الإبراء في الدين والضمان
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
ولتفصيل أكثر انظر
الإبراء (توضيح)
وهو إجتماع دين وضمان لدين آخر.
قد يجتمع دين
وضمان لدين آخر فهنا صور عديدة للإبراء يختلف حكم السريان فيها باختلافها:
۱- إذا كان لشخص دين على شخصين- كما إذا كان له على أحدهما ألف مثلًا، وكان له على الآخر أيضاً ألف أو أقلّ أو أكثر- وضمن كل من المدينين دين الآخر، وأبرأ الدائن أحدهما معيّناً، كما إذا
أبرأ الأوّل مثلًا ممّا عليه برأت ذمّته ممّا ضمنه وهو دين الثاني، ولا يبرأ الثاني ممّا ضمنه وهو دين الأوّل، كما صرّح بذلك جمع من الفقهاء
كالشيخ الطوسي والمحقق الحلّي ،
والمحدّث البحراني والمحقّق النجفي ،
فيجب على الثاني أن يدفع إلى الدائن ما ضمنه، وهو دين الأوّل.
هذا بناءً على ما هو مختار فقهائنا في عقد الضمان من أنّه نقل للذمة، وأمّا بناءً على كونه ضم الذمّة إلى الذمّة فذمّة كل منهما مشغولة بدينين أحدها بالأصل والآخر بضمان دين الآخر، فلا بدّ للدائن من تعيين ما يبرأه منهما.
۲- وإذا دفع الثاني في مفروض المسألة ما ضمنه إلى الدائن، فهل يجوز له الرجوع على الأوّل بما أدّاه أم لا؟
فيه وجهان:
أنّه ليس له ذلك؛ لحصول التهاتر القهري بين المدينين بمجرّد ضمان كل منهما دين الآخر؛ فإنّ ضمان كل منهما دين الآخر يجعل كلًا منهما مديناً للآخر، فيتهاتر الدينان، وتفرغ ذمّة كلّ منهما تجاه الآخر، فلا مبرّر لرجوع الثاني على الأوّل بشيء.
وقد ذكر المحقّق النجفي هذا الوجه وناقشه قائلًا: «لكنه كما ترى بعيد عن مذاق الفقه».
أنّه يجوز له الرجوع عليه بما أدّاه إلى الدائن؛ لعدم حصول التهاتر القهري بينهما بمجرّد الضمان؛ لأنّ ضمان كل منهما دين الآخر وإن جعل كلًا منهما مديناً للآخر باعتبار أنّ الضمان سبب لاشتغال ذمّة المضمون عنه للضامن، لكن الظاهر كون هذا الاشتغال مراعى ومعلّقاً على أداء كلّ منهما ما ضمنه إلى الدائن، فإن أدّى كل منهما ما ضمنه إلى الدائن كشف ذلك عن كون كل منهما مديناً للآخر بما ضمنه عنه وأدّاه وعند ذلك يحصل التهاتر بينهما قهراً، وإن لم يؤدّيا ما ضمناه إلى الدائن، بسبب إبراء الدائن إيّاهما أو بسبب آخر، أو لم يؤدّ أحدهما ما ضمنه إلى الدائن، بسبب
إبراء الدائن إيّاه أو بسبب آخر، كشف ذلك عن عدم صيرورة كل منهما مديناً للآخر، وبالتالي فلا يحصل التهاتر، وحيث إنّ في مفروض المسألة لم يدفع الأوّل ما ضمنه- وهو دين الثاني- إلى الدائن، وذلك بسبب إبراء الدائن إيّاه فهذا يكشف عن عدم صيرورة الثاني مديناً للأوّل بما ضمنه، وبما أنّ الثاني قد أدّى ما ضمنه- وهو دين الأوّل- إلى الدائن كما هو المفروض فهذا يكشف عن صيرورة الأوّل مديناً للثاني بما ضمنه، فيجوز للثاني الرجوع عليه بما أدّاه.
وكذا الحال لو لم نقل إنّ الضمان وحده سبب لاشتغال ذمّة المضمون عنه للضامن بل قلنا: إنّ السبب في اشتغالها مجموع الضمان والأداء إلى الدائن المضمون له، فإنّ النتيجة تكون أيضاً في مفروض المسألة جواز الرجوع؛ لعدم حصول التهاتر القهري بنفس البيان المتقدّم آنفاً.
وقد ذكر
المحقّق النجفي هذا الوجه أيضاً ولم يناقشه،
ثمّ قال: «فتأمّل جيّداً، فإنّ المسألة غير محرّرة في كلامهم».
وحاصل كلامه: أنّه لا تهاتر فيما بين المضمون عنه والضامن، إمّا لأنّ اشتغال ذمّة المضمون عنه لا يكون إلّا بعد أداء الضامن، فقبله لا تكون ذمّة أحدهما مشغولة للآخر أصلًا، بل ذمتهما معاً مشغولة للدائن فحسب، وإمّا لأنّ اشتغال ذمّة المضمون عنه مراعى بأداء الضامن بحيث لو لم يؤدّ بسبب
الإبراء ونحوه كشف ذلك عن عدم اشتغال ذمّة المضمون عنه من أوّل الأمر، فلا يتحقق موضوع للتهاتر إلّا في صورة أداء كلا الضامنين.
نعم، لو قلنا بأنّ ذمّة المضمون عنه تشتغل للضامن بمجرد الضمان، وإنّما إبراء الدائن للضامن يوجب سقوط ذمّة المضمون عنه للضامن أيضاً، فيتصور عندئذٍ حصول التهاتر بين المضمون عنه والضامن قبل الإبراء والأخذ؛ لأنّ كلًاّ منهما بحسب الفرض قد ضمن دين الآخر فاشتغلت ذمتيهما للآخر بنفس المبلغ، فحصل التهاتر فيما بينهما مع بقاء اشتغال ذمّتيهما للدائن فقط، والمفروض أنّه قد أبرأ أحدهما وأخذ من الآخر. وهذا هو الذي قال عنه: إنّه كما ترى بعيد عن مذاق الفقه.
والتحقيق: أنّه ليس بعيداً عن مذاق الفقه فحسب بل غير صحيح لا مبنى ولا بناءً.
أمّا مبنى فلما ذكره من عدم اشتغال ذمّة المضمون عنه للضامن إلّا بعد الأداء، لا بمجرد
الضمان .
وأمّا بناءً فلأنّا لو افترضنا اشتغال ذمّة المضمون عنه للضامن بمجرد الضمان مع ذلك لا يصح ما ذكره؛ لأنّه لا تهاتر في المقام، لأنّ المضمون عنه لا تشتغل ذمّته للضامن بمبلغ الضمان مطلقاً، بل تشتغل ذمّته له بما يضمنه للدائن، أي ضامن لما يضمنه بما هو مضمون للدائن، فما دام الضمان للدائن باقياً يكون المضمون عنه ضامناً للضامن ضمانه للدائن ومشغول الذمّة به، فلا يمكن أن يحصل تهاتر ولو كان مبلغ الضمانين واحداً، فلا فرق بين المباني الثلاثة في النتيجة، وهو رجوع الضامن الذي أدّى إلى الآخر الذي أبرأه المالك.
إذا اجتمع دينان على شخص وكان أصيلًا في أحدهما وضامناً في الآخر- كما إذا كان هناك مدينان ضمن كل منهما دين الآخر، لكن الدائن رضي بضمان أحدهما فقط دون الآخر، فاجتمع الدينان على المدين الذي رضي الدائن بضمانه، وكما إذا كان هناك مدينان ضمن الأوّل دين الثاني دون العكس، فاجتمع الدينان على الأوّل- وأبرأه الدائن فهنا فروض:
أن يُبرئه من الكلّ أي من كلا الدينين، كما إذا كان مجموع الدينين ألفاً- مثلًا- وأبرأه من الألف، والحكم فيه واضح بلا خلاف ولا إشكال، وهو فراغ ذمّته من كل ما كان عليه، وعدم جواز رجوعه على المدين الآخر المضمون عنه، ولم نعثر على من تعرّض لهذا الفرض من الفقهاء، ولعلّه لوضوحه.
أن يُبرئه من البعض مع تعيين ذاك البعض في قصده، كما إذا أبرأه- في المثال- من الدين الثابت عليه بالأصل أو من بعضه كمائة منه أو من الدين الثابت عليه بالضمان أو من بعضه أو من بعض من كلّ منهما كمائة من كلّ منهما، والحكم هنا أيضاً واضح بلا خلاف ولا إشكال، وهو فراغ ذمّته من ذلك البعض المعيّن دون غيره.
وحينئذٍ فإن كان ذلك البعض هو الدين الثابت عليه بالأصل أو بعضه بقي غيره في ذمته، وجاز له الرجوع على المدين الآخر المضمون عنه بما أدّاه إلى الدائن.
وإن كان ذلك البعض هو الدين الثابت عليه بالضمان بقي الآخر في ذمّته، ولم يجز له الرجوع على المضمون عنه.
وإن كان بعضاً منه بقي باقيه والدين الآخر في ذمّته وجاز له الرجوع على المضمون عنه بما أدّاه.
وإن كان ذلك البعض من كلّ من الدينين بقي الباقي من كلّ منهما في ذمّته وجاز له الرجوع على المضمون عنه بما أدّاه.
وقد صرّح بالحكم في هذا الفرض جمع من الفقهاء كالعلّامة بقوله: «وينصرف
الإبراء إلى ما قصده
المبرِئ »
والمحقّق النجفي بقوله: «لو أبرأ تعيّن ما قصده».
أن يبرئه من البعض مع
الإطلاق أي بدون التعيين في القصد، كما إذا أبرأه- في المثال- من خمسمائة مثلًا بدون أن يقصد أنّها من الدين الأصلي أو من مال الضمان أو منهما معاً، والحكم في هذا الفرض ذو وجوه وأقوال:
التقسيط، أي توزيع المقدار المبرأ منه على الدينين على نسبة قدرهما، أي بحسب نسبة كل منهما إلى مجموع الدينين، فلو كانت نسبة أحد الدينين إلى المجموع الثلث مثلًا ونسبة الآخر إليه الثلثان كان ثُلث المقدار المبرأ منه محسوباً من الدين الأوّل، وثلثاه من الثاني.
وقد اختار هذا الوجه
العلّامة الحلّي ،
وولده
فخر المحقّقين والمحقق الكركي والمحقّق النجفي
والسيّد اليزدي ،
وكثير ممّن علّق على
العروة من فقهائنا المتأخرين.
والدليل على ذلك يمكن أن يكون أحد أمرين:
۱- تطبيق قاعدة العدل والانصاف المدّعى عرفيتها وعقلانيتها في أمثال المقام، وقد أمضاها الشارع في بعض الموارد كدرهم الودعي المردّد بين مالكين.
ويمكن أن يناقش هذا الوجه بأنّه لا دليل على القاعدة بهذه الكلية، على أنّه لو فرض دليل عليها فموضوعها الموضوع والمال الخارجي المشتبه والمردد بين شخصين لا المقام التي تكون
الشبهة ،
والشك فيه حكمياً لا بدّ وأن يرجع فيه إلى ما تقتضيه القاعدة، وهو غير التقسيط على ما سيأتي بيانه الفنّي.
۲- تعيّن التقسيط قهراً بعد امتناع الصور والمحتملات الاخرى؛ فإنّها بدواً عديدة لا يصح منها إلّا فرض التقسيط والتوزيع:
أن ينصرف
الإبراء في هذا الفرض إلى كل من الدينين بنحو الشمول بحيث يشمل هذا كله وذاك كله، فيكون ابراءً عن الكلّ. وهذا مستحيل بعد افتراض أنّه إبراء عن البعض.
أن لا ينصرف إلى شيء من الدينين. وهو أيضاً مستحيل بعد افتراض أنّه
إسقاط عن بعض ما عليه من الدين فكيف لا يسقط عنه شيء؟!
أن ينصرف إلى أحد الدينين معيّناً. وهو ترجيح بلا مرجح؛ إذ ليس أحدهما أولى من الآخر في الإبراء، فإنّ نسبة الإبراء إليهما على حدّ واحد.
أن ينصرف إلى ما يعيّنه
المبرِئ نفسه ويقصده الآن بعد الإبراء، فهو المرجع في التعيين، وذلك لامتناع وقوع الإبراء بدون القصد، وحيث لم يتحقق القصد حين الإبراء كما هو المفروض، فلا بدّ من تحقّقه بعده.
وهذا الاحتمال أيضاً ساقط؛ لأنّ الإبراء يعني
الإسقاط ، فمنذ تحقق
الإبراء لا بدّ وأن يكون المقدار
المبرَأ منه قد سقط عن المدين المبرأ، فلا معنى لافتراض عدم سقوط شيء عنه إلى أن يعيّنه بعد ذلك.
التقسيط وتوزيع المبرأ منه على الدينين بالنحو الذي ذكرناه.
وهذا هو المتعيّن بعد سقوط الاحتمالات السابقة.
وقد ناقش
السيد الحكيم هذا الدليل بما مضمونه: إنّ التقسيط ليس هو المتعيّن، بل هو أيضاً محتاج إلى مرجّح، فالبناء عليه وتقديمه على غيره ترجيح بلا مرجّح كالبناء على انصراف الإبراء إلى أحد الدينين معيّناً، فليس البناء على التقسيط بسبب عدم المرجح أولى من البناء على عدم التقسيط بسبب عدم المرجّح، والنكتة في ذلك هي أنّ كل واحد من الدينين الدين الأصلي ومال
الضمان - متعيّن في نفسه، بدليل أنّه لو عيّنه في الإبراء وقصده بخصوصه وقال: أبرأتك من الدين الأصلي، أو من مال الضمان تعيّن وكان هو الساقط دون الآخر، وإذا كان كل منهما متعيّناً في نفسه كان محتاجاً إلى تعيينه وقصده في الإبراء؛ لأنّ الإبراء قصدي، فانصراف الإبراء إلى الدين الأصلي متوقّف على قصده وملاحظته بخصوصه، وانصراف الإبراء إلى مال الضمان متوقّف على قصده وملاحظته بخصوصه، وانصرافه إليهما معاً بنحو التقسيط والتوزيع بالشكل المتقدم متوقّف أيضاً على قصد ذلك وملاحظته. فمع عدم قصده وملاحظته لا يصار إليه، نظير ما إذا كان على المكلّف
صومان واجبان كلّ منهما متعيّن في نفسه أحدهما كفّارة والآخر قضاء، فصام يوماً ولم يعيّن فإنّه يبطل ولا يصح
للقضاء ولا
للكفّارة ، وكذلك في مسألتنا لا يحصل
الإبراء القصدي إلّا بقصد أحد المتعيّنين أو قصدهما بنحو التقسيط.
ومن هنا لم يقبل جملة من المعلّقين على العروة هذا القول
كالسيد الخوئي والسيّد
الإمام الخميني وغيرهم.
التعيين من خلال القرعة، فيصرف
المبرأ منه إلى الدين الذي تخرج القرعة باسمه.
وقد ذكر هذا الوجه بنحو الاحتمال
المحقّق النجفي ،
والسيّد اليزدي ،
والسيّد الإمام الخميني قائلًا: «بل احتمال القرعة أقرب (من الوجه الأوّل، وهو التقسيط)».
واستند المحقّق النجفي فيه إلى ما دلّ على أنّ القرعة لكلّ أمر مشتبه، بناءً على شموله للمشتبه في الواقع أيضاً، فيشمل مفروض المسألة.
وناقشه السيد الحكيم بما مضمونه: إنّ احتمال القرعة هنا كاحتمالها في من كانت عنده زوجتان أو زوجات وقال: زوجتي طالق.. ولم ينو واحدة منهما، فتعيّن المطلّقة من خلال القرعة، وهو احتمال ضعيف في المقيس- أي مسألتنا هذه- والمقيس عليه- أي مسألة
الطلاق - إذ لا دليل على القرعة في كلتا المسألتين؛ لأنّ موضوع القرعة هو المشكل أو المشتبه، ولا يوجد إشكال ولا اشتباه في شيء من المسألتين بعد قيام الأدلّة على بطلان الطلاق هناك والإبراء هنا.
وعلّق جملة من المعلّقين على
العروة أيضاً بأنّ احتمال الرجوع إلى القرعة ضعيف، وعلّله بعضهم بانتفاء موضوعه؛ إمّا لتعيّن أحد الاحتمالات الاخرى بحسب مقتضى القاعدة فلا شبهة في البين، أو لأنّ ظاهر أدلّة القرعة أنّ موضوعها الموضوع المشتبه والمردد الخارجي لا الشبهة الحكمية كما في المقام.
التعيين من خلال الرجوع إلى الدائن
المبرِئ نفسه، فيكون هو الذي يعيّن الآن أنّ
المبرأ منه هل هو الدين الأصلي أو هو مال
الضمان أو هو منهما معاً بنحو التقسيط بأيّ شكل شاءه وأراده.
وقد ذكر هذا الوجه بنحو الاحتمال
المحقق الكركي وناقشه، وذكره بنحو الاحتمال أيضاً السيّد اليزدي،
واختاره
السيد الحكيم وأفاد ما حاصله: إنّ هذا هو المتعيّن الذي تقتضيه الأدلّة، فيبقى كلّ من الدينين في ذمّة المدين إلى أن يعيّن المبرِئ مراده ومقصوده؛ لأنّ الإبراء قصدي، وكلّ واحد من الدينين متعيّن في نفسه، فيحتاج إلى تعيينه بالقصد.
وهذا القول لم يرتضه جملة من الفقهاء المعلّقين على العروة؛ لأنّه خلاف مقتضى القاعدة من كفاية أصل
الإبراء أو الأداء لمبلغ من الدين في سقوطه على ما يأتي في القول الرابع.
انصرافه إلى الدين الأصلي وانطباقه عليه قهراً، فتبقى ذمته مشغولة بالدين الثابت عليه بسبب الضمان، ومتى أدّاه عن المضمون عنه جاز له الرجوع عليه به.
وقد اختار هذا القول جملة من الأعلام المعلّقين على العروة الوثقى معلّلين ذلك بأنّ الإبراء أو الأداء لمبلغ من الدين حيث كان بعنوان الجامع من غير قصد الخصوصية فيقع قهراً ممّا لا خصوصية فيه، وهو دينه الأصلي؛ لكفاية ذلك في سقوطه.
وأمّا الضمان أو
الرهان لأحد الدينين لو كان فهو دين ذو خصوصية يكون سقوطه بحاجة إلى تعيّنه إمّا بالقصد من المالك حين الإبراء أو من المدين حين الأداء، أو بكونه متعيّناً بنفسه كما إذا لم يبق في ذمته إلّا الدين المضمون أو المرهون عليه.
فإذا لم يكن تعيّن ولا تعيين كان الإبراء أو الأداء منطبقاً قهراً على ما لا خصوصية فيه من الدينين فيسقط على القاعدة ويبقى الدين ذو الخصوصية على حاله، فلا يمكن ترتيب
آثار سقوطه من فكّ الرهن أو الرجوع إلى المضمون عنه أو غير ذلك من الآثار.
وإليك جملة من تعليقاتهم وما فيها من
الاختلاف في كيفية الاستدلال على هذا القول:
قال
المحقق ضياء الدين العراقي : «في التقسيط نظر بعد اعتبار العقلاء سقوط أحد الدينين بلا عنوان.
نعم، لا يسقط أثره من الرهن؛ لأنّه تابع شخص الدين المرهون عليه معيناً وهو بعد باقٍ بحكم
الاستصحاب ؛ لأنّ انتفاء أحدهما بلا عنوان لا بدّ وأن يكون في ضمن انتفاء احدى الخصوصيتين قهراً، وحيث لا يكون معلوماً فيرجع فيه إلى الاستصحاب».
وقال
السيد البروجردي : «ويحتمل قوياً انصرافه قهراً إلى ما لا
أثر لأدائه سوى براءة ذمته من الدين من فكّ رهن أو سقوط خيار أو رجوع إلى الغير بعوض».
وقال
السيد الخوئي : «بل الظاهر أنّه يقع وفاءً لما في ذمته أصلًا، فلا يجوز له الرجوع على المضمون عنه ما لم يقصد وفاء ما وجب عليه من قبله. والوجه في ذلك أنّ الرجوع عليه من آثار أداء ما ثبت في ذمته من قبله، فما لم يقصد بخصوصه لا يترتب أثره. وبذلك يظهر حال نظائر المسألة».
وقال السيد
الإمام الخميني : «محل تأمّل، بل احتمال القرعة أقرب، وأقرب منه عدم جواز الرجوع إلى المضمون عنه إلّا مع العلم بالأداء لما عليه ضماناً.
وكذا نظائر المسألة، فلا يفكّ الرهان إلّا مع العلم بافتكاكه بأداء الدين الذي له رهن. وكذا الحال في
الإبراء ».
ثمّ إنّ هذا البحث لا يختص
بالضمان الحاصل من عقد الضمان، بل يتصور أيضاً في ضمان اليد إذا اجتمع مع الدين، كما إذا أصبح المدين ضامناً للدائن مالًا آخر بضمان اليد بنحو يحق له الرجوع على اليد السابقة إذا استوفاه منه الدائن، فإذا أبرأه بما يمكن أن ينطبق على أحد الدينين بلا تعيين كان تطبيقاً آخر لهذا البحث، وجرى فيه كل ما تقدم.
بضمان اليد بنحو يحق له الرجوع على اليد السابقة إذا استوفاه منه الدائن، فإذا أبرأه بما يمكن أن ينطبق على أحد الدينين بلا تعيين كان تطبيقاً آخر لهذا البحث، وجرى فيه كل ما تقدم.
إذا أبرأ الدائن الضامن من تمام الدين لا يجوز للضامن الرجوع على المضمون عنه ومطالبته بشيء، وإذا أبرأه من بعضه لا يجوز الرجوع عليه إلّا بالمقدار الذي أدّاه إلى الدائن فقط.
وقد صرّح بذلك جمع كثير من الفقهاء حيث قالوا: إنّ الضامن بعد الأداء إلى المضمون له إنّما يجوز له الرجوع على المضمون عنه ومطالبته بأقلّ الأمرين: المبلغ الذي ضمنه والقدر الذي أدّاه إلى الدائن، بل عبّر عنه
العلّامة الحلّي ب «المشهور».
ونسبه
المحقّق السبزواري إلى الأصحاب،
ولم نعثر على مخالف في المسألة حيث صرح العلماء في أقوالهم:
قال
المحقق الحلي : «إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه إلّا بما أدّاه»، وقال
ابن سعيد الحلّي : «فإن أبرأ المضمون له
الضامن أو صالحه على بعض الدين برأ ولم يرجع على الأصل إلّا بما غرم»، وقال العلّامة: «ثمّ الضامن إن تبرّع... وإلّا رجع بالأقلّ من الحق وما أدّاه وإن ابرئ، ولو ابرئ من الجميع فلا رجوع»، وقال
المحقق الكركي في شرحه: «أمّا إذا كان الحق أقلّ فلأنّ الواجب أداؤه من غير زيادة، فالزيادة تبرّع، وأمّا إذا كان ما أدّاه أقلّ من الحق فلأن الضامن إنّما يرجع بعد الأداء، فلا يرجع بما لم يؤدّه، ولا فرق- في عدم رجوعه بزيادة الحق عمّا أدّى- بين أن يكون قد ابرئ من الزيادة... وعدمه»، ونحوه عبارة
الشهيد الأوّل وكذا عبارة
الشهيد الثاني ، وممّن صرّح بالحكم أيضاً
المقدّس الأردبيلي ، والمحقّق السبزواري
والمحدّث البحراني والسيّد علي الطباطبائي والمحقق النجفي حيث قال: «إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال أو أبرأه من بعضه لم يرجع على المضمون عنه المفروض اذنه بالضمان إلّا بما أدّاه؛ لما عرفت سابقاً من أنّه ليس له إلّا ذلك نصّاً وفتوى، بل هو مشروط بما إذا لم يزد عن الحق، وإلّا رجع بالحق خاصّة، فالضابط حينئذٍ الرجوع بأقلّ الأمرين ممّا أدّاه ومن الحقّ في كل موضع له الرجوع»، وصرّح السيّد اليزدي أيضاً بالحكم حيث قال: «ويتفرّع على ما ذكروه: أنّ المضمون له لو أبرأ ذمّة الضامن عن تمام الدين ليس له الرجوع على المضمون عنه أصلًا، وإن أبرأه من البعض ليس له الرجوع بمقداره»، وكذلك صرّح به
السيد الحكيم والسيد الخوئي ، هذا، وقد يظهر من
ابن الجنيد الخلاف حيث استدل في
الصلح على الأقلّ أنّ الثابت في ذمّة الضامن قدر المال، ودفع الأقل عطيّة من المضمون له للضامن، فلا يسقط كما قد يظهر من السبزواري عدم اطمئنانه بالحكم حيث قال: «(هكذا) عند الأصحاب، ولم أطلع على نصّ يدل عليه إلّا في الصلح».
وعلى كلّ حال فأصل المسألة هو أنّ
الضمان إذا كان باذن المضمون عنه جاز للضامن الرجوع عليه بعد أداء مال الضمان وبمقدار ما أدّى، أمّا إذا لم يحصل الأداء ولم يخسر الضامن نتيجة لضمانه شيئاً فلا يحق له الرجوع على المضمون عنه، فالمقياس هو الأداء والخسارة لا أصل الضمان.
وهذا الحكم لا يختص بإبراء الضامن بعقد الضمان، بل يجري في كل ضامن يحق له الرجوع إلى غيره إذا وفاه للمضمون له، سواء كان ذلك من جهة الضمان العقدي أو ضمان اليد في مورد تعاقب الأيادي أو الضمان بسبب التغرير وجواز رجوع الضامن إلى من غرّه- كما في المشتري الفضولي الجاهل بالفضولية فيرجع فيما يخسره للمالك على البائع- أم بسبب الشهادة عليه والحكم عليه من قبل الحاكم ثمّ رجوع الشاهد أو ظهور كذبه أو غير ذلك، فإنّه في جميع هذه الموارد إذا أبرأ من له الحق الضامن ممّا عليه فلا يجوز له الرجوع على المضمون عنه أو المسبّب للضمان؛ لأنّ حقّ الرجوع عليه فرع تحقق التغريم والخسران، ومع
الإبراء لا خسران في البين ولا تغريم بالنسبة إليه، فلا موضوع للرجوع.
وقد صرّح بذلك الفقهاء في غضون الأبحاث والفروع الفقهية المتنوعة المرتبطة بهذه المسألة، وقد تقدم بعضها.
الموسوعة الفقهية، ج۲، ص۳۹۶-۴۰۷.