أحكام منى بعد العود من مكة
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
اعلم أن الحاج إذا قضى مناسكه بمكة شرّفها الله تعالى من
طواف الزيارة والسعي و
طوائف النساء (يجب) عليه (العود للمبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر) مطلقاً، والثالث عشر على تفصيل سيذكر إن شاء الله تعالى.
(القول في أحكام منى بعد العود) من مكة إليها : اعلم أن الحاج إذا قضى مناسكه بمكة شرّفها الله تعالى من
طواف الزيارة والسعي و
طوائف النساء (يجب) عليه (العود للمبيت بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر) مطلقاً، والثالث عشر على تفصيل سيذكر إن شاء الله تعالى، بإجماعنا، ووافقنا عليه أكثر من خالفنا كما عن المنتهى؛
وهو الحجّة، مضافاً إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة التي كادت تبلغ التواتر، بل لعلّها متواترة.
وعن الشيخ في
التبيان القول باستحبابه.
وهو شاذّ.
قيل : ولا ينافيه ما في بعض الكتب من جعله من السنّة، أو حصر واجبات الحج في غيره، أو الحكم بأنه إذا طاف للنساء تمّت مناسكه أو حجه؛ لجواز خروجه عنه وإن وجب، ونصّ الحلبي على كونه من مناسكه، ولذا اتفقوا على وجوب
الفداء على من أخلّ به.
ويجب النية كما في الدروس، وفي اللمعة الجليّة يستحب، فينوي كما في الفخرية أنه أبيت هذه الليلة بمنى لحج التمتع
حج الإسلام مثلاً لوجوبه قربة إلى الله تعالى،
فإن أُخلّ بالنية عمداً أثم، وفي الفدية وجهان كما في المسالك.
أقول : ونفى فيه البعد عن العدم.
ولا بأس به؛ للأصل، وعدم معلومية شمول إطلاق ما دلّ على لزوم الفدية بترك المبيت لمثله، لانصرافه بحكم التبادر إلى الترك الحقيقي، لا الحكمي.
(ولو بات بغيرها) ليلة (كان عليه) دم شاة، أو لليلتين فـ (شاتان) إجماعاً، كما في صريح
الغنية والخلاف وغيرهما،
وظاهر المنتهى وغيره؛
وللصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة.
ففي الصحيح : «من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم».
وفيه عن أبي الحسن عليه السلام: «سألني بعضهم عن رجل بات ليلة من ليالي منى بمكة، فقلت : لا أدري» قال صفوان : فقلت له : جعلت فداك، ما تقول فيها؟ قال : «عليه دم إذا بات».
وفيه : عن رجل بات مكة ليالي منى حتى أصبح، فقال : «إن كان أتاها نهاراً فبات حتى أصبح فعليه دم يهريقه».
وفيه : «لا تبت ليالي التشريق إلاّ بمنى، فإن بتّ في غيرها فعليك دم».
و
الاستدلال بهذين إنما هو لأن إطلاقهما يفيد شاة لليلة فلليلتين شاتان، كذا قيل،
ولا يخلو عن إشكال.
نعم لا بأس به، جمعاً بينهما وبين الأخبار المتقدمة الصريح بعضها في وجوب الدم بترك المبيت ليلةً؛ مضافاً إلى الإجماعات المنقولة، وصراحة الرواية الآتية بثلاثة لثلاث،
وظاهر غيرهما ممّا سيأتي إليه
الإشارة .
فلا إشكال في المسألة وإن حكي التعبير بأنّ من بات ليالي منى بغيرها وما بلفظ الجمع عن المقنعة والهداية و
المراسم والكافي وجعل العلم والعمل؛ لما قيل من احتماله الوفاق لما عليه الأصحاب وإن احتمل الخلاف، أمّا بالتسوية بين ليلة وليلتين وثلاث، أو بأن لا يجب الدم إلاّ لثلاث، لإجماله واحتماله كلاًّ من الاحتمالات على السواء، بل قيل : الأول أظهرها.
====حكم الجاهل والمضطر والناسي====
وإطلاق النصوص والفتاوي يشمل الجاهل والمضطر والناسي، فيكون جبراناً، لا كفارة. خلافاً للمحكي عن الشهيد في بعض الحواشي، فاستثنى الجاهل.
ووجهه غير واضح. وفي الصحيح : عن رجل فاتته ليلة من ليالي منى، قال : «ليس عليه شيء وقد أساء».
وهو يحتمل الجهل، والليلة الثالثة، وما في التهذيبين من الخروج بعد انتصاف الليل، أو
الاشتغال بالطاعة في مكة.
وفي آخر : فاتتني ليلة المبيت بمعنى في شغل، فقال : «لا بأس».
وهو يحتمل ما فيهما، والنسيان، و
الصرورة ، والليلة الثالثة.
ويحتملان أيضاً الحمل على
التقية ، كما ربما يفهم من الصحيحة المتقدمة المروية عن أبي الحسن عليه السلام، وقيل : إنه مذهب أبي حنيفة.
أو على أن يكون غلبه عينه بمكة أو في الطريق بعد ما خرج منها إلى منى، كالمروي في
قرب الإسناد : في رجل أفاض إلى المبيت، فغلبته عيناه حتى أصبح، قال : «لا بأس عليه، ويستغفر الله تعالى، ولا يعود».
وهو ضعيف.
نعم، هنا أخبار صحيحة بجواز النوم في الطريق اختياراً :
منها : «من زار فنام في الطريق فإن بات بمكة فعليه دم، وإن خرج منها فليس عليه شيء وإن أصبح دون منى».
ومنها : «إذا زار الحاج من منى فخرج من مكة فجاوز بيوت مكة فنام ثم أصبح قبل أن يأتي منى فلا شيء عليه».
ومنها : «إذا جاز عقبة المدنيّين فلا بأس أن ينام».
قيل : وبه أفتى
الإسكافي والشيخ في التهذيبين.
أقول : ولا يخلو عن قوة إن لم ينعقد
الإجماع على خلافه؛ لوضوح دلالتها، مضافاً إلى صحتها وكثرتها وموافقتها
الأصل ، مع عدم وضوح معارض لها إلاّ إطلاق بعض الصحاح المتقدمة، ويقبل التقييد بها، والخبر : عن رجل زار البيت فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ثم رجع، فغلبته عينه في الطريق فنام حتى أصبح، قال : «عليه شاة».
وفي سنده ضعف، ويحتمل تقييد الطريق فيه بطريق في حدود مكة لا خارجها. ولا بُعد فيه، سيّما بعد ملاحظة الصحيحة الأُولى المتقدمة في صدر المسألة.
هذا، ولكن الأحوط ما عليه الأصحاب.
والحكم بوجوب الدم لترك المبيت مطلق (إلاّ أن يبيت بمكة متشاغلاً بالعبادة) فلا يجب على الأظهر الأشهر، بل عليه عامة من تأخر؛ للصحيحين،
في أحدهما : عن رجل زار البيت فلم يزل في طوافه ودعائه والسعي و
الدعاء حتى طلع الفجر، فقال : «ليس عليه شيء، كان في طاعة الله عزّ وجلّ». وهو يفيد العموم لكل عبادة واجبة أو مندوبة. ومورده
استيعاب الليل بها، فينبغي الاقتصار فيما خالف الأصل الدالّ على لزوم الدم بترك المبيت عليه. نعم، يستثنى منه ما يضطر إليه من غذاء وشراب كما ذكره الشهيدان،
ولكن زادا : ونوم يغلب عليه. وفيه نظر؛ إذ ليس في الخبر ما يرشد إليه، بل ولا إلى الأولين، وإنما استثنيا حملاً لإطلاق النص على الغالب، وليس في الخبر ما يخالف في النوم، لظهوره في عدمه. قيل : ويحتمل أن القدر الواجب هو ما كان يجب عليه بمنى، وهو أن يتجاوز نصف الليل.
وهو ضعيف. نعم، له المضي إلى منى؛ لإطلاق الصحاح المتقدمة في النوم في الطريق، وبل ظهورها فيه، بل تظافرت الصحاح بالأمر به :
منها : «إذا خرجت من منى قبل غروب الشمس فلا تصبح إلاّ بمنى».
ومنها : «إذا زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر
الصبح إلاّ وهو بمنى».
ومنها : «إن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت بمنى، إلاّ أن يكون شغلك نسكك، أو قد خرجت من مكة».
إلى غير ذلك من الصحيح وغيره.
وخالف الحلّي في أصل
الاستثناء ، فاستظهر أن عليه الدم وإن بات بمكة مشتغلاً بالعبادة؛ عملاً بالعمومات، والتفاتاً إلى أن الصحيح من الآحاد.
وهو مع وهو أصله شاذّ.
(ولو كان ممن يجب عليه المبيت) في (الليالي الثلاث) مطلقاً وترك المبيت بها أجمع (لزمه ثلاث شياه) لكل ليلة شاة إجماعاً كما في الغنية؛
لإطلاق بعض الروايات المتقدمة؛ مضافاً إلى رواية أُخرى ضعف سندها بالشهرة منجبر : عمن بات ليالي منى بمكة، قال : «ثلاثة من الغنم يذبحهن».
والمراد بمن يجب عليه المبيت في الليالي الثلاث هو : من لم يتّق في إحرامه الصيد والنساء، أو موجبات الكفارة، أو مطلق المحرّمات، على
اختلاف الأقوال الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى. فإن قلنا بالأخيرين كان على من أخلّ بالمبيت في الثلاث ثلاث من الشياه كما في
النهاية والسرائر
وإن اتّقى عن سائر المحرّمات، وإلاّ فشاتان كما عن المبسوط والجواهر.
(وحدّ المبيت) بها أي القدر الواجب منه (أن يكون بها ليلاً حتى يتجاوز نصف الليل) فله الخروج منها بعد
الانتصاف ولو إلى مكة شرّفها الله تعالى؛ للمعتبرة المستفيضة :
ففي الصحيح : «فإن خرجت أول الليل فلا ينتصف الليل إلاّ وأنت في منى، إلاّ أن يكون شغلك نسكك أو قد خرجت من مكة، وإن خرجت بعد نصد الليل فلا يضرّك أن تصبح في غيرها».
وفيه : «إن زار بالنهار أو عشاءً فلا ينفجر الصبح إلاّ وهو بمنى، وإن زار بعد نصف الليل أو السحر فلا بأس عليه أن ينفجر الصبح وهو بمكة».
وفي الخبر : «فإن خرج من منى بعد نصف الليل لم يضرّه شيء».
وفي آخر : «إذا خرج الرجل من منى أول الليل فلا ينتصف له الليل إلاّ وهو بمنى، وإذا خرج بعد نصف الليل فلا بأس أن يصبح بغيرها».
ويستفاد منه ومن الصحيح الثاني تساوي نصفي الليل في تحصيل
الامتثال ، كما عن الحلبي،
إلاّ أن ظاهر الأصحاب انحصاره في النصف الأول فأوجبوا عليه الكون بها قبل الغروب إلى النصف الثاني، وصريح شيخنا في المسالك والروضة
ذلك، وزاد فأوجب مقارنة النية لأول الليل.
فإن تمّ إجماعاً، وإلاّ فاستفادة ذلك من الأخبار بعدم ضم بعضها إلى بعض مشكل؛ ولذا صرح سبطه بأن أقصى ما يستفاد منها ترتب الدم على مبيت الليالي المذكورة في غير منى بحيث يكون خارجاً عنها من أول الليل إلى آخره.
وهو حسن وإن كان ما ذكره شيخنا في
المسالك أحوط أخذاً بالمتيقن.
====المبيت إلى الفجر====
والكون بها إلى الفجر أفضل كما في النهاية والسرائر،
وعن
المبسوط والكافي والجامع؛
للصحيح : عن الدُّلجة إلى مكة أيام منى هو يريد أن يزور، قال : «لا حتى ينشق الفجر، كراهية أن يبيت الرجل بغير منى»
-الدلجة هو سير الليل يقال أدلج بالتخفيف إذا سار من أول الليل . -
ويستفاد منه كراهية الخروج كما عن ابن حمزة،
وعن المختلف إن خبر الجازي وأشار به إلى ما قدّمناه من الخبر الثالث بعد الصحيحين ينفيها وإن كان الأفضل المبيت بها إلى الفجر.
وفيه نظر؛ فإن الموجود فيه نفي الضرر، وهو يجامع الكراهة، فإنها ليست بضرر قطعاً.
ثم إن ظاهر جملة من الأخبار المتقدمة وصريح بعضها ما قدّمنا : من جواز الخروج بعد الانتصاف ولو إلى مكة شرّفها الله تعالى، وعليه الأكثر.
====عدم دخول مكة حتى يطلع الفجر====
(وقيل : لا يدخل مكة حتى يطلع الفجر) والقائل الشيخ في النهاية والحلّي في
السرائر ،
وحكي أيضاً عن المبسوط والوسيلة والجامع،
وفي الدروس : إنه لم يقف على مأخذه.
قيل : ولعلّهم استندوا إلى ما مرّ من الأخبار الناطقة بأن الخارج من مكة ليلاً إلى منى يجوز له النوم في الطريق إذا جاز بيوت مكة؛ لدلالتها على أن الطريق في حكم منى، فيجوز أن يريد والفضل، لما مرّ من أن الأفضل الكون إلى الفجر، والوجوب، اقتصاراً على اليقين، وهو جواز الخروج من منى بعد الانتصاف لا من حكمه.
وهو كما ترى مع ضعفه كما لا يخفى اجتهاد في مقابلة النص الصحيح المتقدم، المعتضد زيادةً على الأصل والإطلاقات بصريح الخبر المروي عن قرب الإسناد، ففيه : «وإن كان خرج من منى بعد نصف الليل فأصبح بمكة فليس عليه شيء».
وضعف السند ينجبر بفتوى الأكثر، فما اختاروه أقوى وإن كان ما قاله الشيخ أحوط.
واعلم أنه يجوز لذوي الأعذار - ترك - المبيت حيث يضطرون إليه؛ إذ لا حرج في الدين. وفي وجوب الدم نظر، من التردد في كونه كفارةً أو جبراناً، وظاهر الغنية العدم،
كما هو مقتضى الأصل. قيل : ومنه الرعاة و
أهل السقاية، فروى العامة ترخيصهم، ونفى عنه الخلاف في الخلاف والمنتهى، وخصّص مالك وأبو حنيفة الرخصة للسقاية بأولاد عباس. وفي
التذكرة والمنتهى : إنه قيل للرعاة ترك المبيت ما لم تغرب الشمس عليهم بمنى، فإن غربت وجب عليهم، بخلاف السقاة، لاختصاص شغل الرعاة بالنهار، بخلاف السقاية، وأفتى بهذا الفرق في
التحرير والدروس. وهو حسن. وفي الخلاف : وأما من له مريض يخاف عليه، أو مال يخاف ضياعه فعندنا يجوز له ذلك؛ لقوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
و
إلزام المبيت والحال ما وصفناه حرج، وللشافعي فيه وجهان.
ونحوه المنتهى، وهو فتوى التحرير والدروس، ومقرَّب التذكرة. وفي الدروس : وكذا لو منع من المبيت منعاً خاصاً أو عاما كنفر الحجيج ليلاً، قال : ولا إثم في هذه المواضع، وتسقط الفدية عن أهل السقاية والراعاة، وفي سقوطها عن الباقين نظر. قلت : وجّه الفرق بعض العامة بأن شغل الأوّلين ينفع الحجيج عامة، وشغل الباقين يخصّهم.
•
رمي الجمار، ويجب أن يرمي كل يوم من
أيام التشريق الجمار الثلاث كل جمرة بسبع حصيات.
مكة أيام منى بعد فراغه من
زيارة البيت فيطوف بالبيت تطوعاً، فقال : «المقام بمنى أفضل وأحبّ إلىّ».
ولا يجب؛ للأصل، ونحو الصحيحين
: «لا بأس أن يأتي الرجل مكة فيطوف في أيام منى ولا يبيت بها». وفي الموثق : رجل زار فقضى طواف حجه كلّه، أيطوف بالبيت أحبّ إليك أم يمضي على وجهه إلى منى؟ فقال : «أيّ ذلك شاء فعل ما لم يَبِت».
رياض المسائل، ج۷، ص۱۳۹- ۱۵۲.