شهادة المملوك
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وفي قبول
شهادة المملوك روايتان، أشهرهما: القبول؛ وفي شهادته على المولى قولان، أظهرهما: المنع؛ ولو اعتق قبلت للمولى وعليه؛ ولو اشهد عبديه بحمل انه ولده، فورثهما غير الحمل واعتقهما الوارث فشهدا للحمل قبلت شهادتهما ورجع
الإرث إلى الولد، ويكره له استرقاقهما.
وفي قبول شهادة المملوك روايتان، أشهرهما كما حكاه جماعة
حدّ الاستفاضة جدّاً القبول في الجملة، وعليه متأخرو الأصحاب كافّةً، بل عليه الإجماع في
الانتصار والسرائر والغنية، وهو
الحجة المعاضدة لهذه الرواية المشهورة، وهي مع ذلك متعددة متضمنة للصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة.
فمن الأوّلة: «قال
أمير المؤمنين (علیهالسّلام): لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»
. ونحوه الصحيح الوارد في قضية درع
طلحة المتضمن لقوله (علیهالسّلام) لشريح بعد ردّه شهادة
قنبر له (علیهالسّلام): «ولا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»
.
وهو صريح في ردّ من ردّ شهادته لمولاه
كالصدوقين،
والشيخ في كتابي الحديث،
والحلبي. وقريب منه في الردّ عليهم الصحيحة الآتية في المسألة الآتية بعد مسألة.
ومنها: عن المملوك تجوز شهادته؟ قال: «نعم، وإنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك لفلان»
. وفي
رواية معتبرة بل قيل: صحيحة
: «إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك عمر بن الخطاب» الخبر
.
ومنها: «تجوز شهادة العبد
المسلم على الحرّ المسلم»
. وهو صريح في ردّ
الإسكافي، حيث قبل شهادته على مثله وعلى
الكافر، وردّها على الحرّ المسلم
.
ومنها: «تجوز شهادة المملوك من
أهل القبلة على
أهل الكتاب»
. وليس فيه دلالة على مذهب الإسكافي في الشق الثاني إلاّ بمفهوم اللقب، ولا نقول بحجيته.
ومنها: عن
المكاتب تجوز شهادته؟ فقال: «في
القتل وحده»
. وبفحواه يستدل على قبول شهادته كلّيةً، إلاّ أنّ ذكر خصوص القتل وتأكيده بوحدة ربما ينافي ذلك، بل أصل
الحجية؛ لكونه شاذّاً لا قائل به من الطائفة، لكنه مع ذلك صالح لتأييد الأخبار السابقة.
ونحوه في شذوذ الظاهر والصلوح للتأييد والتقوية الموثقة كالصحيحة بعثمان وفضالة اللذين أجمعت على تصحيح ما يصح عنهما العصابة
: عن الرجل المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ فقال: «تجوز في
الدين والشيخ اليسير»
.
وهذه النصوص مع صحة أكثرها، واستفاضتها، واشتهارها بين الأصحاب، واعتضادها بالإجماعات المحكية موافقة لعمومات
الكتاب،
والسنّة المستفيضة، بل المتواترة الدالّة على قبول شهادة من اجتمعت فيه شرائط قبول الشهادة، ومخالفة لما عليه أكثر العامّة بل عامّتهم، كما يستفاد من شيخ الطائفة
وغيره
، ونسبه في
كنز العرفان إلى فقهائهم الأربعة، وعلى هذا يجب أن يحمل على
التقية الرواية الثانية المانعة عن قبول شهادته بالكلّية، كالصحيح: عن شهادة
ولد الزنا، فقال: «لا، ولا عبد»
.
والموثق: عما يردّ من الشهود، فقال: «المريب» إلى أن قال: «والعبد»
.
إلى غير ذلك من النصوص القاصر كثير منها سنداً، وجميعها مكافئةً لما مضى قطعاً من وجوه شتى، مع ندرة القائل بها؛ إذ ليس إلاّ
العماني.
نعم ربما نسبه
الفاضل في
التحرير إلى الإسكافي
، لكنه في غيره وباقي الأصحاب نسبوه إلى ما قدّمنا عنه من التفصيل، وهو كسابقه أيضاً نادر، ومع ذلك مستنده غير واضح، عدا ما يتوهم له من الجمع بين الأخبار، والصحيح: «لا تجوز شهادة العبد على الحرّ المسلم»
.
والأوّل مشروط بالتكافؤ، وليس، ولو سلّم فلا شاهد عليه. والثاني معارض بمثله وقد مرّ، مع أنّ نفي الجواز فيه لا يدلّ على الردّ؛ لاحتمال حمله على معناه بإرادة عدم جواز شهادته بدون
إذن مولاه؛ لما في ذلك من تعطيل حق سيده والانتفاع به بغير إذنه، ولو كان هذا خلاف الظاهر لكان المصير إليه أولى مراعاةً للجمع. كذا ذكره شيخنا في
المسالك.
وربما يعضده المروي في
الوسائل عن مولانا
الحسن العسكري (علیهالسّلام) في تفسيره عن مولانا
أمير المؤمنين (علیهالسّلام): «قال: كنّا عند [[|رسول الله (صلیاللهعلیهوآلهوسلّم)]] وهو يذاكرنا بقوله تعالى «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ» قال: أحراركم دون عبيدكم، فإنّ الله تعالى شغل العبيد بخدمة مواليهم عن تحمل الشهادة وعن أدائها»
فتدبّر. مع أنّ دلالته بمفهوم الوصف، وليس بحجة على الأشهر الأظهر.
وما يقال: من أنّه على تقدير عدم الحجية يستدل على قبول شهادته على
الذميّ بما مرّ من الصحيح، وعلى العبد بما روي في
الخلاف عن
علي (علیهالسّلام) أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، ولا يقبل شهادتهم على الأحرار
. فضعّف بما مرّ من معارضة الصحيح السابق بمثله، وعدم دلالة هذا الصحيح على نفي القبول على غير أهل الكتاب إلاّ بالمفهوم الضعيف أيضاً. والرواية غير معلومة الصحة، فلا تصلح للحجية، سيّما مع قصورها كما سبقها على تقدير الدلالة عن مقاومة الأدلة المتقدمة، وبالجملة فهذا القول كسابقه ضعيف غايته.
واعلم أنّ الصحاح المتقدمة وإن اقتضت بإطلاقها قبول شهادته مطلقاً إلاّ أنّ المشهور القائلين بها اختلفوا في إبقائها على إطلاقها أو تقييدها بغير الشهادة على المولى، وإلى هذا الخلاف أشار بقوله:
وفي قبول شهادته على المولى قولان أظهرهما المنع، وهو أشهرهما على الظاهر، المصرّح به في كلام كل من ادعى
الشهرة فيما مضى، وهو مختار
الشيخين والسيدين والديلمي والقاضي وابن حمزة والحلبي والحلّي والفاضلين
والصيمري، وأكثر المتأخرين
، بل عامّتهم.
عدا شيخنا
الشهيد الثاني وجملة ممّن تبعه من متأخري المتأخرين
، فاختاروا الجواز، وفاقاً منهم لابن عم الماتن نجيب الدين
يحيى بن سعيد في
الجامع؛ أخذاً بإطلاق الصحاح المؤيّدة بالعمومات.
وهو قوي متين، إلاّ أنّ في كلام السيدين
والحلّي دعوى الإجماع على المنع، فيتعين بسببه المصير إليه، سيّما بعد الاعتضاد بالشهرة العظيمة القديمة والحديثة.
مع ندرة القائل بالجواز على
الإطلاق، كما هو مذهب شيخنا وتابعيه، بل يستفاد من كثير مجهوليته وعدم معروفيته، بل ولم يسمّه أحد عداه ومن بعده، فما هذا شأنه يكاد أن يقطع بمخالفته الإجماع، فلا يجوز اختياره، سيّما بعد دعوى الإجماع على خلافه، وظهور عبارة
الفاضل المقداد في كنز العرفان بورود الرواية في ردّه، فإنّه قال: واختلف في شهادة العبد إلى أن قال: وعن أهل البيت: روايات أشهرها وأقواها القبول إلاّ على سيده خاصّة، فتقبل لسيده ولغيره وعلى غيره
.
وهذه الرواية وإن لم نقف عليها إلاّ أنّ غايتها
الإرسال المنجبر بفتوى الأصحاب، لكنهم لم يذكروها، حتى هو في شرح الكتاب، وإنّما استدل هو وغيره على المنع بأنّه تكذيب للسيد، وعقوق في حقه، فيكون كشهادة الولد على والده. وكلّ هذا ظاهر في عدم رواية عليه بالخصوص، وأنّ ما ذكره في الكنز من الرواية لعله اشتباه، ويشبه أن يكون مراده بها إمّا الروايات المانعة مطلقاً بعد حملها على المنع هنا خاصّة جمعاً. وهو بعيد جدّاً. أو خصوص الصحيحة الآتية في المسألة الآتية بعد مسألة. وهو وإن قرب؛ لاستدلال الفاضل بها في المختلف على المنع هنا، حيث قال: وهي دالّة على قبول شهادته لسيده، والمنع من قبولها على سيده، وإلاّ لم يكن للعتق فائدة
. لكن الاستدلال بها ضعيف؛ لأنّ لفظ
العتق لم يقيد به الإمام (علیهالسّلام) ليكون دليلاً على اعتباره في القبول، بل هو لفظ
الراوي بياناً للواقع. سلّمنا لكن مفهوم الصفة ليس بحجة.
ونحوه في الضعف الدليلان السابقان، يظهر وجهه فيما ذكره شيخنا في المسالك بعد نقل الاستدلال بهما بنحو يقرب مما قدمنا ما لفظه: وفيه نظر؛ لأنّ حمل أخبار المنع على ذلك غير متعين؛ لما ذكرناه سابقاً، ولما سيأتي من الأخبار الدالة على المنع من شهادته على غيره من الأحرار، فيمكن حملها عليه، وتشبيهه بالولد ممنوع، ولو سلّم فالأصل ممنوع أيضاً
. انتهى.
ويضعف الدليل الثاني وهو الجمع بين الروايات، زيادةً على ما ذكره بمخالفته وجه الجمع المستفاد من نفس الأخبار، وهو حمل أخبار المنع على
الإطلاق على
التقية، وبه صرّح أيضاً جماعة كما عرفته.
وبالجملة: لولا الإجماعات المتقدم إليها الإشارة المعتضدات بالشهرة العظيمة لكان المصير إلى مقتضى الإطلاقات والعمومات المتقدمة في غاية القوّة؛ لسلامتها لولاها عما يصلح لتقييدها بالكلية. ومن هنا يظهر ضعف القول بعدم قبول شهادته مطلقاً إلاّ على المولى، مع عدم معروفية قائله أصلاً وإن ذكره
الأصحاب قولاً، ومنافاته لكل من
النصوص المجوّزة والمانعة مطلقاً، واستلزامه طرحها طرّاً، وارتكاب الجمع بينها بذلك فرع التكافؤ والشاهد عليه، وليسا، مع تصريح جملة من النصوص المجوّزة بقبول شهادته للمولى، وقد عرفتها مما مضى، فهذا القول أضعف الأقوال جدّاً.
ولو أُعتق العبد قبلت شهادته للمولى وعليه بلا خلاف في الثاني؛ لوجود المقتضي من الحرية وباقي الشرائط المعتبرة، وانتفاء المانع بالمرّة؛ إذ ليس إلاّ الرقّية وقد زالت.
وللصحيح: عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثم فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن فارقه؟ قال: «نعم، وكذلك العبد إذا أُعتق جازت شهادته»
.
ونحوه
الصحيح الآخر: عن الذمّي والعبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمّي ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا اشهدا عليه؟ قال «نعم، إذا علم منهما خير بعد ذلك جازت شهادتهما»
.
والقوي: «أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها، وكذلك
اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا اشهد على شهادة ثم أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يعتق، وقال
عليّ (علیهالسّلام): إن أُعتق العبد لموضع الشهادة لم تجز شهادته»
.
قال الشيخان المحدثان في
الفقيه والتهذيبين في قوله: «إذا لم يردّها الحاكم» إلى آخره: يعني بها أن يردّها بفسق ظاهر أو حال تخرجه عن
العدالة، لا لأنّه عبد؛ لأنّ شهادة العبد جائزة، وأوّل من ردّ شهادة المملوك عمر.
وما ذكراه حسن لو قلنا بقبول شهادة العبد قبل
العتق مطلقاً، أمّا لو منعنا عنه على المولى خاصّة كما هو المشهور، أوله كما هو مذهبهما، فلا وجه لحصر وجه ردّ الحاكم شهادته قبل العتق بما عدا العبودية، بل يمكن جعلها وجهاً له أيضاً ولو في الجملة.
ولذا إنّ شيخنا في المسالك لم يحصر وجه الردّ فيما ذكراه، بل أطلق بحيث يشمل مثل العبودية؛ فإنّه قال بعد الحكم بقبول شهادته مطلقاً في المسألة لما مرّ من الأدلة: لكن لو كان قد أدّاها حال الرقّية فردّت افتقر إلى إعادتها بعده؛ لأنّ السابقة مردودة
. انتهى.
وقالا في قوله (علیهالسّلام): «إنّ أُعتق لموضع الشهادة» إلى آخره: كأنّه (علیهالسّلام) يعني: إذا كان شاهداً لسيده، فأمّا إذا كان شاهداً لغير سيده جازت شهادته عبداً كان أو معتقاً إذا كان عدلاً. وهو حسن، ويستفاد وجهه من اللام في: «لموضع الشهادة» الظاهرة في
التهمة. ولعلّهما لأجله حكما بعدم قبول شهادته للمولى.
وفيه ما مرّ من دلالة الصحيحين على خلافه، مضافاً إلى الأُصول والعمومات، والإجماعات المحكية المعتضدة بالشهرة العظيمة، سيّما مع دعوى الشيخ في
الخلاف الإجماع على قبول شهادته للمولى بعد عتقه مطلقاً
، فلا يعارضها مثل هذه القوية؛ لوحدتها، وقصور سندها، وموافقتها التقية كما عرفته، ويشير إليه كون الراوي السكوني، وهو من قضاة
العامّة، فلا محمل لها غير ورودها مورد التقية.
ولو أشهد عبديه بحمل له من مملوكته أنّه ولده، فورثهما غير الحمل، وأعتقهما الوارث لهما في الظاهر فشهدا للحمل بذلك قبلت شهادتهما، ورجع
الإرث إلى الولد فيرثهما، كما في الصحيح: في رجل مات وترك جارية ومملوكين، فورثهما أخ له، فأعتق العبدين وولدت
الجارية غلاماً، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية وأنّ الحمل منه، قال: «تجوز شهادتهما، ويردّان عبدين كما كانا»
.
ونحوه
الموثق، لكن فيه بدل: «ويردّان عبدين»: «ولا يسترقّهما الغلام الذي شهدا له، لأنّهما أثبتا نسبه»
.
وهو بطرف الضد من بدله، إلاّ أنّه صريح في الرقّية، ولا كذلك البدل؛ إذ ليس فيه غير النهي عن الاسترقاق المحتمل للحمل على
الكراهة، فلتحمل عليها جمعاً، سيّما مع إشعار التعليل في الموثق بها، ولذا ذهب الأكثر
ومنهم
الماتن إلى أنّه يكره له استرقاقهما. خلافاً لنادر
، فقال بالتحريم؛ أخذاً بظاهر
النهي. وقد مرّ الكلام عليه مع ما يتعلق بالمسألة في أواخر كتاب
الوصية، فمن أراد تمام التحقيق فيها فليراجعها ثمّة.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۵، ص۳۰۲-۳۱۳.