القضاء بإخبار حاكم آخر
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا يحكم الحاكم بإخبار لحاكم آخر، ولا بقيام
البينة بثبوت الحكم عند غيره؛ نعم لو حكم بين الخصوم وأثبت الحكم وأشهد على نفسه فشهد شاهدان يحكم عند آخر وجب على المشهود عنده إنفاذ ذلك الحكم.
لا يجوز أن يحكم الحاكم بإخبار حاكم آخر أي لا يمضي ولا ينفذ حكمه في واقعة إذا أنهاه إليه بإخباره ولا بقيام البيّنة بثبوت الحكم المزبور عند غيره وهو الحاكم الآخر.
ولو اكتفى بالضمير وأسقط المضاف كان أخصر وأوضح. ولا بكتابة إليه مطلقاً، إجماعاً في الثلاثة لو كان المحكوم به شيئاً من حقوق الله سبحانه؛ لبنائها على التخفيف؛ ولزوم درئها بالشبهة؛ وعدم ثبوتها
بالإقرار ولو في الجملة. وكذا لو كان من حقوق الناس في الإنهاء بالكتابة، بلا خلاف أجده إلاّ من
الإسكافي، فأوجب الإنفاذ بها على الحاكم الثاني.
وهو شاذّ، بل على خلافه الإجماع في كثير من الكتب
كالسرائر والتحرير والمختلف والقواعد وغيرها من كتب الأصحاب
، وهو
الحجة على ضعفه. ولا يقدح فيها خروجه؛ لمعلومية نسبه.
مضافاً إلى الخبرين: «أنّ
عليّاً (علیهالسّلام) كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حدّ ولا غيره حتى وليت
بنو أُمية، فأجازوا بالبيّنات»
.
وضعفهما منجبر بالشهرة العظيمة، والإجماعات المحكية، والأدلة القاطعة من
الكتاب والسنّة المانعة عن العمل بالمظنّة، بناءً على أنّ الكتابة لا تورث العلم؛ لاحتمالها
التزوير فيها، أو عبث الكاتب بها وعدم قصده ما فيها.
فلا ريب في ضعف ما اختاره، وإن مال إليه بعض متأخّري متأخّري
الطائفة، قائلاً: إنّه قد يحصل الظن المتاخم للعلم أقوى من الذي حصل من الشاهدين، بل العلم بالأمن من التزوير، وانّه كتب قصداً لا غير، فإذا ثبت بأيّ وجه كان مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم بأنّ
القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا يجب إنفاذه وإجراؤه من غير توقف، ويكون ذلك مقصود
ابن الجنيد. ويمكن أن لا ينازعه أحد، ويكون مقصود النافي المنع في غير تلك الصور، بل الصورة التي لم تكن مأمونة من التزوير، وعلى تقديره لم يكن معلوماً كونه مكتوباً قصداً، ولهذا يجوز العمل بالمكاتبة في
الرواية، وأخذ المسألة والعلم والحديث من الكتاب الصحيح عند الشيخ المعتمد، كما جوّزوه في الأُصول لنقل الحديث
. انتهى.
وفيه نظر؛ لأنّ ذلك فرع قيام دليل قاطع على جواز العمل بالظن مطلقا، ولم نجده في نحو محل البحث مما يتعلق بموضوعات الأحكام التي لم تتوقف عليها مطلقاً، ولو كان الظن للعلم متاخماً.
ومجرد كون الظن بالكتابة أقوى من
الظن الحاصل من شهادة الشاهدين لا يوجب قطعيته ولا حجّيته إلاّ على تقدير أن يكون حجّيتها من حيث إفادتها المظنّة، وهو ممنوع، بل كلمة القائلين بحجّيتها وسماعها هنا مطبقة على أنّها من جهة الأدلة الأربعة التي سيأتي ذكرها، وهي أدلة قاطعة، أو ظنّية ظنّاً مخصوصاً مجمعاً عليه، ومثلها لم يقم على اعتبار ظنّ الكتابة، بعد إمكان دفع الضرورة التي هي الأصل في تلك الأدلة بالإشهاد على الحكم، وإقامة البيّنة وإنفاذ الحاكم الثاني الحكم بها.
وبالجملة: لو كان السبب لاعتبار
شهادة الشاهدين هو إفادتها المظنّة أمكن ما ذكره، أمّا لو كان قضاء الضرورة وغيره مما هو كالدليل القاطع فلا وجه له، ولا لقياس الكتابة بالشهادة، ولا بالاكتفاء بالرواية المكاتبة وأخذ المسألة ونحوهما مما ذكره؛ لأنّ مستند الاكتفاء بهذه الأُمور المعدودة في نحو
الأحكام الشرعية إنّما هو من حيث قضاء الضرورة،
وانسداد باب العلم بها بالكلية، وعدم إمكان تحصيلها إلاّ بالمظنّة، وأنّ عدم اعتبارها حينئذ يوجب إمّا الخروج عن
التكليف، أو التكليف بما لا يطاق، وهما ممتنعان قطعاً، عقلاً وشرعاً.
وهذا السبب يختص بها دون نحو ما نحن فيه مما لم ينسد فيه باب العلم ويمكن تحصيله، فيجب فيه تحصيل
القطع، فإن حصل، وإلاّ فيرجع إلى الأصل، وهذا طريق قطعي لا ينكر، مسلّم عند الكل حتى هذا القائل.
ويضعف قياس الكتابة هنا بها في الرواية زيادة على ذلك أنّه لو صح لزم اعتبارها هنا مطلقاً ولو لم يفد الظنّ الأقوى، بل ولو أفاد ظنّاً ما كفى للاكتفاء به في الرواية المكاتبة عند القائل بحجّيتها إن لم يحصل لها معارض أقوى، فما ذكره من
التقييد بالظنّ الأقوى أو المتاخم لا وجه له أصلاً، بل ينبغي أن يطلق اعتبار الكتابة، كما هو ظاهر الإسكافي والأصحاب الرادّين عليه في المسألة، هذا.
وفي كلامه مناقشات أُخر يطول الكلام بذكرها، وإنّما المهم ممّا يرد عليه هو ما ذكرنا.
وكذا في الإنهاء بالبيّنة بمجردها من غير أن يشهدها الحاكم الأوّل على حكمه في الواقعة، بلا خلاف أجده من
الأصحاب كافة. نعم احتمل الإنفاذ بها مطلقاً البعض المتقدم إليه الإشارة
، معلّلاً بما يرجع حاصله إلى عدم تعقل مدخلية للإشهاد في اعتبارها، مع كونه داخلاً في عموم الأدلة الآتية التي عمدتها قضاء الضرورة ومسيس الحاجة إلى الإنفاذ بالبيّنة.
وهو حسن لولا عدم الخلاف في عدم الإنفاذ بها هنا، مع احتمال أن يمنع الدخول في العموم، بناءً على أنّ مسيس الحاجة إنّما يبيح الاكتفاء بالشيء لو لم يتصور اندفاعها إلاّ به، وهي تندفع بالبيّنة التي أشهدها الحاكم، فلا وجه للاكتفاء بغيرها، بل الأصل الناهي عن العمل بالظنّ مع عدم مخرج عنه في محل البحث يقتضي المصير إلى ما ذكروه، ومحصله وجوب استناد الحكم إلى القطع إلاّ حيثما لا يمكن مع مسيس الحاجة إليه، فيجب تحصيل الأقرب إليه، وليس إلاّ المتفق عليه، وإلى هذا الأصل يشير كلام كثير في هذا البحث، ولا ريب في قوته ومتانته.
وأمّا عدم الإنفاذ بإخبار الحاكم، فمحل خلاف بين الأصحاب، فبين:
مختار له، كظاهر إطلاق المتن ونص
الخلاف.
ومختار للإنفاذ،
كالفاضل في
القواعد والإرشاد، والشهيدين في
الدروس والمسالك.
ومتردّد فيه،
كالماتن في
الشرائع والفاضل في
التحرير، ينشأ:
من الأصل المتقدم المعبر عنه في كلامهم بأنّه حكم من الثاني بغير علم وقد نهى الله تعالى عنه، خرج منه ما دل عليه دليل من خارج، فيبقى الباقي على الأصل.
وممّا سيأتي إن شاء الله تعالى من جوازه مع
الشهادة على حكمه فمع مشافهته أولى.
وفيه نظر؛ إذ المشافهة الموجبة للأولوية إنّما هي مشافهة حكمه الذي هو متعلق الشهادة، لا مشافهة إخباره به، فإن الأولوية هنا غير واضحة. ولعله إلى هذا يشير كلام بعض الأجلة حيث قال في منعها: فإنّ الغرض من الشهود إثبات حكم الحاكم لا إقراره به، وليس إثباته بقول الحاكم أقوى من إثباته بشاهدين عدلين؛ إذ هما عدلان وهو عدل واحد، وقول العدلين
حجة دون الواحد
. انتهى. ولكنه خلاف الإنصاف.
وكل من منع هنا يلزمه المنع عن الإنفاذ بالبيّنة التي أشهدها الحاكم مع عدم حضورها مجلس الحكم
والدعوى بطريق أولى. وفي قبولها على القول الآخر إشكال، لكنه ظاهر كل من قال به ممّن مرّ، ونسبه في المسالك إلى الأكثر
بعد أن اختاره بأدلة، منها: أنّ الأدلة الآتية الدالة على تسويغ أصل هذا الإنفاذ آتية في هذه الصورة.
وفيه مناقشة تقدم إلى وجهها الإشارة، مع أنّه لو شملت الأدلة الآتية هذه الصورة لشملت صورة ما إذا لم يشهد الحاكم البيّنة، كما احتمله البعض المتقدم إليه الإشارة، فما هو الجواب عن هذا فهو الجواب عمّا ذكره، فتأمّل.
وكيف كان
الاحتياط في المقامين يقتضي المصير إلى العدم، سيّما في الثاني؛ عملاً بالأصل؛ واقتصاراً على المتيقن.
نعم لو حكم الحاكم الأوّل بين الخصوم وأثبت الحكم وأشهد على نفسه وحكمه شاهدين عادلين حضرا الدعوى وسمعاها وإقامة شهادة الشاهدين على المدّعى وحكم الحاكم وشهد الشاهدان بحكمه عند آخر وجب على الحاكم المشهود عنده إنفاذ ذلك الحكم على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، وبه صرح جمع
معربين عن دعوى إجماعهم عليه، وهو الحجة.
مضافاً إلى ما ذكروه من مسيس الحاجة في إثبات الحقوق مع تباعد الغرماء، وتعذّر نقل الشهود من البلاد المتباعدة، أو تعسّرها، وعدم مساعدة شهود الفرع أيضاً على النقل، والشهادة الثالثة غير مسموعة، وأمّا الشهادة على الحكم فهي بمنزلة الثانية، فتكون مسموعة. وأنّها لو لم تشرع لبطلت الحجج مع تطاول المدّة، ولأدّى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر.
وأنّ الغريمين لو تصادقا أنّ حاكماً حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم به الأوّل إجماعاً في الظاهر المصرح به في بعض العبائر
، فكذا إذا قامت البيّنة؛ لأنّها تثبت ما لو أقرّ الغريم به لزم، هذا.
مع أنّ القائل بالمنع هنا غير معروف، وإن حكاه الأصحاب في كتبهم، ويظهر من المختلف أنّه جماعة، لكنه قال: وربما منع من ذلك جماعة من علمائنا
.
وفيه نوع إيماء إلى عدم قطعه بمخالفتهم، وحجتهم مع ذلك غير واضحة عدا
الأصل المخصص بما مرّ من الأدلة.
وما يستفاد من الماتن في الشرائع وغيره
من
فتوى الأصحاب بأنّه لا يجوز كتاب قاضٍ إلى قاضٍ ولا العمل به، والخبرين المتقدمين، فضعفهما ظاهر؛ لاختصاصها بغير محل النزاع، وهو المنع من كتاب قاضٍ إلى قاضٍ وإجازة العمل به، ونحن نقول به.
نعم ربما كان في ذيل الخبرين ما يعرب عن المنع عن كتاب قاضٍ إلى قاضٍ مطلقاً ولو كان مع البيّنة، لكن ضعفهما سنداً، وعدم جابر لهما هنا، مع عدم مقاومتهما لشيء من الأدلة التي قدمناها، يضعف الاستناد إليهما، سيّما مع عدم صراحة دلالتهما، بل ولا ظهورهما في المنع عن العمل بالبيّنة مطلقاً حتى التي نحن نقول بها؛ إذ البيّنة التي أجازته بنو أُميّة لعلها كانت البيّنة على صحة الكتابة لا على الحكم، أو عليه لكن من دون شرائطه المتقدمة.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۱۳۴-۱۴۱.