وظيفة الجاهل بالاستطاعة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
لو وصل مال المكلّف إلى حدّ الاستطاعة وكان جاهلًا أو غافلًا عن ذلك ثمّ تذكّر بعد تلفه، فهل استقرّ الحجّ عليه أم لا؟ في المسألة أقوال ثلاثة:
ما اختاره بعض الفقهاء من استقرار الحجّ عليه؛ لحصول الاستطاعة في الواقع وهي الشرط في ثبوت التكليف، والعلم شرط في التنجّز لا في أصل التكليف، وعدم التمكّن من جهة الجهل أو الغفلة لا ينافي الوجوب الواقعي. نعم، هو معذور في ترك ما وجب عليه، ولمّا كان استقرار الحجّ تابعاً للوجوب الواقعي وعدم
الإتيان بالحجّ، فيحكم بثبوت الاستقرار في كلتا الحالتين.
وعلّق على ذلك بعضهم بأنّه إذا كان التلف بلا تقصير فلا بدّ من فرض تحقّق التلف بعد مضيّ الموسم؛ لأنّ التلف قبله كاشف عن عدم الاستطاعة، وإذا كان بتقصير فلا بدّ من تعميمه لما إذا كان قبل خروج الرفقة أيضاً.
ما حكاه السيّد اليزدي عن
المحقّق القمّي من عدم الاستقرار؛ نظراً إلى أنّه ما دام كونه جاهلًا أو غافلًا لا يكون التكليف متوجّهاً إليه، وبعد ارتفاعهما لا يكون عنده ما يكفيه للحجّ على الفرض، فلم يكن الحجّ مستقرّاً عليه.
قال السيّد الحكيم: «وكأنّ الوجه الذي دعا القمّي إلى نفي الاستطاعة ما تضمّن من النصوص، من أنّ من ترك الحجّ ولم يكن له شغل يعذره اللَّه به فقد ترك فريضةً من فرائض الإسلام، ممّا يدلّ على أنّ وجود العذر نافٍ للاستطاعة».
ثمّ أورد عليه قائلًا: «وفيه: أنّ المفهوم من النصوص العذر الواقعي الذي لا يشمل قصور المكلّف من جهة غلطه وجهله و
اشتباهه ، بل يختصّ بالأمر الواقعي الذي يكون معلوماً تارةً ومجهولًا اخرى».
ما ذهب إليه السيّد الخوئي من التفصيل بين ما إذا كانت الغفلة مستندة إلى تقصير منه كترك التعلّم، وبين ما إذا كانت غير مستندة إليه ككثرة
الاشتغال و
الابتلاء ، فعلى الأوّل يستقرّ عليه الحجّ دون الثاني، وكذا في الجهل بين ما إذا كان بسيطاً فيستقرّ، وبين ما إذا كان مركّباً فلا. ودليل ذلك، أمّا التفصيل في الغفلة فلأنّ مقتضى حديث الرفع في غير «ما لا يعلمون» هو الرفع الواقعي، ومرجعه إلى التخصيص في الأدلّة الأوّلية وعدم ثبوت الحكم في حقّه واقعاً، وعليه ففي فرض الغفلة لا يجب عليه الحجّ؛ لعدم ثبوته في حقّه، وبعد رفعها لا مال له بالفعل حتى يجب عليه الحجّ غاية الأمر
اختصاص الحديث بما إذا كانت الغفلة غير مستندة إلى التقصير، وأمّا مع
استنادها إليه فلا مخصّص في مقابل الأدلّة الأوّلية، فالحجّ واجب عليه ومستقرّ.
وأمّا التفصيل في الجاهل فلأنّ الجاهل بالجهل البسيط وإن لم يجب عليه الحجّ بمقتضى حديث الرفع إلّا أنّ هذا الحكم حكم ظاهري لا ينافي وجوب الحجّ عليه واقعاً، فإذا انكشف الخلاف يجب عليه الإتيان بالحجّ لاستقراره عليه؛ لأنّ العلم بالاستطاعة لم يؤخذ في الموضوع وإنّما الموضوع وجود ما يحجّ به واقعاً، والجاهل بالجهل البسيط يتمكّن من إتيان الحجّ ولو احتياطاً، وأمّا الجاهل بالجهل المركّب فلا يتوجّه إليه التكليف واقعاً؛ لعدم تمكّنه من
الامتثال ولو على نحو
الاحتياط ، والأحكام وإن كانت مشتركة بين العالم والجاهل ولكن بالجهل البسيط الذي يتمكّن معه من الامتثال، لا الجهل المركّب والجزم بالعدم الذي لا يتمكّن معه من الامتثال أبداً فهو كالغفلة.
واورد عليه بأنّ هذا التفصيل مبتنٍ على القول
بانحلال الأحكام واختصاص كلّ مكلّف بخطاب خاصّ ولكن هذه النظرية غير تامّة، والصحيح أنّ الخطابات العامّة المتضمّنة للتكاليف والأحكام بنحو العموم لا تنحلّ إلى خطابات متكثّرة حسب تكثّر أفراد المكلّفين وتعدّد آحادهم، بل إنّما هي خطاب واحد متضمّن لحكم عامّ وتكليف كلّي ومقتضاه ثبوت المقتضى
بالإضافة إلى الجميع، غاية الأمر كون بعض الامور عذراً بالنسبة إلى المخالفة وموجباً لعدم ترتّب
استحقاق العقوبة على عدم الامتثال فيها كالعجز والجهل والغفلة في الجملة، ولا ملازمة بين كونها عذراً وبين عدم ثبوت التكليف الذي يتضمّنه الخطاب العامّ، فقوله تعالى: «وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»
يدلّ على ثبوت هذا التكليف وتحقّق هذا الدين في جميع موارد تحقّق الاستطاعة الواقعية.
وعليه فالتكليف ثابت بنحو العموم، فإذا انكشف للجاهل أنّه مستطيع وللغافل أنّه كان قد وجب عليه الحجّ ولم يأت به بعدُ، فاللازم الحكم بالاستقرار ولزوم الإتيان به ولو بنحو التسكّع، ولا فرق من هذه الجهة بين فرضي الغفلة، وكذا فرضي الجهل وإن كان بينهما فرق أحياناً من جهة المعذورية وعدمها، وعليه لا مجال لدعوى خروج الجاهل بالجهل المركّب عن الأحكام المشتركة بين العالم والجاهل.
الموسوعة الفقهية، ج۱۱، ص۵۲۲-۵۲۴.