الرضاع
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
أفضل ما رضع لبن أمه؛ ولا تجبر الحرة على إرضاع ولدها ويجبر الأمة مولاها؛ وللحرة الأجرة على
الأب إن اختارت إرضاعه، وكذا لو أرضعته خادمتها؛ ولو كان الأب ميتا، فمن مال الرضيع؛ ومدة الرضاع حولان؛ ويجوز الاقتصار على أحد وعشرين شهرا لا أقل، والزيادة بشهر أو بشهرين لا أكثر؛ ولا يلزم الوالد أجرة ما زاد عن حولين؛
والأم أحق بإرضاعه إذا تطوعت أو قنعت بما تطلب غيرها، ولو طلبت زيادة عن ما قنع غيرها فللاب نزعه واسترضاع غيرها.
الرضاع بكسر الراء وفتحها، مصدر: رضع، كسمع وضرب، كالرضاعة بالكسر والفتح أيضاً، وهو امتصاص الثدي.
ولا ريب ولا خلاف في أنّ أفضل ما يرضع به الولد لبن امّه لأوفقيّته بمزاجه، وأنسبيّته بطبيعته لتغذيته منه في بطن امّه، وللنّص: «ما من لبن رضع به الصبيّ أعظم
بركة عليه من لبن أُمّه»
.
والمعروف من مذهب الأصحاب بل كاد أن يكون إجماعاً بينهم أنّه لا تُجبَر
الأُمّ الحرّة وكذا الأمة مملوكة الغير على إرضاع ولدها إلاّ إذا لم يكن للولد مرضعة أُخرى سواها، أو كانت ولم يمكن؛ لعدم وجود
الأب، أو إعساره وعدم تمكّنه منه، مع عدم مال للولد يمكن به إرضاعه من غيرها، فيجب عليها بلا خلاف، كوجوب إنفاقها عليه في هاتين الصورتين.
وأمّا عدم الوجوب في غيرهما فللأصل، والخبر: «لا تُجبَر الحرّة على إرضاع الولد، وتُجبَر أُمّ الولد»
.
مع التأيد بظاهر عموم «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها»
الشامل لمثل الإضرار بها فيه بالإجبار على إرضاعه. وظاهر قوله سبحانه «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»
. وقوله «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى»
. وفي الاستدلال بهما نظر.
وبما مرّ يُصرَف ظاهر الطلب المطلق المنصرف إلى
الوجوب في الظاهر على الأشهر الأظهر المستفاد من قوله سبحانه: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ»
الآية إلى
الاستحباب؛ جمعاً بين الأدلّة.
ويمكن الجمع، بحمله إمّا على الصورتين الأُوليين، أو على أُمّ ولد المولى؛ وذلك لعدم الخلاف في أنّه يجبر
الأمة مولاها على إرضاع ولدها، بل مطلقاً؛ لما مضى من صريح
الخبر، ولأنّها بجميع منافعها ملك له، فتُجبَر.
وبالجملة: لا إشكال في أصل الحكم مع استثناء الصورتين الماضيتين، وإنّما الإشكال في استثناء صورة ثالثة، وهي وجوب إرضاعها اللِّبَأ، وهو أوّل اللبن، فقيل: نعم، كما في
القواعد واللمعة؛ لأنّ الولد لا يعيش بدونه
.
خلافاً للأكثر، فالعدم؛ لمخالفة التعليل الوجدان. وهو أظهر، إلاّ مع ثبوت الضرر، فيجب بلا إشكال ولا نظر. ويتقدّر المدّة حينئذٍ بمقدار اندفاعه، وربما قُيّد بثلاثة أيّام
، والمحكيّ عن أهل اللغة أنّه أوّل الحلبة
.
وعليه ففي لزوم الأجر قولان، وبه صرّح الأكثر، وهو أظهر؛ لإطلاق «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» ولا قائل بالفرق بين المطلّقات وغيرهن؛ مع التأيّد بما قيل من أنّه في الحقيقة عوض عن اللبن، فيكون كمن عنده
طعام اضطرّ إليه ذو نفس محترمة
.
وقيل: لا؛ لأنّها كالعبادة الواجبة، لا يجوز أن يؤخذ عليها اجرة
.
والمناقشة فيه واضحة، مع أنّه
اجتهاد صرف في مقابلة إطلاق الآية المعتضدة بالشهرة.
وللحرّة المستأجرة للإرضاع بنفسها، أو بغيرها، أو على
الإطلاق ولو أرضعته من الغير على الأشهر كما في
المسالك، وعلى إشكال لو تبادر من الإطلاق الإرضاع بنفسها وإلاّ فحسن الأُجرة المضروبة على الأب الحيّ الموسر مطلقاً و إن كانت الحرّة امّاً و اختارت إرضاعه بعد استئجارها لذلك.
وكذا لو أرضعته خادمتها المملوكة لها، بلا إشكال ولا خلاف؛ لأنّها من جملة نفقته الواجبة له عليه، ولقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ» الآية
، فتأمّل.
وهل يجوز استئجار الامّ لذلك وهي في حبالته؟
المشهور: نعم؛ للأصل، والعمومات، ولقوله تعالى «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ» الآية
.
خلافاً للشيخ في موضع من
المبسوط، فقوّى المنع؛ لأنّه مالك للاستمتاع بها في كلّ وقت إلاّ ما استثني من أوقات
العبادات، فلا تقدر هي على إيفاء المانع المستأجرة. وأمّا الآية فمسوقة للمطلّقات، ولا نزاع فيهن.
وفيه نظر؛ لمجيء المانع من قبله، فإذا أسقطه سقط، ولمّا استأجرها فقد أسقط حقّه من الاستمتاع في الأوقات التي لا يمكنه مع الإرضاع، وهو أولى بالصحّة من أجير أذن له المؤجر في
الإجارة من غيره في مدّة إجارته، كذا قيل
.
وإنّما يتمّ إذا كان الأب هو المستأجر، ولا أظنّ الشيخ يمنع حينئذ، وأمّا إذا كان غيره فلا يجري فيه الجواب، فقوله لا يخلو عن قوّة، إلاّ أنّ المحكيّ عنه هو الصورة الأُولى
، وهو عن مثله غريب.
ولو كان الأب ميّتاً أو معسراً فمن مال الرضيع بلا خلاف ولا إشكال في الأول؛ للنصوص:
منها
المرسل كالصحيح: «إنّ
أمير المؤمنين (علیهالسّلام) قضى في رجل توفّى وترك صبيّاً فاسترضع له: أنّ أجر رضاع الصبيّ ممّا يرث من أبيه وأُمّه»
.
وقريب منه
الصحيح: في رجل مات وترك امرأته ومعها منه ولد، فألقته على خادم لها فأرضعته، ثم جاءت تطلب رضاع الغلام من الوصيّ، فقال: «لها أجر مثلها، وليس للوصيّ أن يخرجه من حجرها حتى يدرك ويدفع إليه ماله»
. وربما ظهر من إطلاق العبارة وجوب الأُجرة على الأب ولو مع إعساره.
واستشكله جماعة؛ للأصل، مع عدم كون الولد حينئذٍ ممّن يجب عليه إنفاقه عليه
.
وهو في محلّه، إلاّ أنّ إطلاق الآيتين الموجبتين للأُجرة عليه ربما ينافي ذلك. وكيف كان، فلا ريب أنّه
أحوط إن أمكن باقتراض ونحوه، وإلاّ فلا ريب في سقوطه، بل ولعلّه لا خلاف فيه حينئذ.
ونهاية مدّة الرضاع في الأصل حولان كاملان بلا خلاف؛ بنصّ الآية
والرواية.
ويجوز الاقتصار على أحد وعشرين شهراً عندنا، كما حكاه جماعة من أصحابنا
؛ لظاهر «حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»
فإنّ الغالب في
الحمل تسعة أشهر؛ وللنصوص: أحدها الموثّق: «الرضاع أحد وعشرون شهراً، فما نقص فهو جور على الصبيّ»
. والثاني الخبر: «الفرض في الرضاع أحد وعشرون شهراً، فما نقص عن أحد وعشرين شهراً فقد نقص الموضع، فإن أراد أن يتمّ الرضاعة له فحولين كاملين»
. ونحوهما الثالث المرويّ هو والأول في
الفقيه، مع احتمال صحّة الأخير.
ومقتضاها أنّه لا يجوز أقلّ من ذلك، وهو المشهور بين
الأصحاب، بل كاد أن يكون إجماعاً، بل حكي صريحاً
؛ وهو
حجّة أُخرى في المسألة بعد هذه النصوص المعتبرة، المنجبر قصور أسانيدها على تقديره بالإجماع، ولا أقلّ من
الشهرة العظيمة.
فمناقشة بعض الأجلّة في المسألة
وتجويزه النقص عن المدّة المزبورة أيضاً من غير ضرورة؛ للأصل، وظاهر الآية «فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما»
واهية؛ لتخصيصهما بما مرّ من الأدلّة، مع إجمال الثانية، فتأمّل.
وبنحو ذلك يجاب عن الصحيح: «ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها أكثر من حولين كاملين، فإن أرادا الفصال قبل ذلك عن تراضٍ منهما فحسن»
.
ويجوز الزيادة عن الحولين بشهر أو شهرين لظاهر الصحيحين، الماضي أحدهما الآن، وأظهر منه الثاني: عن الصبيّ، هل يرضع أكثر من سنتين؟ فقال: «عامين» قلت: فإن زاد على سنتين، هل على أبويه من ذلك شيء؟ قال: «لا»
.
ولكن ليس فيهما
التقييد بالشهرين، بل إطلاقهما يشمل الزائد، وهو مقتضى
الأصل، وإليه مال جماعة
.
ولكن المشهور أنّه لا يجوز أكثر من المدّة المزبورة؛ ومستنده غير واضح، إلاّ ما يقال من أنّ به رواية
. وفي الاعتماد على مثلها في تقييد ما مرّ من الأدلّة مناقشة، وإن كان ربما يتوهّم كونها مرسلة مجبوراً ضعفها بالشهرة، وأنّ مثلها ترجّح على الأدلّة الماضية؛ وذلك لأنّ الرجحان بعد وضوح الدلالة، وليس؛ إذ يحتمل التوهّم، لكن مراعاة
الاحتياط مطلوبة بالبديهة.
ولا يلزم الوالد اجرة ما زاد على الحولين من رضاع الولد، مع عدم الضرورة إليه قطعاً ووفاقاً، فتوًى ونصّاً، ومنه الصحيح الماضي قريباً: «ليس للمرأة أن تأخذ في رضاع ولدها» إلى آخره، ونحوهما الخبران
، أحدهما الصحيح أيضاً.
وربما يستفاد من إطلاق هذه
النصوص كالعبارة وكلام الجماعة عموم الحكم لصورة الضرورة.
وتأمَّل فيه جماعة؛ بناءً على أنّ ذلك للولد بمنزلة
النفقة الضروريّة، فيجب على والده الأُجرة
.
وفيه: أنّه اجتهاد في مقابلة إطلاق النصوص المعتبرة، المعتضدة بالأصل والشهرة، بل والاتّفاق، كما يظهر من عبارة بعض الأجلّة
.
لكن ربما يجاب عن النصوص وعبارات الأصحاب بالورود مورد الغالب
. وربما لا يخلو عن مناقشة، إلاّ أنّ الأحوط مراعاة الأُجرة.
والأُمّ أحقّ بإرضاعه إذا تبرّعت أو قنعت بما تطلب غيرها إجماعاً، حكاه جماعة
؛ قيل
: لظاهر الآية «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ»
.
والأجود الاستدلال عليه بالرواية: «المطلّقة الحبلى ينفق عليها حتى تضع حملها، وهي أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة أُخرى؛ يقول
الله عزّ وجلّ «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ»
لا يضارّ الصبي ولا يضار به في رضاعه»
الحديث؛ مع التأيّد بالإشفاق وموافقة اللبن، كما يشعر بها ذيلها.
وربما ظهر منها أنّها لو طلبت زيادة عمّا تقنع غيرها، فللأب نزعه منها واسترضاع غيرها مطلقاً وإن لم تطالب أزيد من اجرة المثل، كما هو الأظهر الأشهر بين الأصحاب؛ لذلك، ولإطلاق قوله سبحانه «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى»
والخبرين:
في أحدهما ويستفاد منه الحكم الأول أيضاً: «إذا طلّق الرجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها، فإذا وضعته أعطاها أجرها، ولا يضارّها إلاّ أن يجد من هو أرخص منها، فإن هي رضيت بذلك الأجر فهي أحقّ بإبنها حتى تفطمه»
.
وفي الثاني: «فإن قالت المرأة لزوجها الذي طلّقها: أنا أرضع إبني بما تجد من يرضعه، فهي أحقّ به»
.
وقيل: بل هي أحقّ مطلقاً إذا لم تطلب أكثر من
أجرة المثل.
ولا ريب في ضعفه، فإن هو إلاّ اجتهاد في مقابلة النصوص المعتبرة بالشهرة، والموافقة لإطلاق ظاهر الآية، السالمة عمّا يصلح للمعارضة من الأدلّة؛ مضافاً إلى أصالة عدم الأحقّية إلاّ ما ساعدت بإخراجه الأدلّة.
رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل، الطباطبائي، السيد علي، ج۱۲، ص۱۴۴-۱۵۳.