ما يتحقق به الإقرار
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
في تحقق الإقرار الإخبار واللفظ الصريح لازم، هنا يأتي ما يتحقق في الإقرار.
اللفظ الصريح (في
الإقرار ) (وهو) ما يتضمّن (إخبار
الإنسان بحق لازم له) ولو كان مثل نعم، في جواب : لي عليك كذا، كما يأتي.
والحقّ يعمّ نحو العين والمنفعة،
واستحقاق الخيار والشفعة. وخرج باللازم للمخبر
الإخبار عمّا ليس له بلازم، فإنّه شهادة الإقرار. والأصل في شرعيّته، ولزوم ما يترتب عليه من حكمه بعد
الإجماع المحقق على الظاهر، المستفيض النقل في كلام جماعة
النصوص المستفيضة التي كادت تكون متواترة، كما صرّح به جماعة.
منها : النبوي العام : «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز».
و «قولوا الحق ولو على أنفسكم» ومع اختلاف في اللفظ.
وبمعناه قوله سبحانه (كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ)
وقريب منها آيات أُخر.
(ولا يختص لفظاً) بل يكفي فيه كلّ لفظ يفيد الإخبار بأيّ لغة كان، بلا خلاف، بل عن التذكرة عليه الإجماع؛
وهو الحجة، مضافاً إلى
اشتراك الجميع في التعبير عما في الضمير المعبّر عنه بالإقرار عرفاً.
والمعتبر فيه الدلالة العرفية دون اللغوية، فتقدّم عليها حيث حصل بينهما معارضة؛ لأنّ الظاهر من حال المقرّ تكلّمه بحسب عرفه إلاّ أن يكون عارفاً باللغة، ووجدت قرينة على
إرادته معناها دون عرفه، فتكون حينئذ عليه مقدمة، ولكنه غير مفروض المسألة.
ويتفرّع على هذا
الأصل أحكام كثيرة منها : ما إذا قال : إن شهد لك عليّ فلان فهو صادق، فالأقرب وفاقاً لأكثر المتأخرين كما في المسالك والكفاية
أنه ليس إقراراً، بناءً على أنّ المفهوم منه عرفاً أنّ هذه
الشهادة ممتنعة الوقوع من الشخص المذكور، لامتناع الكذب عليه بحسب
اعتقاد المتكلم، فالغرض أن ذلك لا يصدر عنه.
ونحو هذا كثير في المحاورات العرفية، سيّما العوام ومن لا معرفة له بمعاني الألفاظ اللغوية، فيقال : إن شهد فلان أني لست من أبي، أو واجب القتل فهو صادق. خلافاً للمبسوط وجماعة،
فجعلوه إقراراً؛ لحجّة معلومة الجواب مما تقدّم إليه
الإشارة ، فلا تخصِّص الأصل المقطوع به الدالّ على براءة الذمة.
وحيث إنّ العرف المرجوع إليه خاصّة على المختار ليس بمنضبط، بل يختلف
باختلاف المواضع والأحوال، وجب أن يجعل النظر إلى القرائن والخصوصيّات الواقعة في كلّ مقام هو الضابط والمعيار.
فلو كان اللفظ صريحاً في التصديق، لكن انضمّ إليه قرائن تصرفه إلى
الاستهزاء بالتكذيب، كطريقة
أداء اللفظ، وتحريك الرأس الدالّ على
الإنكار ، كما إذا ادّعى عليه أحد أنّه أقرضه مالاً، فقال : صدقت، على سبيل الاستهزاء، أو قال : لي عليك ألف، فقال : بل أُلوف، لم يكن إقراراً. وحكي التصريح بذلك عن التذكرة،
وتبعه جماعة.
ولو قال : لك عليّ كذا إن شهد به فلان، أو إن شئتُ، أو إن شئتَ، أو إن قدم زيد، أو إن رضي فلان، أو نحو ذلك مما يدلّ على التعليق وعدم التنجيز لا يكون إقراراً، بلا خلاف بل عليه في الأول
الاتّفاق في المسالك؛
وهو الحجة فيه. مضافاً إلى الأصل، وأنّ وقوع المعلّق مشروط بوجود المعلّق عليه، وهو مناف لمقتضى الخبر اللازم في الإقرار في الجميع.
ثم الألفاظ التي يقع بها الإقرار صريحاً على أنواع :
منها : ما يفيد الإقرار بالدين كذلك، ك «في ذمّتي». ومنها : ما يفيده ظاهراً، ك «عليّ». ومنها : ما يفيد الإقرار بالعين صريحاً، ك «في يدي كذا». ومنها : ما يفيده ظاهراً، ك «عندي». ومنها : ما هو صالح لهما. وتظهر الفائدة فيما لو ادّعى خلاف مدلول اللفظ، فإنّه لا يقبل، صريحاً كان أو ظاهراً، ويقبل في الإقرار المجمل ما يحتمله حقيقة.
(وتقوم الإشارة) المفهمة (مقامه) فيكتفي بها عنه مطلقاً. قيل : لأنّ المقصود التعبير عمّا في الضمير ويحصل بها . وعن بعض المتأخرين
اشتراط التعذر في الاكتفاء ؛ ولعلّه للشك في تسمية مثلها إقراراً وإن عبّرت عما في الضمير، ومناط الحكم في الأدلة هو دون التعبير، ولا تلازم بينهما، فلا يخصّص بها الأصل.
وهذا التوجيه إن أفاد المنع عنها مطلقاً، إلاّ أنّ
الاكتفاء بها حالة الضرورة، مستنداً إلى
الإجماع ، والأولوية الناشئة من ثبوت الاكتفاء بها حالتها في العقود سيّما التزويج القابلة للتوكيل، فلو لم يوجب التوكيل فيها مع الضرورة واكتفى فيها بالإشارة معها، لزم الاكتفاء بها في المقام الغير القابل للتوكيل على المختار بطريق أولى، لاندفاع الحاجة بالتوكيل وإن لم يجب ثمة، دون الإقرار،
لانحصار وجه اندفاعها فيه في الإشارة.
(ولو قال : لي عليك كذا، فقال : نعم أو أجل، فهو إقرار) بلا خلاف فيهما ولا
إشكال إذا كان المقرّ عارفاً بترادف اللفظين؛ لكونهما كلمة تصديق إذا كان قول عليك خبراً، أو
إثبات إذا كان استفهاماً. ويشكل في الأخير على المختار من تقديم العرف على اللغة، إذالم يكن عارفاً بالترادف وكون أجل بمعنى نعم، كما يتفق لكثير من أهل هذه الأزمنة.
ونحو اللفظتين : صدقت، أو بررت، أو قلت حقاً أو صدقاً، أو بلى في جواب من قال : لي عليك كذا، مخبراً، بلا إشكال حتى في الأخير، بناءً فيه على المختار من جعل العرف هو المعيار؛ لفهمه منه التصديق، وإن وضع في اللغة
لإبطال النفي فلا يجب بها الإثبات.
(وكذا لو قال : أليس لي عليك كذا؟ فقال : بلى) كان إقراراً؛ لأنها بمقتضى الوضع المتقدم يتضمن نفي النفي الذي هو إقرار، وهو وإن اختصّ باللغة كما مرّ إليه الإشارة، إلاّ أنّ العرف وافقها في هذه الصورة. وعلى التنزّل فمخالفته لها فيها غير معلومة، فيؤخذ بها عملاً
بالاستصحاب السالم فيها عن المعارض بالكلية.
(ولو قال) بعد القول المذكور : (نعم، قال الشيخ
لا يكون إقراراً) لوضعها في اللغة لتقرير ما سبق من السؤال، فإذا كان نفياً اقتضت تقرير النفي، فيكون في المثال إنكاراً.
(وفيه) عند الماتن (تردّد) ينشأ من ذلك، ومن استعمالها بعد النفي بمعنى بلى عرفاً استعمالاً شائعاً، فليتقدّم على مفادها لغة كما مضى، مضافاً إلى ما حكي عن جماعة
من التصريح بورودها لغةً كذلك. واختار هذا الشهيد في الدروس،
والسيد في شرح الكتاب.
ولا ريب فيه إن ثبت كون استعمال العرف بعنوان الحقيقة. ولكنه محل مناقشة؛ إذ مجرد
الاستعمال ولو كان شائعاً لا يقتضيها بلا شبهة، فإنّه أعم من الحقيقة، سيّما إذا وجد للفظه معنى حقيقي آخر لغة.
ومنه يظهر الجواب عما ذكره الجماعة من ورودها بنهج الاستعمال الشائع العرفي في اللغة.
ثم على تقدير تسليم ثبوت الحقيقة بذلك لم يثبت الإقرار بها أيضاً؛ لاحتمال
الاشتراك . ودفعه غير ممكن إلاّ على تقدير ثبوت كون هذه الحقيقة غالبة على الحقيقة الأُخرى اللغوية تكون في جنبها مهجورة. وهو محلّ مناقشة، كيف لا؟ ونحن في عويل في ثبوت أصل الحقيقة، فكيف يتأتّى لنا دعوى ثبوت الغلبة التي هي المناط في ثبوت الإقرار بها؛ إذ لولاها لكان اللفظة من قبيل الألفاظ المشتركة التي لا تحمل على أحد معانيها إلاّ بقرينة صارفة.
وبالجملة، فهذا القول ضعيف غايته، كما في التنقيح
من التفصيل بين كون المقرّ عارفاً باللغة فالأوّل، وإلاّ فالثاني، لعدم وضوح وجه له ولا حجّة. فإذاً المصير إلى قول الشيخ لا يخلو عن قوّة؛ عملاً بأصالتي براءة الذمة، وبقاء الحقيقة اللغوية.
(ولو قال) بعد قول لي عليك كذا : (أنا مقِرّ، لم يلزمه) الإقرار به؛ لعدم مذكورية المقرّ به، فيجوز تقديره بما يطابق الدعوى وغيره، ولا دلالة للعام على الخاص، فيرجع حينئذ إلى الأصل (إلاّ أن يقول به) أي في «الأصل» و «ر» : أو. بدعواك فيلزمه، لأصالة عود الضمير إلى الكلام. خلافاً للدروس،
فلم يجعله إقراراً أيضاً؛ إذ غايته
الإقرار بالدعوى، وهو أعمّ من الإقرار بها للمدّعي ولغيره.
ويضعف بتبادر الأوّل فيؤخذ به. بل لا يبعد حصول الإقرار بالأول أيضاً، وفاقاً لمحتمل الفاضل المقداد
والسيّد في شرحهما على الكتاب؛ لأنّ وقوعه عقيب الدعوى يقتضي صرفه إليها، عملاً بالقرينة، والتفاتاً إلى قوله سبحانه (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا).
وأنّه لو جاز تعلّقه بغير الدعوى لزم حمله على
الهذر ، فإنّ من ادّعي عليه بدين، فقال : أنا مقرّ بكون السماء فوقنا والأرض تحتنا، عدّ هذراً، ودفعه عن كلام العاقل مقصود شرعاً.
وبالجملة، فالمرجع في حصول الإقرار إلى فهم المعنى من اللفظ عرفاً، وربما اختلف باختلاف حال المتكلم وكونه من أهل
التورية وعدمه. (ولو قال) بعد القول المتقدم : (بعنيه أو هبنيه فهو إقرار) بعدم ملك المقرّ، لأنه طلب شراءه أو اتّهابه.
وهل يكون إقراراً للمخاطب بالملكية؟ فيه وجهان : أجودهما نعم؛ عملاً بالظاهر
المتبادر الناشئ من أنّ الأغلب في البائع والواهب كونه هو المالك دون الوكيل، فإنّه نادر. وبه يظهر ضعف وجه احتمال العدم. وكيف كان، فهو إقرار له باليد قولاً واحداً. فإن ادّعاه ولم يوجد له منازع حكم له به.ولو قال : اشترِ مني أو اتّهب، فقال : نعم، كان إقراراً، ويجري فيه الوجهان في كونه إقراراً بالملك أم مطلق اليد.
(ولو قال : لي عليك كذا، فقال : اتّزن أو انتقد) أو شدّ هميانك، لم يكن شيئاً ولا يعدّ إقراراً. (وكذا لو قال : اتّزنها أو انتقدها) ونحوهما من الألفاظ المستعملة في التهكم
والاستهزاء . والوجه فيه واضح، كما مضى.
(أمّا لو قال : أجّلتني بها أو قضيتكها، فقد أقرّ وانقلب مدّعياً) على ما قطع به الأصحاب كما في شرح السيد والكفاية،
بل فيهما عن ظاهر التذكرة
أنّ عليه إجماع العلماء كافّة؛ لدلالته التزاماً على ثبوتها في ذمّته، وادّعاء
التأجيل أو القبض يحتاج إلى بيّنة.
رياض المسائل، ج۱۳، ص۱۱۹-۱۲۶.