الإجازة في العقود المتعددة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
وهو تصرف الفضولي الواقع على مال الغير في عدة تصرفات أو عقود.
قد يكون التصرّف الفضولي الواقع على مال الغير عدّة تصرفات أو عقود، فيقع الكلام حينئذٍ في إجازة المالك أحدها
وأثره على باقي العقود.
والعقود المتعددة قد تكون عرضية وقد تكون طولية مترتبة، والعرضية منها تارة يكون
الفضولي فيها شخصاً واحداً واخرى يكون متعدداً في زمان واحد أو في أزمنة مختلفة. والأوّل: كما لو باع شخص مال زيد من عمرو ثمّ باعه من بكر ثمّ من خالد .... والثاني: كما لو باع أشخاص متعددون مال الغير في زمان واحد أو في أزمنة مختلفة.
قال
المحقق النائيني : «إنّ محلّ البحث إنّما هو في العقود الطولية من حيث الترتب لا في العقود العرضية ولو كانت طولية بحسب الزمان... وأمّا إذا وقع عقود متعددة من فضولي واحد أو متعدد في زمان واحد أو أزمنة مختلفة على مال المالك فهو خارج عن محل الكلام؛ لأنّه ليس للمالك إلّا إجازة واحد منها...
فلا يكون الصحيح من هذه العقود إلّا ما أجازه المالك، وصحته لا تتوقف على صحة غيره، ولا تستلزمه، فيقع غير ما أجازه باطلًا».
أمّا العقود الطولية المترتبة على مال الغير، فهي تارة يكون ترتبها بسيطاً، ونعني به كون الواقع عليه العقود المتعددة نفس أحد العوضين، كما لو
باع الفضولي قرطاس زيد بدرهم من عمرو فباع عمرو هذا القرطاس بدينارين من بكر ثمّ باعه بكر من خالد بثوب وهكذا... وكذلك بالنسبة للعقود الواقعة على الثمن.
واخرى يكون ترتبها تركيبياً، والمراد به وقوع كل عقد على غير ما وقعت عليه العقود الاخرى، كما إذا باع الفضولي دار زيد من شخص ببستان ثمّ باع البستان بدراهم ثمّ باع الدراهم بماشية وهكذا...
والعقود الطولية المترتبة سواء كان ترتبها بسيطاً أو تركيبياً قد تترتب على سلسلة الثمن واخرى على المثمن، وكل منهما تارة يكون المجاز منها أوّل عقد واخرى العقد الوسط وثالثة العقد الآخر. ثمّ العقد المجاز لو كان هو الوسط فتارة يكون وسطاً بين عقدين وقعا على مورده، واخرى يكون وسطاً بين عقدين وقعا على بدل مورده، وثالثة يكون العقد السابق واقعاً على مورده واللاحق به وارداً على بدل مورده، ورابعة على عكس ذلك.
وقد تعددت كلمات الفقهاء في إجازة المالك لهذه التصرفات أو العقود أو إحداها، وأثر هذه الإجازة على باقي العقود المترتبة على العقد المجاز.
فذهب بعضهم إلى أنّ للمالك إجازة أي العقود شاء وفسخ أو إبطال أيّها شاء رعاية لمصلحته، قال
العلّامة الحلّي : «لو
غصب أموالًا وباعها وتصرّف في أثنائها مرة بعد اخرى فللمالك إجازتها وأخذ الحاصل منها، ويتبع العقود الكثيرة بالنقض والإبطال ورعاية مصلحته».
ونحوه في
القواعد والتذكرة ، وأضاف في الأخير: «ويعتمد مصلحته في فسخ أيّها شاء فينفسخ فرعه».
وأطلق بعضهم الحكم في أنّ المالك إذا أجاز عقداً في سلسلة المثمن صحّ ما بعده من العقود وبطل ما قبله، وعلى العكس في سلسلة الثمن، كفخر المحققين حيث قال: «التحقيق أن نقول في سلسلة المثمن مع علم المشتري الأوّل للمالك أخذ عينه فينفسخ جميع العقود المترتبة عليها، وله إجازة أي العقود أراد، فإن أجاز عقداً صحّ ما بعده وبطل ما قبله، وكان له ثمنه إن كان المشتري جاهلًا أو عالماً على أحد الاحتمالين، فيبطل جميع العقود بعده في سلسلة الثمن. والفرق بينه وبين المثمن أنّه إذا أجاز عقداً فقد خرج المثمن عن ملكه إلى ملك المشتري، فصحّت تصرفاته فيه، ودخل الثمن في ملك المجيز، فبطل تصرّف غيره فيه».
ومنهم
الشهيد الأوّل حيث أطلق ذكر الضابطة في العقود المتتابعة، قال: «ولو ترتبت العقود على العين والثمن فللمالك إجازة ما شاء، ومهما أجاز عقداً على المبيع صحّ وما بعده خاصة، وفي الثمن ينعكس».
وناقش بعض في هذا
الإطلاق ، ونقّح فيه بعض الموارد، وجعل الملاك في صحة ما بعد العقد المجاز من العقود مبنياً على كون الإجازة كاشفة أو ناقلة، كما صرّح
المحقق الكركي : «إنّ إطلاق كلام الشارح (أي فخر المحققين) وشيخنا الشهيد في
الدروس بأنّ في سلسلة المثمن يصح العقد المجاز وما بعده دون ما قبله، وفي الثمن بالعكس غير مستقيم، ويحتاج إلى التنقيح في مواضع:
بيان حال ما بعده في سلسلة الثمن بما ذكرناه (حيث ذكر قبله بأنّه يبني على أنّ
الإجازة كاشفة أو ناقلة، فإن قيل بالأوّل صحّ ما بعده، وإن قيل بالثاني فيه ثلاثة أوجه؛ البطلان، الصحة من غير توقف كلٍ لإجازة، التوقف على الإجازة).
وقوف ما بعد المجاز في سلسلة الثمن على الإجازة دون البطلان.
أنّ ذلك في سلسلة مخصوصة في الثمن».
وكذلك ذهب
الشهيد الثاني أيضاً إلى عدم تمامية اطلاق الحكم في سلسلتي الثمن والمثمن، وأنّه بحاجة إلى تنقيح، حيث قال: «لو بيع الثمن مراراً...، فأجاز المالك العقد الأخير فإنّه لا يقتضي إجازة ما سبق، بل لا يصح سواه مع إنّه يصدق عليه أنّ العقود ترتبت على الثمن ولم يتم الحكم بصحة ما قبل المجاز.
وأمّا مسألة سلسلة العقود على المثمن، فصحة العقود اللاحقة المجاز مبنية على أنّ الإجازة كاشفة...، أمّا لو جعلناها ناقلة للملك من حين الإجازة...، فتبنى صحة
البيع المتأخر حينئذٍ على من باع فضولياً ثمّ انتقل إليه الملك، فإنّ في لزوم البيع حينئذٍ أو توقفه على إجازته ثانياً وجهان».
وقال
المحقق النجفي : «وأمّا ما بعده من العقود فلا ريب في صحتها (في سلسلة المثمن) بناء على الكشف؛ لوقوع التصرف حينئذ في الملك، وأمّا على النقل فيحتمل البطلان؛ لتعذر الإجازة حينئذ من المالك، والصحة بلا إجازة... والصحة مع الإجازة... ولعلّ الأوّل أقوى. وأمّا لو ترتبت على الثمن...، فإنّ الحكم ينعكس لو أجاز واحداً منها، فإنّ ما قبله يصح ويقف ما بعده على الإجازة... - ثمّ قال-:
أمّا لو جرت العقود على الثمن خاصة...، لا عليه (المثمن) ثمّ على ثمنه وهكذا، فإنّ المتجه حينئذ في الفرض المزبور جريان حكم المبيع فيه من صحة العقد المجاز وما بعده بناء على الكشف- وعلى النقل الوجوه الثلاثة- دون ما قبله، إلّا العقد الأوّل الذي قوبل فيه المبيع فضولًا».
بينما عدل البعض الآخر عمّا عرفت من كلمات الفقهاء، وجعل الملاك في تصحيح العقود- والتي تلي العقد المجاز أو ابطالها- هو تعدد الفضولي أو انفراده، قال
الشيخ الأنصاري : «لو ترتبت عقود متعددة مترتبة على مال المجيز، فإن وقعت من أشخاص متعددة كان إجازة وسط منها فسخاً لما قبله وإجازة لما بعده على الكشف، وإن وقعت من شخص واحد انعكس الأمر».
في حين ناقش بعض المتأخرين في هذا الميزان، وذهب إلى أنّ الملاك ليس هو تعدد الفضولي وانفراده، بل الملاك الملازمة بين المجاز والعقد الآخر إمّا بكون الأوّل لازماً والآخر ملزوماً أو العكس، فإجازة أحدها مستلزم لإجازة الآخر، وإمّا مع عدم الملازمة، فالصحة في أحدهما لا يوجب الحكم بصحة الآخر، قال
المحقق النائيني : «وبالجملة وإن أجاد المصنف (أي الشيخ الأنصاري) في إدخال الترتب التركيبي في محل البحث إلّا أنّه لا يدخل في الترتب الطبعي إلّا بعض صوره، فلا بد من تقييد قوله بما يقتضيه الترتب كذلك.
وتوضيح ذلك: إنّ كلّ عقد يتوقف صحته على صحة ما قبله فإجازته إجازة لما قبله...، وكل عقد يستلزم صحة المجاز صحته فهو يصح أيضاً بصحة المجاز...، فعلى هذا تنحصر صحة العقد بالتوقف أو الاستلزام بما إذا وقع في سلسلة المجاز...، وأمّا لو وقع في غير هذه السلسلة كما إذا بيع العبد أوّلًا بفرس، ثمّ باع فضولي آخر- غير مالك الفرس- الفرس بدرهم، ثمّ بيع الدرهم برغيف من غير مالك الدرهم فلا تقتضي صحة بيع الفرس بالدرهم صحة بيع الدرهم بالرغيف بل يحتاج إلى إجازة مالك العبد الذي صار مالكاً للفرس فصار مالكاً للدرهم....
وحاصل الكلام: أنّ توقف صحة عقد على صحة عقد آخر إنّما هو بالنسبة إلى ما كان الثاني مترتباً طبعاً عليه، لا بالنسبة إلى غيره. فكلام المصنف لا يتم بإطلاقه».
كما ذهب
السيد الخوئي إلى ما اختاره استاذه المحقق النائيني حيث قال: «ومن هنا صح دعوى الكبرى الكلية... وهي:
إنّه كلما كان بين عقدين ملازمة...، فإجازة أحدهما مستلزم لإجازة الآخر، وإلّا فلا».
حكم تتبع المالك للعقود المترتبة مع علم المشتري بالغصب:
ذكر بعض الفقهاء اشكالًا في شمول الحكم بجواز تتبع المالك للعقود المترتبة لصورة علم المشتري بالغصب.
وحاصل ما أوضحه بعضهم وأشار إليه العلّامة في القواعد وأوضحه قطب الدين والشهيد في الحواشي المنسوبة إليه على ما ذكره الشيخ الأنصاري في المكاسب وكما أشار إليه
المحقق الكركي وبيّن وجه الاشكال حيث قال: «أمّا مع علمه (المشتري) بالغصب ففي الحكم اشكال ينشأ من ثبوت المعاوضة في العقد، فله تملكه بالإجازة رعاية لمصلحته ومن انتفائها بحسب الواقع»
: أنّ المشتري مع العلم بكون البائع غاصباً يكون مسلطاً للبائع الغاصب على الثمن؛ ولذا لو تلف لم يكن له الرجوع، وهكذا لو علم البائع بكون الثمن غصباً. وعلى هذا فلا تنفذ فيه إجازة المالك المجيز (أي المغصوب منه) بعد تلف الثمن المدفوع عوضاً عن المغصوب بفعل المسلط بأن يدفعه مثمناً عن مبيع اشتراه؛ لعدم بقاء الموضوع للعقد الأوّل.
ولكن ناقش هذا الإشكال العديد من فقهائنا، منهم المحقق الكركي حيث قال: «والأصح عدم الفرق بين علمه بالغصب وعدمه؛ لأنّ المعتمد أنّ للمشتري استعادة الثمن مع بقاء عينه، لعدم خروجه عن ملكه إلى الغاصب لعدم المقتضي. وتجويز تصرفه فيه عند الأصحاب لتسليطه عليه لا ينافي كونه عوضاً».
وقال الشهيد الثاني: «وهذا (أي قول المشهور بعدم الرجوع بالثمن مع العلم بالغصب) يتم مع تلفه، أمّا مع بقائه فلا؛ لأنّه ماله وهو متسلط عليه بمقتضى الخبر، ولم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه؛ لأنّه إنّما دفعه عوضاً عن شيء لا يسلّم له لا مجاناً، فمع تلفه يكون آذناً فيه، أمّا مع بقائه فله أخذه لعموم النصوص الدالة على ذلك، بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقاً (حتى مع التلف)...؛ لتحريم تصرّف البائع فيه حيث إنّه أكل مال بالباطل، فيكون مضموناً عليه، لو لا ادعاء العلّامة في
التذكرة الاجماع على عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوة».
ومنهم من فصّل فيه بين القول بالكشف فذهب إلى عدم وقوع الاشكال وبين القول بالنقل فذهب إلى وقوعه فيه، قال الشيخ الأنصاري: «إنّ تسليط المشتري للبائع على الثمن على تقدير الكشف تسليط على ما ملكه الغير بالعقد السابق على التسليط الحاصل بالاقباض، فإذا انكشف ذلك بالاجازة عمل مقتضاه...، نعم بناء على القول بالنقل يقع الاشكال في جواز إجازة العقد الواقع على الثمن؛ لأنّ إجازة مالك المبيع له موقوفة على تملكه للثمن؛ لأنّه قبلها أجنبي عنه، والمفروض أنّ تملكه الثمن موقوف على الإجازة على القول بالنقل».
وردّ أكثر المتأخرين هذا الاشكال وذهبوا إلى عدم تماميته، وذكروا وجوهاً لذلك، قال
المحقق الاصفهاني : «إنّ الأسباب المملكة شرعاً مضبوطة، ليس التسليط بشيء منها، ولو فرض قصد التمليك بالتسليط الخارجي مجاناً كان هبة، ويجوز الرجوع في الوجوب مع بقائه. وكون التسليط إعراضاً عن الملك وهو يوجب الخروج عن ملك المعوض، فيملكه الغاصب بالقبض. مدفوع بأنّ كونه اعراضاً غير معلوم...، وكونه موجباً لزوال الملك غير مسلّم، وكون القبض بنية التملك أيضاً غير واضح».
كما أجاب المحقق النائيني عن الاشكال على القول بالكشف والقول بالنقل معاً، قال: «فتمليك الغاصب الثمن يتوقف على أمرين:
أن يكون تسليطاً من المالك.
أن يكون مجانياً، فعلى الكشف كلاهما منتفيان؛ لأنّ المال ليس له حتى يقتضي تسليطه تمليكاً، وعلى النقل ليس تسليطاً مجانياً؛ لأنّه دفعه إليه مبنياً على المعاوضة، فالتسليط إنّما هو بازاء ملك المغصوب منه».
وقد جمع السيد الخوئي في مقام الجواب عن الاشكال ما يستفاد من كلمات الفقهاء وذهب إلى عدم تماميته لوجوه:
فساد المبنى؛ إذ لا دليل على كون مال المسلط ملكاً للغاصب مع علمه بكونه غاصباً، فإنّه سلطه على ماله بعنوان المعاوضة- وإن لم تكن حاصلة عند الشارع- فيكون ماله غير داخل في ملك الغاصب، وعليه فإذا أجاز المالك العقد الصادر من الغاصب على ماله يكون صحيحاً.
إنّ هذا الاشكال- على تقدير صحته- لا يجري على الكشف وإنّما يختص بالنقل.
إنّ الاشكال لا يتم على النقل أيضاً؛ لأنّ الإجازة وإن كانت بعد التسليط وأنّ الملكية والاستناد إنّما يحصلان عند الإجازة لا قبلها كما هو المفروض على النقل، ولكن التسليط من المشتري إنّما وقع بعنوان أن يكون المغصوب ملكاً له بالإجازة المتأخرة، فيكون التسليط مقيّداً بذلك لا أنّه وقع مطلقاً، وعلى كل تقدير ليكون التسليط مجانياً...، إذاً فيكون البيع حاصلًا من زمان العقد على النقل أيضاً وإن كانت الملكية والاستناد إلى المالك وشمول العمومات من زمان الإجازة، فحينئذٍ لا يكون التسليط الحاصل من زمان العقد إلّا بعنوان البيع وموقوفاً على الإجازة.
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۳۲-۳۹