايات في ذلك.
فعن
سعد عن
أبي جعفر عليه السلام قال:
سألته عن هذه الآية... فقال: «آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أبواب اللَّه وسبيله، والدعاة إلى الجنّة، والقادة إليها والأدلّاء عليها إلى يوم القيامة».
ومنها: أنّ المراد بالبيوت بيوت
الأئمة عليهم السلام وبالأبواب أبوابها، وهو أيضاً مروي.
فعن سعيد بن منخل في حديث له رفعه قال: «البيوت الأئمة عليهم السلام، والأبواب أبوابها».
وفي رواية اخرى عن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: «نحن البيوت التي أمر اللَّه أن تؤتى من أبوابها، ونحن باب اللَّه وبيته الذي يؤتى منه، فمن يأتينا وآمن بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها».
كما روي نزولها في الإمام عليّ عليه السلام، فعن الحسن- أي ابن
علي بن سالم الأنصاري- عن أبيه، و
عاصم و
الحسين بن أبي العلاء عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام في الآية، قال: «مطروا بالمدينة فلمّا
تقشّعت السماء، وخرجت الشمس خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في اناس من
المهاجرينو
الأنصار، فجلس وجلسوا حوله، إذ أقبل
عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم لمن حوله: هذا عليٌّ قد أتاكم نقيّ القلب نقي الكفّين، هذا علي بن أبي طالب يمشي كمالًا، ويقول صواباً، تزول
الجبال ولا يزول عن دينه.
قال: فلما دنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أجلسه بين يديه فقال: يا علي أنا مدينة الحكمة، وأنت بابها، فمن أتى المدينة من الباب وصل. يا عليّ أنت بابي الذي اوتى منه، وأنا باب اللَّه فمن أتاني من سواك لم يصل، ومن أتى سواي لم يصل. فقال القوم بعضهم لبعض: ما يعني بهذا؟ اسألوا به علينا قرآناً، قال: فأنزل اللَّه به قرآناً:
«لَيْسَ الْبِرُّ...»» إلى آخر الآية.
ومنها: أنّ المراد بالبيوت بيوت علم الأنبياء عليهم السلام وبالأبواب أوصياؤهم، وهو
المروي عن
أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً حيث قال: «قد جعل اللَّه للعلم أهلًا، وفرض على العباد طاعتهم بقوله: «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» والبيوت هي بيوت العلم الذي استودعته الأنبياء، وأبوابها أوصياؤهم».
وجعله بعض
الفقهاء من
مصاديق إتيان الامور من وجهها.
قال في بيان ذلك
الفيض الكاشاني:
«ومنه إتيان الأمر من وجهه أخذ أحكام الدين عن أمير المؤمنين وعترته الطيّبين؛ لأنّهم أبواب مدينة علم النبي صلوات اللَّه عليه وعليهم أجمعين.. كما قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، ولا يؤتى المدينة إلّا من بابها» وقال علي عليه السلام: «قد جعل اللَّه للعلم أهلًا وفرض...»».
ومنها: أنّ المراد بالبيوت النساء، وبالباب
القبل، فكأنّه نهي عن
إتيان النساء في أدبارهن، قال
الشيخ الطوسي: «قيل في معنى الآية قولان:
أحدهما: انّه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا
نقبوا في ظهر بيوتهم نقباً، يدخلون منه ويخرجون. فنهوا عن
التدين بذلك، وامروا أن يأتوا البيوت
من أبوابها في قول
ابن عباس و
البراء و
قتادة و
عطاء.
والثاني: قال قوم واختاره
الجبائي: انّه مثل ضربه اللَّه لهم «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» أي ائتوا البرّ من وجهه الذي أمر اللَّه به، ورغّب فيه، وهذا الوجه حسن.
وروى
جابر عن أبي جعفر محمّد بن علي عليهما السلام في قوله: «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ...» الآية، قال: «يعني أن يأتي الأمر من وجهه» أي الامور.
وروى
أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام مثل قول
ابن عباس سواء.
وقال قوم: أراد بالبيوت النساء؛ لأنّ المرأة تسمّى بيتاً على ما بيّناه فيما مضى، فكأنّه نهى عن إتيان النساء في أدبارها، وأباح في قبلهن.
والأوّلان
أقوى وأجود».
وذكر غير ذلك أيضاً.
لكن الظاهر أنّ
الأمر والنهي الواردين في الآية بجميع المعاني التي ذكرت لها ليس أمراً ونهياً
مولويّين ، بل
إرشاديين إرشاديين إلى الطريق الاصولي الذي ينبغي اتّباعه وتجنب ما عداه إلّا أن يكون في اتباع غيره إدخال لما ليس من الدين فيه فيحرم.
قال
العلّامة الطباطبائي: «والأمر في قوله تعالى: «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» ليس أمراً مولوياً وإنّما هو إرشاد إلى حسن إتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلًا ومخرجاً فيها، فإنّ الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلّا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدلّ على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب.
نعم، الدخول من غير الباب بقصد انّه من الدين
بدعة محرّمة».
الموسوعة الفقهية - موسسه دائرة المعارف الفقه الاسلامي