لعان الأخرس
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
إذا قذف الزوج زوجته بالزنا أو نفى عنها المولود على فراشه ثبت حكم
اللعان بينهما، والمشهور عدم الفرق بين كون الزوج صحيحاً أو أخرس إذا كانت له
إشارة مفهومة. وعبارات أكثر الفقهاء تصرّح بأنّ
الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة فإنّه بمنزلة الناطق في سائر الأحكام فيصحّ قذفه ولعانه.قال الشيخ في
المبسوط : «وأمّا الأخرس الذي له إشارة معقولة أو كناية مفهومة فإنّه بمنزلة الناطق في سائر الأحكام، فيصحّ قذفه ولعانه
ونكاحه وطلاقه وسائر عقوده، وقال قوم: لا يصحّ قذفه ولا لعانه، وأمّا
طلاقه ونكاحه ويمينه وعقوده فإنّها تصحّ، فمتى حكمنا بأنّه يصحّ لعانه وقذفه فمتى قذف ولاعن ثمّ انطلق لسانه فقال: ما كنت لاعنت، قُبل رجوعه فيما عليه، ولا يقبل فيما له».
وقال العلّامة في
الإرشاد : «ويصحّ من الأخرس بالإشارة المعقولة، ولو انقطع كلامه بعد القذف لاعن بالإشارة وإن رجى عود نطقه».
وقال
المحقّق النجفي : «ولو قذف ولاعن بالإشارة ثمّ عاد نطقه وقال: لم أرد اللعان بإشارتي، قُبل قوله فيما عليه من لحوق النسب به وثبوت الحدّ دون ما له من الحرمة المؤبّدة، ولكن له أن يلاعن في الحال
لإسقاط الحد ولنفي النسب إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حكم النفي،ولو قال: لم أرِد القذف أصلًا، لم يقبل قوله».
والوجه في كلّ ذلك ما تقدّم من عدم تقوّم اللعان باللفظ بل بالمعنى والقصد مع ثبوت دالّ نوعي عامّ أو خاصّ على القصد، وهو في الأخرس إشارته على القاعدة، مضافاً إلى بعض الأدلّة الأخرى المتقدّمة في تصرّفات الأخرس.هذا كلّه في طرف الزوج الملاعن، وأمّا الزوجة فقد اشترط فقهاؤنا فيها ألّا تكون خرساء، فإنّ حكم اللعان لا يثبت بينهما، بل يحدّ الزوج حدّ
القذف وتحرم الزوجة عليه أبداً من دون لعان.
قال
السيد المرتضى : «ممّا انفردت
الإماميّة به أنّ من قذف امرأته وهي خرساء أو صمّاء لا تسمع شيئاً فرّق بينهما، واقيم عليه الحدّ، ولم تحلّ له أبداً، ولا لعان بينهما....دليلنا على صحّة ما ذهبنا إليه
الإجماع المتردّد. وإنّما وجبت الفرقة والحدّ على الزوج إذا قذف زوجته وهي خرساء؛ لأنّ الذي يسقط الحدّ عن الزوج اللعان، والملاعنة للخرساء لا تصحّ».
وقال الشيخ الطوسي: «إذا قذف امرأته بما يجب فيه
الملاعنة وكانت خرساء أو صمّاء لا تسمع شيئاً فرّق بينهما، وجُلد الحدّ إن قامت عليه بيّنة، وإن لم تقم به بيّنة لم يكن عليه حدّ، ولم تحلّ له أبداً، ولم يثبت أيضاً بينهما لعان».
وقال
ابن سعيد : «فإن قذف زوجته الصمّاء أو الخرساء بموجب اللعان فلا لعان، وحدّ لهما، وحرمتا عليه أبداً».
ومن هنا جاء في كلمات الفقهاء أنّ من شروط تحقّق اللعان سلامة الزوجة عن الصمم والخرس.قال
السيد الطباطبائي في شرط السلامة من الصمم والخرس: «ولو قذفها مع أحدهما بما يوجب اللعان من رميها بالزنا مع دعوى المشاهدة وعدم البيّنة حرمت عليه مؤبّداً من دون لعان، بلا خلاف ولا إشكال في قذفها مع الأمرين أو الثاني، وكذا الأوّل على الأقوى، بل عليه الإجماع في كلام جماعة من أصحابنا».
واستدلّ له بالإجماع والنصوص، منها:
ما رواه
أبو بصير قال: سئل
أبو عبد اللَّه عليه السلام عن رجل قذف امرأته بالزنا وهي خرساء صمّاء لا تسمع ما قال؟ قال: «إن كان لها بيّنة فشهدت عند
الإمام جُلد الحدّ وفرّق بينها وبينه ثمّ لا تحلّ له أبداً، وإن لم يكن لها بيّنة فهي حرام عليه ما أقام معها، ولا
إثم عليها منه».
وقد وقع البحث بين الفقهاء عن اشتراط الخرس والصمم في الملاعنة معاً أو اشتراط أحدهما فقط.
كما وقع بينهم البحث أيضاً عن كون
انتفاء الملاعنة عنها مختصّ بقذفها بالزنا فقط، أو يشمل نفي ما ولدته على فراشه أيضاً.
وقد عمّم
الصدوق الحكم للأصمّ إذا قذفته زوجته أيضاً؛
لمرسل
ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في امرأة قذفت زوجها وهو أصمّ، قال:«يفرّق بينها وبينه، ولا تحلّ له أبداً».
لكنّ مشهور الفقهاء لم يُفتِ بموجبه.
كما أنّ بعض الفقهاء نفوا ثبوت حكم الملاعنة أيضاً بقذف الزوج الأخرس زوجته السليمة أو توقّفوا فيه لتعذّر النطق بالشهادات منه، وعدم صدق القاذف عليه، مضافاً إلى التعليل الوارد في ذيل خبر......
إسماعيل بن أبي زياد وسليمان بن جعفر البصري عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام: «أنّ
عليّاً عليه السلام قال: ليس بين خمس من النساء وأزواجهنّ ملاعنة:اليهوديّة تكون تحت المسلم فيقذفها، والنصرانيّة، والأمة تكون تحت الحرّ فيقذفها، والحرّة تكون تحت العبد فيقذفها، والمجلود في الفرية؛ لأنّ الله يقول: «وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً»،
والخرساء ليس بينها وبين زوجها لعان، إنّما اللعان باللسان»،
إلّا أن المشهور خلافه، قال ابن إدريس الحلّي : «ولا أقدم على أنّ الأخرس المذكور يصحّ لعانه؛ لأنّ أحداً من أصحابنا غير من ذكرناه (الشيخ الطوسي) لم يوردها في كتابه، ولا وقفت على خبر بذلك، ولا إجماع عليه، والقائل بهذا غير معلوم، فأمّا الآية التي استشهد شيخنا بها فالتمسّك بها بعيد؛ لأنّه لا خلاف أنّه غير قاذف، ولا رامٍ على الحقيقة، فالنطق منه بالشهادات في حال اللعان متعذّر،
والأصل براءة الذمّة، واللعان حكم شرعي يحتاج في
إثباته إلى دليل شرعي.وأيضاً لو رجع عن اللعان عند من جوّزه له وجب عليه الحدّ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات»، ومن المعلوم أنّ في إيمائه وإشارته بالقذف شبهة أنّه هل أراد به القذف أو غيره؟ وذلك غير معلوم يقيناً كالناطق به بلا خلاف، وإن قلنا: يصحّ منه اللعان كان قويّاً معتمداً؛ لأنّه يصحّ منه
الإقرار والايمان وأداء الشهادات وغير ذلك من الأحكام».
وقال العلّامة الحلّي بعد نقله كلام الشيخ وابن إدريس: «وهذا يدلّ على
اضطرابه وتردّده في هذه المسألة، ولو أنّه التزم بالتوقّف كما حكم أوّلًا كان أجود، فإنّ الفرق بين الإقرار وأداء الشهادة وبين اللعان ظاهر؛ لاشتراط خصوصيّة اللفظ هنا دون الإقرار وأداء الشهادة؛ إذ القصد فيها المعنى بأيّ عبارة كان». لكنّ ما ذكراه ناقش فيه كلّ من جاء بعدهما وردّوه.
قال الشهيد الثاني : «ما استند (ابن إدريس) إليه من عدم العلم بإشارته في القذف والشهادة خلاف الفرض. ودعوى
الاتّفاق على أنّه غير قاذف ولا رامٍ فاسدة؛ إذ القذف مرجعه إلى الرمي، فإنّ معناه لغةً الرمي وهو غير مختصّ بلفظ، بل ربّما دلّ على الرمي بالزنا في معرض التعبير.نعم، يمكن أن يفرّق بين الإقرار وغيره من العقود والمعاملات من الأخرس وبين اللعان من حيث انّه يتعيّن فيه تأدّيه بلفظ الشهادة واللعن والغضب، والإشارات لا ترشد إلى تفصيل الصيغ وإن أدّت معناها، وإنّما يتوجّه أن يصحّ منه ما لا يختصّ بصيغة، فلا يمنع
إقامة الإشارة منه مقام العبارة المؤدّية له دون ما يختصّ. وما يظهر من اختصاص النكاح والبيع ونحوهما من العقود اللازمة بصيغ خاصّة، فليس المقصود منها إلّا ما دلّ على المطلوب صريحاً؛ إذ لا نصّ على
الاختصاص ، فإذا أفادت إشارة الأخرس ذلك كفت.ويمكن الجواب بأنّه قد علم من الشارع
الاكتفاء بإشارته فيما علم منه إرادة صيغة خاصّة كتكبيرة الإحرام في الصلاة وقراءة الفاتحة ونحوهما من الأذكار المعيّنة فليكن هنا كذلك، إلّا أنّ الفرق بين الأمرين لائح.وبالجملة: فالقول بوقوع اللعان من الأخرس هو المذهب وإن كان الشكّ فيه منقدحاً».
وقال أيضاً : «ويصحّ لعان الأخرس بالإشارة المعقولة إن أمكن معرفة اللعان كما يصحّ منه إقامة الشهادة والايمان والإقرار وغيرها من الأحكام، ولعموم الآية.وقيل بالمنع والفرق؛ لأنّه مشروط بالألفاظ الخاصّة دون الإقرار والشهادة، فإنّهما يقعان بأي عبارة اتفقت، ولأصالة عدم ثبوته إلّا مع تيقّنه، وهو منتفٍ هنا.وأجيب: بأنّ الألفاظ الخاصّة إنّما تعتبر مع
الإمكان ، وإشارته قائمة مقامها كما قامت في الطلاق وغيره من الأحكام المعتبرة بالألفاظ الخاصّة. نعم،
استبعاد فهمه له موجّه، لكنّه غير مانع؛ لأنّ الحكم مبنيّ عليه».
ثمّ إنّه حيث يجب في اللعان تكرار الزوج للشهادة باللَّه أنّه لمن الصادقين فإنّه يجب تكرار الإشارة بالشهادة من الأخرس الملاعن أيضاً بمقتضى الآية المباركة والروايات الدالّة على لزوم التكرار فيها؛ لأنّ شهادة الأخرس تكون بذلك شرعاً، بل عرفاً وحقيقة أيضاً كما تقدّم.إلّا أنّ المحقّق النجفي ذكر في المقام ما لفظه: «ولو كان يحسن الكتابة وقلنا:إنّها من جملة إشارته فليكتب حينئذٍ كلمة
الشهادة وكلمة اللعن والغضب ويشير إليها أربع مرّات، ولا يكلّف أن يكتب أربع مرّات».
الموسوعة الفقهية، ج۷، ص۴۶۴-۴۶۸.