الإرسال
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو
الإطلاق أو
البعث.
الإرسال
مصدر (أرسل) ويأتي على عدّة معاني هي:
الإطلاق والإهمال والبعث والتوجيه والتخلية والتسليط، فيقال: أرسل الكلام أي أطلقه من غير تقييد، وأرسل الدابّة أهملها، وأرسل الرسول بعثه برسالة، وأرسل الطائر خلّى سبيله، وأرسل الكلب على
الصيد سلّطه عليه.
وفي
القرآن الكريم قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا».
قال الزجاج: «في قوله عزّ وجلّ:
«أَرْسَلْنَا» وجهان:
أحدهما: أنّا خلّينا الشياطين وإيّاهم فلم نعصمهم من القبول منهم...
والوجه الثاني- وهو المختار-: أنّهم ارسلوا عليهم وقيّضوا لهم بكفرهم...
ومعنى الإرسال هنا
التسليط ».
ويأتي الإرسال بمعنى
الإرخاء ، فيقال:
أرسل يديه أي أرخاهما، وتشترك معه في هذا المعنى كلمتا (الإسدال) و (الإسبال) فيقال: أسدل الثوب وأسبله بمعنى أرخاه وأرسله.
يستعمل
الفقهاء كلمة الإرسال بإطلاقات متعدّدة تنشأ من إطلاقاتها اللغوية، فيطلقونها بمعنى الإرخاء كإرسال اليدين في
الصلاة وإرسال طرف العمامة، وبمعنى التسليط كإرسال الكلب أو السهم على الصيد، والإهمال كإرسال الحيوان، وما إلى ذلك.
ولهم إطلاقات اخرى:
منها: الإرسال في
الطلاق بمعنى إجراء صيغة الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد وبلفظ واحد، كأن يقول: طلّقتك ثلاثاً في مقابل ترتيبه، وهو أن يكرّر صيغة الطلاق ثلاث مرّات في مجلس واحد وبدون تخلّل رجوع، كأن يقول: أنتِ طالق، أنت طالق، أنتِ طالق.
ومنها: الإرسال في الحديث، فيقال:
حديث مرسل، أو فيه إرسال أي أرسله صاحبه إرسالًا. والذي يأتي بيان معناه إجمالًا في
الأحكام ، وبهذا الإطلاق يشترك الفقهاء
وعلماء الحديث
والاصول .
والظاهر أنّ هذا لا يخرج عن المعاني اللغوية؛ إذ يحتمل أن يكون مأخوذاً من الإطلاق بمعنى رفع القيد والربط أو إهمال السند أو غير ذلك.
تتعلّق بالإرسال أحكام
تكليفية ووضعية متفرّقة في كثير من أبواب
الفقه نستعرضها إجمالًا حسب الإطلاقات تاركين تفصيلها إلى محالّها:
يطلق الإرسال هنا ويراد منه تارة عدم
التكفير الذي هو وضع إحدى اليدين على الاخرى على النحو الذي يفعله بعض
أهل السنّة ،
واخرى بمعنى إرخائهما وإسبالهما بالكيفية التي ستسمع في مقابل الكيفيات الاخرى عدا صورة التكفير.
فأمّا الإرسال بالمعنى الأوّل فيتّضح حكمه من حكم التكفير في
الصلاة الذي اتّفقت كلمة فقهائنا على عدم كونه سنّة، بل عدم مشروعيته في الصلاة حتى أصبح ذلك موقفاً واضحاً للمذهب.
نعم، اختلفت كلمتهم في حرمته وبطلان الصلاة به- كما عليه المشهور- أو أنّه
حرام تكليفاً فحسب، فمن فعله كان
آثماً ولكن لا تبطل الصلاة به،
وتفصيل ذلك في مصطلح.
وأمّا الإرسال بالمعنى الثاني فقد ذكر الفقهاء
أنّه من
المستحبّات حال القيام في الصلاة إرسال اليدين وإسبالهما على الفخذين مضمومتي الأصابع؛ لما ورد في صحيحة
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال:
«إذا قمت في الصلاة فلا تلصق قدمك بالاخرى، دع بينهما فصلًا- إصبعاً أقلّ ذلك إلى شبر أكثره- وأسدل منكبيك، وأرسل يديك، ولا تشبك أصابعك، وليكونا على فخذيك قبالة ركبتيك...».
وقول
حمّاد في خبره: فأرسل (أي الصادق عليه السلام) يديه جميعاً على فخذيه قد ضمّ أصابعه.
ومن
الفقهاء من خصّ ذلك بالرجل، وأمّا المرأة فإنّها تضمّ يديها إلى صدرها لمكان ثدييها؛
لما في صحيح آخر
لزرارة : «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها ولا تفرّج بينهما، وتضم يديها إلى صدرها لمكان ثدييها».
وكذا عدّ بعض الفقهاء من مسنونات القيام إسدال المنكبين بمعنى إرسالهما وإرخائهما،
كما ورد ذلك في رواية زرارة المتقدّمة.
عدّ بعض الفقهاء من مسنونات الركوع أن
يكبّر له رافعاً يديه محاذياً بهما وجهه ثمّ يركع بعد إرسالهما.
وردت في كيفية لبس العمامة طائفتان من الروايات، ظاهر إحداهما استحباب
التحنّك الذي هو عبارة عن إدارة جزء من العمامة تحت الحنك من أحد الجانبين إلى الآخر، والمشهور الإفتاء على طبقها في خصوص
الصلاة ، وأنّه يكره الصلاة في عمامة لا حنك لها، بل قال
الصدوق في
الفقيه «سمعت مشايخنا رضي اللَّه عنهم يقولون: لا تجوز الصلاة في الطابقيّة، ولا يجوز للمعتم أن يصلّي إلّا وهو متحنّك». مع أنّه لم ينقل في كتابه إلّا ما دلّ على استحباب التحنّك مطلقاً، أو عند التعمّم أو حال السفر والحاجة.،
إلّا أنّ ظاهرها العموم لحال الصلاة وغيرها، ولا خصوصيّة للصلاة في ذلك كما ستسمع بعضها وقد صرّح بذلك كثير من الفقهاء،
بل ذكر جملة منهم
الشيخ البهائي أنّهم لم يجدوا نصّاً على استحباب التحنّك حال الصلاة لكن تجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الفقهاء ادّعى
الإجماع على ذلك مستدلّاً به وبنبويّين وردا في عوالي اللآلي في أحدهما: «من صلّى بغير حنك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه»، وفي الثاني: «من صلّى مقتعطاً فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه»، مضافاً إلى تأييد ذلك بإطلاقات كراهة التعمّم من دون تحنّك، وبما نقله
الصدوق عن مشايخه الذي نقلناه في هامش سابق..
نعم، دلّ بعضها على استحبابه في السفر، وبعضها على استحبابه في
السعي لقضاء الحاجة، وبعضها مطلقاً.
وظاهر الاخرى استحباب إرسال طرف العمامة وإسداله على الصدر أو على القفا أو عليهما معاً.
وبما أنّ التحنّك والإرسال كيفيتان مختلفتان لغةً وعرفاً وقع الكلام بين الفقهاء في كيفية الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات، وقد ذكرت لذلك عدّة وجوه نذكرها إجمالًا بعد ذكر بعض النماذج من تلك الروايات- تاركين التفصيل إلى محلّه من مصطلح (تحنّك) فإنّه أنسب بذلك-:
ومن الروايات الدالّة على استحباب التحنّك
وكراهة تركه للمعتمّ ما روي عن
الصادق عليه السلام قال: «من تعمّم ولم يحنّك فأصابه داء لا دواء له فلا يلومنّ إلّا نفسه».
وقريب منه غيره.
وعنه عن أبيه عليهما السلام: «أنّ
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: الفرق بيننا وبين
المشركين في العمائم
الالتحاء بالعمائم».
وغير ذلك من الروايات.
وأمّا الروايات الدالّة على استحباب إرسال طرف العمامة، فمنها:
ما رواه
الكليني في
الصحيح عن
أبي همام عن
الرضا عليه السلام: في قول اللَّه عزّ وجلّ:
«مُسَوِّمِينَ»
قال: «العمائم، اعتمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فسدلها من بين يديه ومن خلفه، واعتمّ جبرئيل عليه السلام فسدلها من بين يديه ومن خلفه».
وما رواه جابر عن
أبي جعفر عليه السلام قال:
«كانت على الملائكة العمائم البيض المرسلة يوم بدر».
وما عن علي بن أبي علي اللهبي عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «عمّم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً عليه السلام بيده فسدلها من بين يديه، وقصرها من خلفه قدر أربع أصابع، ثمّ قال: أدبر فأدبر، ثمّ قال: أقبل فأقبل، ثمّ قال: هكذا تيجان الملائكة».
وما عن
عبد اللَّه بن سليمان عن أبيه: أنّ
علي بن الحسين عليهما السلام دخل
المسجد وعليه عمامة سوداء قد أرسل طرفيها بين كتفيه.
وما نقل
السيد ابن طاوس في كتاب
الأمان عن
أبي العباس بن عقدة في كتابه المسمّى (بالولاية) بإسناده قال: بعث
رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم
غدير خم إلى
علي عليه السلام فعمّمه وأسدل العمامة بين كتفيه، وقال: «هكذا أيّدني ربّي يوم
حنين بالملائكة معمّمين وقد أسدلوا العمائم، وذلك حجز بين
المسلمين وبين
المشركين ...».
وغير ذلك من الروايات.
وهذه الأخبار كلّها ظاهرة في أنّ السنّة في لبس العمامة دائماً إسدال أحد طرفيها على الصدر والآخر بين الكتفين أو الاكتفاء بأحد الإسدالين دون الإدارة تحت الحنك الذي هو التحنّك.
الموسوعة الفقهية، ج۹، ص۴۶۹-۴۷۴.