وجوب الاحتياط
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لا إشكال عقلًا في وجوب
الاحتياط على كلّ مكلفٍ ترك طريقة الاجتهاد والتقليد معاً؛ لأنّ التكاليف الشرعيّة المعلومة إجمالًا في الشريعة بل المحتملة منجّزة على المكلّفين قبل الفحص والوصول إليها بطريقة
الاجتهاد وتحصيل العلم أو التقليد والرجوع إلى العالم بها، فلا يجوز للمكلّف إهمالها وعدم
إحراز امتثالها كلّما احتمل ذلك، فضلًا عمّا إذا علم بها إجمالًا، وهذا هو معنى قول الفقهاء بأنّه يجب على كلّ مكلّفٍ تجاه أحكام الشريعة إمّا الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.
وهذا الوجوب والحصر في الطرق الثلاثة عقلي بمناط تنجّز التكاليف والأحكام الشرعيّة على كلّ مكلف يحتملها منذ البداية وعدم جواز
إهمالها . وقد يستفاد هذا التنجيز من بعض الروايات والأدلّة الشرعيّة أيضاً كروايات وجوب التعلّم.
وهذا كلّه واضح، إلّا أنّ الذي ينبغي أن يعلم أنّ مسألة
مشروعيّة الاحتياط وترك طريقي الاجتهاد والتقليد- مع التمكّن من أحدهما- مسألة خلافيّة في نفسها، وليست مسلّمة أو من ضروريات الدّين، فيجب على العامّي فيها التقليد أو الاجتهاد.
قد صرّح بذلك
السيد اليزدي فقال: «في مسألة جواز الاحتياط يلزم أن يكون مجتهداً أو مقلداً؛ لأنّ المسألة خلافيّة».
نعم، إذا وصل المكلّف بحكم عقله إلى كفاية الاحتياط وإحراز الواقع به، فهو مجتهد فيه كما صرّح به بعض الفقهاء.
ثمّ إنّ ما ذكرنا- من حصر
الامتثال في الطرق الثلاث ووجوب الاحتياط على تارك أخويه- إنّما هو بناءً على
انفتاح باب العلم والعلمي، وأمّا بناءً على
الانسداد فالمشهور عندهم عدم وجوب الاحتياط ......- مع
اختلال النظام به بل مطلقاً .
قال
الشيخ الأنصاري قدس سره : «أمّا الاحتياط فهو وإن كان مقتضى
الأصل والقاعدة العقلية والنقليّة عند ثبوت
العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات، إلّا أنّه في المقام- أعني صورة انسداد باب العلم في معظم المسائل الفقهيّة- غير واجب». واستدلّ له:
أوّلًا: بالإجماع القطعي على أنّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجيّة أخبار الآحاد ليس هو الاحتياط في الدّين و
الالتزام بفعل كلّ ما يُحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك كل ما يحتمل الحرمة كذلك.
وثانياً: بلزوم العسر الشديد والحرج الأكيد في التزامه؛ لكثرة ما يحتمل موهوماً وجوبه- خصوصاً في أبواب الطهارة والصلاة- فمراعاته ممّا يوجب الحرج، والمثال لا يحتاج إليه؛ فلو بنى العالم الخبير بموارد الاحتياط فيما لم ينعقد عليه
إجماع قطعيّ أو خبرٌ متواتر على الالتزام بالاحتياط في جميع اموره يوماً وليلة، لوجد صدق ما ادّعيناه. هذا كلّه بالنسبة إلى نفس العمل بالاحتياط.
وأمّا تعليم المجتهد موارد الاحتياط لمقلّده، وتعلّم المقلّد موارد الاحتياط الشخصيّة، وعلاج تعارض الاحتياطات، وترجيح الاحتياط الناشئ عن
الاحتمال القويّ على الاحتياط الناشئ عن الاحتمال الضعيف، فهو أمرٌ مستغرق لأوقات المجتهد والمقلّد، فيقع الناس من جهة تعليم هذه الموارد وتعلّمها في حرج يخلّ بنظام معاشهم ومعادهم.
ثمّ مثّل له بأنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ترك التطهير به، لكن قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات اخر، بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساوٍ؛ فإنّه قد يوجد ماءٌ آخر للطهارة، وقد لا يوجد معه إلّا التراب، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيرُه، فإنّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماءٍ آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهةٍ اخرى، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد
الإجماع على طهارته. وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائيّة والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة إن لم يزاحمه أمرٌ آخر واجب أو محتمل الوجوب.
فكيف يسوغ للمجتهد أن يُلقى إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثيرٍ من الموارد استعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره. وبالجملة: فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها- فضلًا عن العمل بها- أمرٌ يكاد يلحق بالمتعذّر، ويظهر ذلك بالتأمّل في الوقائع الاتّفاقيّة.
قال
المحقّق الخراساني : «إنّه قد عرفت حسن الاحتياط عقلًا ونقلًا، ولا يخفى أنّه مطلقاً كذلك، حتى فيما كان هناك حجّة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو
أمارة معتبرة على أنّه ليس فرداً للواجب أو الحرام، ما لم يخلّ بالنظام فعلًا، فالاحتياط قبل ذلك مطلقاً يقع حسناً، كان في الامور المهمّة كالدّماء والفروج أو غيرها، وكان احتمال التكليف قويّاً أو ضعيفاً، كانت الحجّة على خلافه أو لا، كما أنّ الاحتياط الموجب لذلك لا يكون حسناً كذلك، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أوّل
الأمر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالًا أو محتملًا».
ويبتني على القول بعدم وجوبه، القول بحجيّة مطلق الظن إذا انضمّ إليه امور اخرى مذكورة في بحث الانسداد كما فُصّل في محلّه من
علم الأصول .
الموسوعة الفقهية، ج۶، ص۱۸۱- ۱۸۳.