الاجتماع في الحدود والقصاص
احفظ هذه المقالة بتنسيق PDF
تعرّض
الفقهاء في باب الحدود لمسألة الترتيب في الحدود المجتمعة على شخص واحد، فقد يتفق أحياناً أن يجتمع
الجلد و
الرجم عليه، أو تجتمع عليه عدّة حدود مختلفة، والمشهور عندهم أنّه إذا اجتمع على المكلّف حدّ وتعزير، أو حدّان فصاعداً، وأمكن الجمع بحيث لا ينافي
إجراء أحدها
إقامة الباقي فلا محالة يجمع بينها، كما لو زنى غير المحصن وقذف وسرق، وقد ذهب البعض إلى تخيير المستوفي في تقديم أيّ واحدٍ منها.
وفصّل البعض الآخر، فقال بالتخيير في البدأة بأحدها لو كانت الحدود كلّها حقّ
الله تعالى، أمّا لو كان أحدها حق للناس فذهب إلى تقديم
حقّ الناس - لو طالب به- على
حقّ اللَّه تعالى في المقام، وكذا فيما لو كان موجب الأمرين الفوات.
وأمّا مع عدم
إمكان الجمع بينها بحيث لو قدّم أحد الحدّين مثلًا على الآخر ينتفي موضوع الآخر دون العكس، فهنا لا بد من تقديم ما أمكن معه إجراء الباقي، كما لو اجتمع حدّ
السرقة والجلد في
الزنا لغير المحصن والرجم أو القتل لزنا المحصن أو الزنا بالمحارم، فإنّه لو قدّم الرجم أو القتل لم يبق موضوع ومورد للقطع والجلد، ولذلك يجب تقديم الجلد وحدّ السرقة (القطع) ثمّ الرجم أو القتل، والبدأة بما لا يفوت معه الباقي، بلا خلاف عندهم.
وقد استدلّ على الترتيب أوّلًا: بحكم العقل في موارد وجود تكليفين وإمكان الجمع بينهما بوجوب
الإتيان بكل واحد منهما، وعدم تجويزه
إزالة التكليف الالهي
بإعدام موضوعه.
وثانياً: بالروايات المستفيضة عن
أهل البيت عليهم السلام الدالّة على الترتيب، منها:
صحيحة
زرارة عن
أبي جعفر عليه السلام قال: «أيّما رجل اجتمعت عليه حدود فيها القتل، فإنّه يبدأ بالحدود التي هي دون القتل ثمّ يقتل»،
وعن سماعة عن
أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: «قضى
أمير المؤمنين عليه السلام فيمن قتل وشرب خمراً وسرق، فأقام عليه الحدّ، فجلده لشربه الخمر، وقطع يده في سرقته، وقتله بقتله»
وغيرهما.
ثمّ إنّه قد يقع البحث في المقام في أنّ هذه الأوامر في تلك النصوص هل هي مولوية، بحيث لو خولف الترتيب فيها وقدّم القتل لما وقع الحدّ أصلًا ويترتب عليها الضمان، أو أنّها
إرشادية ترشد إلى ما يحكم به العقل من لزوم مراعاة كلا التكليفين مع الإمكان
؟
وأيضاً على القول بالترتيب فهل يترك المحدود بعد جلده حتى يبرأ من جلده ثمّ يقتل أو لا ينتظر فيه ذلك
؟
ونفس الكلام الذي تقدّم يرد في موارد اجتماع حدود مع قصاص، من أنّ المتفق بين الفقهاء هو البدء بما لا يفوت معه الآخر، ولا يسقط ما دون القتل
باستحقاق القتل.
وفي
اجتماع أكثر من قصاص واحد على شخص، كما لو قتل الشخص الواحد جماعة على التعاقب، فيثبت لولي كل مقتول منهم القود، بلا خلاف ولا إشكال، ويتعلّق حقّ الجميع بالجاني، فإن اجتمع أولياء المقتولين على
المطالبة وباشروا في قتله أو وكّلوا من يقتله عنهم جميعاً فقد استوفوا حقوقهم، بلا خلاف فيه بيننا. وإن لم يجتمعوا على المطالبة، فهل الحق للسابق، أو لمن تخرجه القرعة، أو يكون لكل واحد منهم المبادرة إلى قتله؟
ذكر
المحقق النجفي فيها أنّ الأقوى هو الوجه الأخير، فلو اقتص المتأخّر حينئذٍ بلا قرعة، لم يكن عليه
إساءة ولا
تعزير ، بخلافه على الوجهين الأولين.
ولو قطع طرفاً من رجل ثمّ قتل رجلًا آخر، فهنا يجتمع عليه قصاصان: أحدهما في الطرف، والثاني في النفس، فيقطع أوّلًا ثمّ يقتل جمعاً بين الحقين، وهو المتفق عليه بينهم، بلا فرق سواء تقدم من الجاني القتل أو القطع.
وهناك فروع اخرى تذكر في محلّها من الموسوعة.
ممّا لا خلاف فيه بين فقهائنا أنّه ينبغي للإمام ومن قام مقامه أن يُعلم الناس إذا أراد أن يقيم الحدّ على أحد، ليجتمعوا عنده، وقد حكم بعض الفقهاء بوجوب اجتماع طائفة من الناس لإقامة الحدّ،
تمسّكاً بظاهر
الأمر في الآية الكريمة: «وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
وحكم بعض آخر
بالاستحباب فيه.
وقد وقع البحث أيضاً في مقدار الطائفة وأقلّها، وتعدّدت أقوال الفقهاء في ذلك، فهناك من اكتفى بالشخص الواحد،
وبعض بالاثنين، وثالث قال بأنّ أقلّها ثلاثة،
وعن
الشيخ الطوسي أنّ أقلّها عشرة،
وقد أحاله بعض إلى
العرف ، ولا ريب في اقتضائه الثلاثة فصاعداً. وتمام الكلام في ذلك في محلّه.
الموسوعة الفقهية، ج۵، ص۱۷۲-۱۷۴.