العصبة العاقلة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
من تقرب إلى
الميت بالأبوين أو
بالأب كالإخوة وأولادهم، والعمومة وأولادهم، والأجداد وإن علوا، وقيل: هم الذين يرثون دية القاتل لو قتل، والأول أظهر؛ ومن
الأصحاب من شرك بين من يتقرب
بالأم من يتقرب بالأب والأم أو بالأب، وهو استناد إلى رواية
مسلمة بن كهيل، وفيه ضعف؛ ويدخل الآباء والأولاد في العقل على الأشبه. ولا يشركهم القاتل؛ ولا تعقل المرأة ولا الصبي ولا المجنون وإن ورثوا من
الدية؛ وتحمل العاقلة دية الموضحة فما فوقها اتفاقا، وفيما دون الموضحة قولان، المروي: أنها لا تحمله، غير أن في
الرواية ضعفا.
وضابط العصبة كل من يتقرب إلى
الميت بالأبوين أو بالأب خاصّة وإن لم يكونوا وارثين في الحال كالإخوة وأولادهم وإن نزلوا والعمومة وأولادهم كذلك والأجداد وإن علوا وفاقاً
للمقنعة والمبسوط والخلاف
والمهذّب والفاضلين هنا وفي الشرائع والإرشاد والتحرير والقواعد والمختلف
والشهيد في
اللمعة، وغيرهم
، وبالجملة: المشهور على الظاهر، المصرّح به في المختلف
والروضة والمسالك.
وفي
السرائر أنّهم العصبات من الرجال، سواء كان وارثاً أو غير وارث، الأقرب فالأقرب، ويدخل فيها الولد والوالد. وقال: إجماع أصحابنا منعقد على أنّ العاقلة جماعة الورّاث من الرجال دون من يتقرب بالأُمّ
.
وظاهره كما ترى دعوى
الإجماع عليه، وإن زعم مخالفة قوله لقولهم فعدّ قولاً آخر
، ولم أفهم الوجه فيه، إلاّ من حيث إطلاقه الرجال في صدر العبارة بحيث يتوهّم منه الشمول لمثل الإخوة من الأمّ والأخوال، لكن تصريحه أخيراً باستثناء من يقترب منهم بالأُمّ يدفع ذلك، ويوجب اتحاد قوله مع قولهم، ولذا لم يجعله كثير مخالفاً لهم.
وعبارته صريحة في دعوى الإجماع، وهو
الحجة المعتضدة بالشهرة المحققة والمحكية، المحتملة كونها إجماعاً، كما ربما يستفاد من
المختلف حيث استند بها لهذا القول، والحال أنّ
الشهرة بالمعنى المصطلح ليست عنده بحجة ما لم تبلغ درجة الإجماع، فاستناده بها لعلّه كاشف عن بلوغها تلك الدرجة، هذا.
مضافاً إلى ما قيل من أنّ ما ذكروه هو المعروف من معناها
. ويوافقه ما في
مجمع البحرين: عَصَبة الرجل بنوه وقرابته لأبيه، قال: والجمع العصائب، قال
الجوهري: وإنّما سمّوا عَصَبة لأنّهم عصبوا به أي أحاطوا به، فالأب طرف، والابن طرف، والأخ جانب، والعمّ جانب
. فتدبّر.
وقيل في
النهاية والغنية والإصباح فيما حكي
أنّهم هم الذين يرثون القاتل ديته لو قتل ولا يلزم من لا يرث ديته شيئاً مطلقا.
واعترضه جماعة، ومنهم
الماتن في
الشرائع، فقال: وفي هذا الإطلاق وهم؛ فإنّ الدية يرثها الذكور والإناث، والزوج والزوجة، ومن يتقرّب بالأُمّ على أحد القولين، ويختص بها الأقرب فالأقرب كما تورث الأموال، وليس كذلك العقل، فإنّه يختصّ الذكور من العَصَبة دون من يقترب بالأُمّ، ودون الزوج والزوجة
.
وهو حسن، إلاّ أنّ بعض الأفاضل وجّه كلامهم بما يرجع به إلى ما عليه القوم، فقال: وعبارة النهاية هكذا: وأمّا دية الخطأ فإنّها تلزم العاقلة الذين يرثون دية القاتل أن لو قتل، ولا يلزم من لا يرث من ديته شيئاً على حال، وهي توهِم العموم، وليست صريحة فيه، فإنّ الوصف يجوز أن يكون للتعليل دون التفسير، ولذا قال المحقّق: وفي هذا الإطلاق وهم، فيكون كقول
المفيد، ولا يؤخذ لإخوته من امّه شيء، ولا من أخواله؛ لأنّه لو قتل وأُخذت ديته ما استحق إخوته لأُمّه وأخواله منها شيئاً، فلذلك لم يكن عليهم منها شيء، ثم ليس في عبارة النهاية تفسير العصبة. وعبارة الغنية والإصباح، كذا: وعاقلة الحرّ
المسلم عَصَبته الذين يرثون ديته. وظاهرها أيضاً التعليل، والاتّكال في معنى العصبة على وضوحه، وأنّ المفهوم منهم المتقربون بالأب من الرجال، أو التوضيح أو التنصيص على الاختصاص بالمتقرّبين بالأب
. انتهى.
ويؤيدّه فهم
الحلّي من النهاية ما يوافقه، ولذا لم يعترضه، بل اعتضد به، فتأمّل.
وكيف كان فالقول الأوّل أظهر لما مرّ.
ومن الأصحاب من خصّ به الأقرب ممّن يرث بالتسمية، ومع عدمه يشترك في العقل بين من يتقرّب بالأُمّ مع من يتقرّب بالأب والأُمّ أو بالأب أثلاثاً كالإرث، وقد يستدل له بالنصوص الواردة فيمن هرب ولم يظفر به حتى مات أنّه يؤخذ من تركته، فإن لم يكن فمن الأقرب فالأقرب
.
والمرسل: في الرجل إذا قتل رجلاً خطأ فمات قبل أن يخرج إلى أولياء المقتول من
الدية: «إنّ الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من
بيت المال.
وفي الجميع نظر؛ لضعف المرسل كبعض تلك النصوص، مع خروجها على تقدير القول بها في تلك المسألة عن مفروض المسألة؛ لكونه
دية الخطأ لا العمد كما هو موردها، وأحدهما غير الآخر، هذا.
مضافاً إلى قصور الجميع عن المكافأة لما قدّمناه من الأدلة.
ونسب جماعة
من الأصحاب هذا القول إلى
الإسكافي، قالوا: وهو استناد إلى رواية
سلمة بن كهيل قال: اتي
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) برجل من أهل
الموصل قد قتل رجلاً خطأ، فكتب أمير المؤمنين (علیهالسّلام) إلى عامله بها في كتابه: «أسأل عن قرابته من المسلمين فإن كان من أهل الموصل ممّن ولد بها وأصبت له قرابة من المسلمين فادعهم إليك، ثمّ انظر، فإن كان هناك رجل يرثه له سهم في الكتاب لا يحجبه أحد من قرابته فألزمه الدية وخذها منه في ثلاث سنين، وإن لم يكن له من قرابته أحد له سهم في الكتاب وكانوا قرابته سواء في
النسب ففضّ الدية على قرابته من قبل أبيه، وعلى قرابته من قبل امّه من الرجال الذكور المسلمين، ثم اجعل على قرابته من قبل أبيه ثلثي الدية واجعل على قرابته من قبل امّه الثلث»
الحديث.
وسلمة
الراوي فيه ضعف لكونه بترياً مذموماً. انتهى محصّل ما ذكروه.
وناقشهم في النسبة بعض الفضلاء، فقال: وعبارة الإسكافي كذا: العاقلة هم المستحقون لميراث القاتل من الرجال العقلاء، سواء كانوا من قبل أبيه أو امّه، فإن تساوت القرابتان كالإخوة للأب والإخوة للُامّ كان على الإخوة للأب الثلثان، وعلى الإخوة للُامّ الثلث، سواء كان المستحق للميراث واحداً أو جماعة، ولا يلزم ولد الأب شيء إلاّ بعد عدم الولد والأب، ولا يلزم ولد
الجدّ شيء إلاّ بعد عدم الولد للأبوين. وهي ليست نصّاً في استحقاق
الإرث بالتسمية، ولا في شمول العقل كلّ من يرث بالتسمية، بل ظاهر قوله: سواء كان من قبل أبيه أو امّه، اختصاصه بالأجداد وبالإخوة والأعمام والأخوال وأولادهم، ثم ليس فيها اشتراط التشريك بين المتقرب بالأب والمتقرب بالأُمّ بعدم الوارث.
ثم قال: ولكن ظاهر المختلف أنّه نزّلها على مضمون خبر سلمة بن كهيل
. انتهى. وهو جيّد.
واعلم أنّ
الرواية لا دلالة لها على القول المحكي في العبارة بإطلاقه؛ لشموله المتقرب بالأُمّ والمتقرب بالأب الذكور والإناث، وكذا الأقرب ممّن يرث بالتسمية يشمل نحو الامّ والبنت والأُخت، مع أنّ الرواية مصرّحة بالتقييد بالرجال، فالاستدلال بها لذلك كما في العبارة وغيرها لا يخلو عن إشكال، ولذا عدلت عنه إلى الاستدلال بتلك
النصوص المزبورة وإن كانت قريبة منها في وجه الضعف والإشكال.
اللهم إلاّ أن ينزّل إطلاق القول على الرواية بتقييده بما فيها من إرادة الرجال خاصّة، كما وجّه به كلام النهاية، ويجعل الاستدلال بها له على ذلك قرينة، فافهم.
ويدخل الآباء والأولاد في العقل على الأشبه وفاقاً للمفيد والإسكافي والشيخ في النهاية
والحائريات والسرائر
والجامع وأبي العباس كما حكي
، وهو خيرة الفاضلين هنا وفي
الشرائع والتحرير والقواعد والصيمري والشهيد في اللمعة
، وهو ظاهر
التنقيح، وبالجملة: المشهور على الظاهر، المصرّح به في
الإيضاح، بل ادّعى الحلّي عليه الإجماع
، وهو الحجة.
مضافاً إلى دخولهم في مفهوم العَصَبة لغةً كما يستفاد من كلام الجوهري المتقدّم وكثير من أهلها.
خلافاً للمحكي عن الخلاف والمبسوط والمهذّب
والوسيلة، فلا يدخلون؛
لأصالة البراءة.
ويجب الخروج عنها بما عرفته، مع ضعف التمسك بها هنا بناءً على إيجابه اشتغال ذمّة أُخرى مع أنّ الأصل براءتها أيضاً، ومرجعه إلى معارضتها بالمثل كما لا يخفى.
وللإجماع.
وفيه وهن ظاهر، كدعوى شيخنا في المسالك والروضة
عليه الشهرة، مع معارضتهما بالمثل كما عرفته.
ولخروجهم عن مفهوم العَصَبة.
وفيه منع ظاهر عرفت وجهه.
ولنصوص عامية.
نعم في
الصحيح: «أنّ أمير المؤمنين (علیهالسّلام) قضى في امرأة أعتقت رجلاً، واشترطت ولاءه، ولها ابن، فألحق ولاءه بعَصَبتها الذين يعقلون عنها دون ولدها»
.
لكنّه غير واضح الدلالة؛ لاحتمال كون «دون ولدها» استثناءً من العَصَبة، والأصل في الاستثناء الاتصال، وعليه فتكون الرواية واضحة الدلالة على المختار، مع استفادته أيضاً من رواية سلمة بن كهيل المتقدّمة، لكن ضعف
سندها كما عرفته، مع اشتمالها على أحكام غريبة لم يقل بجملة منها أحد من الطائفة ربما أوجب الوهن في الاستدلال بها وجعلها حجّة، وإن أمكن الذبّ عنه بجبره بالشهرة وحكاية الإجماع المتقدمة.
ولا يشركهم أي العاقلة في العقل القاتل بلا خلاف أجده، بل عليه الإجماع في ظاهر عبارة بعض الأجلّة، قال: خلافاً
لأبي حنيفة.
والحجة عليه بعده أصالة البراءة، مع ظهور النص
والفتوى باختصاص الدية بالعاقلة.
ولا تعقل المرأة، ولا الصبي، ولا المجنون، وإن ورثوا من الدية بلا خلاف على الظاهر، المحكي عن المبسوط
.
قيل: لخروجهم عن مفهوم العصبة عرفاً، وأصل البراءة
.
وفي أصل البراءة ما عرفته. وأمّا دعوى الخروج فهي حسنة بالإضافة إلى المرأة، أمّا الصبي والمجنون فدعوى خروجهما عن مفهومها لعلّها لا تخلو عن إشكال.
والأصل على تقدير صحته يخرج عنه بالإطلاقات، إلاّ أن يذبّ عنها بعدم معلومية شمولها لهما؛ لعدم تباردهما منها جدّاً ولو كانا داخلين تحت مفهوم العصبة حقيقةً.
وتحمّل العاقلة دية الموضحة وما فوق الموضحة كالهاشمة والمنقّلة ونحوهما اتفاقاً منّا على الظاهر، المصرّح به في كلام جماعة
حدّ الاستفاضة، وفيه
الحجة؛ مضافاً إلى الإطلاقات، وخصوص الموثقة الآتية.
وفي تحمّلها ما دون الموضحة من الحارصة والدامية ونحوهما قولان أحدهما: نعم، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف والحلّي في السرائر
مدّعياً عليه الإجماع؛ للإطلاقات.
والثاني: وهو المروي في
الموثق أنّها لا تحمله وهو خيرة الشيخ في النهاية
والحلبي والقاضي في أحد قوليه والغنية
والإصباح والوسيلة كما حكي
، وإليه ذهب الفاضل في المختلف وولده في الإيضاح
والفاضل المقداد والصيمري
، وغيرهم من المتأخّرين
، والظاهر أنّه المشهور كما صرّح به في
التحرير والروضة
.
وهو الأقوى؛ لاعتبار سند الرواية بالموثقية.
مضافاً إلى الاعتضاد أو الانجبار بالشهرة الظاهرة والمحكية، وبالاعتبار؛ للزوم الضرر الكثير بالتحمّل، بناءً على غلبة وقوع التنازع وحصول الجنايات الكثيرة من الناس، فلو وجب كلّ جرح قلّ أو كثر على العاقلة لزم حصول المشقّة لهم، وتساهل الناس في الجنايات؛ لانتفاء
الضمان عنهم، فتأمّل.
وبذلك يذبّ عن
الإجماع المنقول، مع وهنه بمصير الأكثر على خلافه، ويتعيّن الخروج به عن الإطلاقات، مع إمكان التأمّل في شمولها لمحل البحث؛ لاحتمال اختصاصها بحكم
التبادر بدية النفس.
ولا ينافيه الاتفاق على التحمّل في نحو الموضحة؛ لاحتمال كون ذلك بمجرّد الاتفاق، لا للإطلاق، وحينئذٍ يجب الرجوع إلى حكم القاعدة من كون الأصل في الجناية تعلّق ديتها برقبة الجاني، لا غيرها؛ إذ«لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى»
خرجنا عنها فيما عدا موضع الخلاف بالوفاق، ويبقى ما عداه داخلاً تحتها.
وربما يستفاد من قول الماتن هنا
والفاضل في
القواعد: غير أنّ في الرواية ضعفاً ميلهما إلى القول الأوّل، أو توقّفهما فيه.
وهو ضعيف، كدعوى ضعف الرواية؛ لأنّها من الموثّق لا الضعيف بمعنى المصطلح، لكنّ الأمر في هذا سهل، سيّما على طريقة الماتن.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۶، ص۵۶۸-۵۷۸.